طلب التوبة

أيها العبد اطلب التوبة من الله فى كل وقت، فإن الله تعالى قد ندبك إليها، وأمرك بها، فقال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

والتوبة توصلك إلى أن تكون من أحباب الله تعالى قال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

وعن الأعز المزنى رضى الله عنه أن النبى  صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليغان على قلبى، وإنى لأستغفر الله فى اليوم مائة مرة"

وعن أبى هريرة رضى الله عنه  قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والله إنى لأستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة".

فينبغى لك ألا تخلو من التفكر طول عمرك، فتفكر فيما صنعت فى نهارك، فإن وجدت طاعة فاشكر الله عليها، وإن وجدت معصية فوبخ نفسك على ذلك، واستغفر الله وتب إليه، فإنه لا مجلس مع الله أنفع لك من مجلس توبخ فيه نفسك، ولا توبخها وأنت ضاحك فرح، بل وبخها وأنت مجد صادق مظهر للعبوسة حزين القلب منكسر ذليل. فإن فعلت ذلك أبدلك الله بالحزن فرحًا وبالذل عزًا، وبالظلمة نورًا، وبالحجاب كشفًا.. واعلم أنه إذا كان لك وكيل يحاسب نفسه ويحاققها فأنت لا تحاسبه لمحاسبة نفسه، فإن كان وكيلاً غير محاقق لنفسه فأنت تحاسبه وتحاققه، وتبالغ فى محاسبته، فكذلك أنت مع الله إن حاسبت نفسك يسر الله حسابك، فعلى هذا ينبغى لك أن يكون عملك كله لله تعالى ولا ترى أنك تفعل فعلاً والله تعالى لا يحاسبك ولا يحاققك عليه، وإذا وقع من العبد ذنب وقع معه فى القلب ظلمة.

فمثال المعصية كالنار والظلمة دخانها، كمن أوقد فى بيت سبعين سنة، ألا تراه يسود، كذلك القلب يسود بالمعصية، ولا يطهر إلا بالتوبة إلى الله تعالى.

فصار الذل، والظلمة، والحجاب مقارنة للمعصية، فإذا تبت إلى الله زالت آثار الذنوب.

واعلم أن التوبة هى أول المقامات، ولا يقبل ما بعدها من العبادات إلا بها.

ومثال العبد إذا فعل المعصية كالقدر الجديد يوقد تحتها النار ساعة فتسود، فإن بادرت إلى غسلها زال عنها هذا السواد، وإن تركتها وطبخت فيها مرة بعد مرة ثبت السواد فيها حتى تكسر، ولا يعيد غسلها شيئًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء فى قلبه، فإن تاب وفزع واستغفر صقل منها، وإن زاد زادت حتى يغلف بها قلبه، فذلك الران الذى ذكره الله فى كتابه (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)".

فالتوبة هى التى تغسل سواد القلب، فتبرز الأعمال وعليها رائحة القبول، فاطلب من الله التوبة دائمًا، فإن ظفرت بها فقد طاب وقتك؛ لأنها موهبة من الله تعالى يضعها حيث شاء من عباده. وقد يظفر بها العبد المشقق الأكعاب دون سيده. وقد تظفر به المرأة دون زوجها، والشاب دون الشيخ، والجاهل دون العالم.

فإن ظفرت بها فقد أحبك الله تعالى، قال عز وجل فى كتابه العزيز: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

فالله سبحانه وتعالى لم يرض أن تكون محبًا بل محبوبًا. وأين المحبوب من المحب.

وإنما يغتبط بالشىء من يعرف قدره، ولو بددت الياقوت والجواهر بين الدواب، لكان الشعير أحب إليهم من ذلك كله، فانظر من أى الفريقين أنت.

إن تبت فأنت من المحبوبين، وإن لم تتب فأنت من الظالمين، قال تعالى: (بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

من تاب ظفر، ومن لم يتب خسر، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

ولا تقطع رجاءك فى رحمة الله، وتقول فى نفسك: كم أتوب وأرجع، فالمريض يتناول الدواء، ويرجو الحياة ويؤمل الصحة، ما دامت فيه الروح، ولا يتطرق اليأس إلى نفسه. فإذا تاب العبد فرحت به داره من الجنة، وتفرح به السماء والأرض، ويفرح به النبى صلى الله عليه وسلم ، ويفرح به الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع فى ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدى وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح".

عن الشيخ أبى الحسن الشاذلى ـ رحمه الله ـ قال: قيل لى يا على طهر ثيابك من الدنس، تحفظ بمدد الله فى كل نفس، فقلت: وما ثيابى؟ فقيل لى: إن الله كساك حلة المعرفة، ثم حلة المحبة، ثم حلة التوحيد، ثم حلة الإيمان، ثم حلة الإسلام، فمن عرف الله صغر لديه كل شىء.

ومن أحب الله هان عليه كل شىء. ومن وحد الله لم يشرك به شيئًا ومن آمن بالله أمن من كل شىء. ومن أسلم لله قلمًا يعصيه وإن عصاه اعتذر إليه. وإن اعتذر إليه قبل عذره. قال الشيخ: ففهمت من ذلك قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ). يا هذا: إذا ثقلت عليك الطاعة والعبادة، ووجدت فيها مشقة، ولم تجد للطاعة حلاوة فى قلبك. وخفت عليك المعصية، ووجدت لها حلاوة. وأقبلت نفسك عليها وفرحت بها ومالت إليها، فاعلم أنك لم تصدق فى توبتك، وأن قلبك به مرض، ولم تصل إلى درجة المخلصين التائبين. فإنه لو صح الأصل لصح الفرع، والعكس بالعكس.

 

 

المصدر: من كتاب تحفة التصوف تعليق على تاج العروس لابن عطاء (صاحب الموقع)
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 462 مشاهدة
نشرت فى 29 مايو 2011 بواسطة mohamedalkady

ساحة النقاش

الدكتور/ محمد محمود القاضي

mohamedalkady
موقع شخصي يهتم صاحبه باللغة العربية ودراساتها، والثقافة الإسلامية، والثقافة العامة، والتأليف للطفل. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

244,009