غزوة تبوك (9هـ) :
لما عاد النبى إلى المدينة بعد رفع الحصار عن الطائف رأى أن يقضى على الآثار التى خلفتها غزوة مؤتة ويقوم بعمل حاسم دون حدوث أى تهديد من قبل الروم خاصة بعد أن بلغه أنهم قاموا بحشد قوات كبيرة وأغروا بعض القبائل العربية القاطنة جنوبى الشام بالانضمام إليهم ومهاجمة المسلمين فاستقر رأيه على غزو بلاد الشام الجنوبية المجاورة لأعالى الحجاز لتوطيد نفوذه بتلك المنطقة ودعوة أهلها إلى الإسلام . قامت عدة عقبات فى سبيل إعداد الجيش الإسلامى لهذه الغزوة مما جعل البعض يطلقون عليه جيش العسرة ، منها ما تعرض له المسلمون من جدب شديد خلال الأشهر الأولى من العام التاسع الهجرى ثم رغبة الناس بالبقاء بجوار ثمارهم التى حان وقت قطافها فضلاً عن شدة حرارة الصيف التى جعلت من السفر الطويل عبر الصحراء إلى حدود الشام وقتذاك أمراً بالغ المشقة وقد أخذ كثير من المنافقين يثبطون همم المسلمين ويخوفونهم من لقاء الروم مذكرين أياهم بهزيمة مؤتة ومن عدو قهر الفرس .
وعلى الرغم من ذلك صمم الرسول على ضرورة القيام بهذه الغزوة وحث المسلمين على البذل والتضحية فقدم كثير من الصحابة أموالاً كثيرة منهم أبو بكر الصديق الذى قدم كل ما له وهو أربعة آلاف درهم فقال (صلى الله عليه وسلم) : هل أبقيت لأهلك شيئاً ؟ فقال : أبقيت هم الله ورسوله ، وعمر بن الخطاب الذى قدم نصف ماله كذلك دفع إليه العباس وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن عبادة وغيرهم أموالاً كثيرة كما قدم عثمان بن عفان الكثير لتجهيز هذه الحملة ولهذا يعد من فضائل عثمان بن عفان تجهيز جيش العسرة . وتخلف كثير من المنافقين يرأسهم عبد الله بى أُبىّ وقال : يغزو محمد بنى الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد !! أيحسب محمد أن قتال بنى الأصفر معه اللعب ؟ والله لكأنى أنظر إلى أصحابه مقرنين فى الحبال . واجتمع جماعة منهم فقالوا فى حق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ما يريدون من الإرجاف فبلغه (صلى الله عليه وسلم) ذلك فأرسل إليهم عمار بن ياسر يسألهم ما قالواو ؛ فقالوا إنما كنا نخوض ونلعب . وجاء إليه ماعة ، منهم الجد بن قيس ، يعتذرون عن الخروج فقالوا يا رسول الله إئذن لنا ولا تفتنا لأنا لا نأمن من نساء بنى الأصفر ، وجاء إليه المعذرون من الأعراب – وهم أصحاب الأعذار من ضعف أو قلة – ليؤذن لهم فإذن لهم . وكذلك استأذن كثير من المنافقين فأذن لهم ، وقد عتب الله عليه فى ذلك الإذن بقوله فى سورة التوبة : )عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ( . ثم قال فى حقهم : ) إِنَّمَا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ( ثم كذبهم الله فى عذرهم فقال تعالى : ) وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ( ثم كيلا يأسى المسلمون على قعود المنافقين عنهم قال جل ذكره : ) لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ( .
ولما اكتملت عدة الرسول (صلى الله عليه وسلم) خرج فى نحو ثلاثين ألفاً من المسلمين وسار النبى حتى وصل قرية تبوك على حدود الشام فوجد أن الروم قد أفزعهم قدوم الرسول (صلى الله عليه وسلم) فانسحبوا داخل حدودهم فمكث بضعة عشر يوماً جاءه فيها صاحب أيله فصالحه الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأعطاه الجزية وأتاه أهل جرباء وأذرح وأعطوه الجزية فكتب لهم أماناً جاء فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه أمنة من الله ومحمد رسول الله ليوحنا بن روبه وأهل أيلة سفنهم وسياراتهم فى البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبى ومن كان معهم من أهل الشام وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه وأنه طيب لمن أخذه من الناس وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر ، ثم بعث وهو بتبوك خالد بن الوليد إلى صاحب دومة الجندل فذهب إليه وأسره وجاء به إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحقن له دمه وصالحه على الجزية ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته ثم انصرف قافلاً إلى المدينة . وحديث هذه الغزوة وما كان فيها قصة الله فى سورة التوبة .
عام الوفود :
ظهرت بوادر الوحدة الدينية والسياسية بجزيرة العرب بعد عودة الرسول (صلى الله عليه وسلم) من تبوك فى السنة التاسعة للهجرة حيث أخذت القبائل العربية توفد من قبلها وفوداً إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) تعلن ولائها له ودخولها فى الإسلام عن طوع واختيار وكان عليه السلام يحرص على أن يلبس ثيابه عند مقابلة أعضاء هذه الوفود ويأمر أصحابه أن يفعلوا مثله كما كان يمنحهم بعض الهدايا عند انصرافهم من المدينة عائدين إلى بلادهم نظراً لما كان يتكلفه هؤلاء من نفقات السفر ومشقاته .
وكان أعضاء الوفود يأتون إلى المدينة ليقابلوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) ويتعلموا منه شعائر الإسلام ليعودوا على بلادهم ناقلين ما تعلموه من الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى ذويهم وأحياناً كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يبعث معهم بعض أصحابه ليقوموا بتعليم القبائل تعاليم الدين وأحكامه ومن هذه الوفود وفد بنى تميم ، وبنى عامر ، وبنى سعد بن بكر ، ووفد عبد القيس ، وبنى حنيفة ووفد بنى طئ ، وبنى زبيد وكندة ، ووفد همدان ، وغيرها .
وفود ثقيف :
وعقب مقدمه عليه السلام من تبوك وفد عليه وفد ثقيف ، وكان من خبرهم أنه لما انصرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من محاصرتهم تبع أثره عروة بن مسعود الثقفى حتى أدركه قبل أن يصل المدينة فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه ويدعوهم إلى الإسلام فقال لهم إنهم قاتلوك فقال يا رسول الله أنا أحب إليهم من إبكارهم فخرج إلى قومه يرجو منهم طاعته لمرتبته فيهم ، فلما جاء الطائف وأظهره لهم ما جاء به رموه بالنبل فتقلوه وبعد شهر من مقتله ائتمروا فيما بينهم ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب فأجمعوا امرهم على أن يرسلوا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجلاً منهم يكلمه وطلبوا من عبد يليل بن عمرو أن يكون ذلك الرجل فأبى وقال : لست فاعلاً حتى ترسلوا معى رجالاً فبعثوا معه خمسة من أشرافهم فخرجوا متوجهين إلى المدينة ، ولما قابلوا رسول الله ضرب لهم قبة فى ناحية المسجد ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا وكانوا يغدون إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كل يوم ثم أسلم القوم وطلبوا أن يعين لهم من يؤمهم فأمرّ عليهم ععثمان بن أبى العص لما رآه من حرصه على الإسلام وقراءة القرآن وتعلم الدين .
ثم سألوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يؤجل هدم صمنمهم شهراً حتى يدخل الإسلام فى قلوب القوم ولا يرتاع السفهاء من النساء من هدمه فرضى بذلك (صلى الله عليه وسلم) .
هدم اللات :
ولما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إسلام ثقيف أرسل أبا سفيان والمغيرة بن شعبة الثقفى لهدم اللات صنم ثقيف بالطائف فتوجهوا إليه وهدموه حتى سووه بالأرض .
حجة الوداع :
فى السنة التاسعة للهجرة حج أبو بكر الصديق بالناس ثم نزلت سورة براءة فى نقض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما كان بينه وبين المشركين من العهد الذى كانوا عليه فى الوثنية فأرسل على بن أبى طالب ليقرأ براءة على الناس وينبذ إلى كل ذى عهد عهده فلما لقى أبا بكر قال : " أمير أو مأمور فقال على بل مأمور " فلما كان يوم النحر قام على بن فقال يا أيها الناس لا يدخل الجنة كافراً ولا حج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان .
وفى السنة العاشرة من الهجرة أعلن الرسول أنه متوجه إلى مكة لأداء فريضة الحج .
وأن كل مستطيع من المؤمنين والمؤمنات فى جميع الأمصار والأقطار ، من العرب وغير العرب ، مدعو لمرافقة النبى (صلى الله عليه وسلم) فى هذا الموسم لأداء تلك الفريضة الجامعة خالصة من الشوائب الوثنية لأول مرة فى الإسلام . فاستجاب الناس ، وأخذت جموع القبائل العربية ، تترى لنيل هذا الشرف المقدس .
وفى أواخر شهر ذى القعدة ، خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من المدينة ، ومعه وحوله من المؤمنين والمؤمنات أكثر من أربعين ألفاً من راغبى الحج ، وما كاد يصل إلى مكة حتى كانت جموع أخرى تسد الأفق من قبائل مكة والحجاز وجزيرة العرب من أقصاها ، قد جاءت إلى البلد الحرام لأداء المناسك مع النبى الظعيم ، حتى نيف الحاج على مائة ألف نسمة .
وفى بطن الوادى من عرفات ، وقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على القصواء فى صباح اليوم التاسع ممن شهر ذى الحجة وألقى جامعاً عرف بخطبة الواع ومما جاء بها :
أيها الناس اسمعوا قولى فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبداً ، أيها الناس إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام إلا بحقها ، وإن كل ربا موضوع ، ولكم رءوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون ، وإن كل دم كان فى الجاهلية فهو موضوع . وإن الشيطان يئس أن يعبد فى أرضكم هذه ولكنه يطمع فيما سوى ذلك فاحذروه ، أيها الناس إن ربكم واحد وأباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى إلا بالتقوى .
أيها الناس : إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق ألا يوطئن فرشكم غيركم ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ، ولا يأتين بفاحشة . فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن فى المضاجع وتضربهن ضرباً غير مبرح ، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، إنما النساء عندكم عوان ولا يملكن لأنفسهن شيئاً أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، فاتقوا الله فى النساء واستوصوا بهن خيراً ، ألا بلغت ؟ اللهم اشهد . أيها الناس إنما المؤمنين إخوة ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد ، فلا ترجعن بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض إنى قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده كتاب الله ، ألا هل بلغت ؟ اللهم أشهد .
وقد نزل عليه الوحى بقوله تعالى : )اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي( لقد كلل اله جهود نبيه بالنجاح وها هى بلاد العرب جميعاً قد أسلمت وبلغ الدين الإسلامى حد الكمال ولم يعد هناك حاجة لإرسال رسول آخر ففى القرآن كل ما يحتاج إليه البشر .
ثم أدى (صلى الله عليه وسلم) مناسك الحج من رمى الجمار والنحر والحلق والطواف . وبعد أن قام بمكة عشرة أيام قفل راجعاً إلى المدينة ، ولما رآها كبّر ثلاثاً وقال : لا إله لا إله وحد لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا ، صدق لله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده .
وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) :
عاد النبى (صلى الله عليه وسلم) من حجة الوداع ، وقد أعلن استكمال الدين ، وإتمام نعمة الله على المسلمين ، ولم يعد يفكر إلا فى لقاء ربه ، وشعر بالمرض فى نهاية صفر من السنة الحادية عشر للهجرة ، وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يعتريه المرض قد أمر بإعداد حملة بقيادة أسامه بن زيد إلى مشارف الشام وأمر أن تضم فى فرقتها كبار المهاجرين والأنصار .
وكان الهدف منها تأمين حدود الدولة الشمالية من ناحية الروم وللثأر لمقتل جعفر وابن رواحة وزيد فى مؤتة وكان لصغر سن أسامة من ناحية ولوجود أشراف رجال قريش فى الجيش من ناحية أخرى أن كثر اللغط فلما سمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) بذلك خرج إلى الناس ونصحهم أن يتركوا القائمين على الأمور يتصرفون وفق ظروفهم وعلى ضوء تجاربهم وعلمهم وأن لا يستمعوا إلى ألسنة النفاق ثم خرج أسامة بالجيش فعسكر بالجرف على بعد ثلاثة أميال من المدينة انتظاراً لأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالسير إلى الروم بالشام ولكن ما كادت الحملة تستكمل أعدادها حتى اشتد المرض على النبى (صلى الله عليه وسلم) فوقفت مكانها ولم تخرج واتفق رأى زوجات النبى (صلى الله عليه وسلم) على بقائه فى بيت عائشة إلى أن يبرأ ، وكان عائشة بجواره تمرضه حتى وفاته . وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) يخرج إلى الناس للصلاة ، على الرغم من شدة مرضه ، وفى مرة صبوا عليه الماء بكثرة ليتمكن من الخروج ، فخرج وهو معصوب الرأس ، وبعد الصلاة قال : " إن عبداً من عبداً من عباد الله ، خيره الله بين الدنيا والآخرة ، وبين ما عنده ، فاختار ما عند الله " فأدرك أبو بكر أن النبى ينعى نفسه ، فلم يستطيع أن يسمك عن البكاء ثم قال بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا ولما اشتد المرض على النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يستطيع الخروج للصلاة فقال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " وفى يوم الاثنين 12 ربيع الأول فاضت روحه الطاهرة ولحق بارفيق الأعلى وهو فى الثالثة والستين بعد أن أتم الرسالة وأرسى معالم النور ونشر العدالة .
كان (صلى الله عليه وسلم) على خلق عظيم كما وصفه ربه تعالى وقالت السيد عائشة رضى الله عنها " كان خلقه القرآن " وجمع الله كمال الأخلاق ومحاسن الشيم فكان أحسن الناس خلقاً وقد قالت السيدة عائشة عندما سألت عن خلقه (صلى الله عليه وسلم) فى بيته " كان أحسن الناس خلقاً لم يكن فاحشاً ولا متفحساً ولا صخاباً فى الأسواق ولا يجزى السيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح " وكان الذى قام بغسله عليه الصلاة والسلام على ابن أبى طالب (t) والفضل بن العباس وأسامة بن زيد وغشل فى قميصه الذى مات فيه وكان (علىّ) يغسله ويقول بأبى أنت وأمى طبت ميتاً وحياً .
وكفن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة .
وصلى عليه المسلمون أفذاذاً لم يؤمهم أحد فكان المسلمون يدخلون أفواجاً يصلون عليه أفواجاً يصلون عليه ثم يخرجون ويدخل غيرهم حتى صلوا عليهم كلهم ، ودفن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى الموضوع الذى توفاه الله فيه تحت فراشه فى بيت عائشة رضى الله عنها ، فقد روى أن المسلمين كانوا قد اختلفوا فى دفنه ، فقال قاتل ادفنوه فى مسحده ، وقال قائل ادفنوه مع أصحابه بالبقيع ، قال أبو بكر سمعت ررسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : " ما مات نبى إلا دفن حيث يقبض " فرفع فراش النبى (صلى الله عليه وسلم) الذى توفى عليه ثم حفر له تحته .
كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يمتاز بفصاحة اللسان ، وبلاغته القول ، وكان الحلم والاحتمال ، والعفو عند المقدرة ، والصبر على المكاره ، صفات أدبه الله بها ، وكان من صفة الجود والكرم على مالا يقادر قدره ، كان يعطى عطاء من لا يخاف الفقر ، قال ابن عباس : كان النبى (صلى الله عليه وسلم) أجود الناس ، وأجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل ، وقال جابر : ما سئل شيئاً قط فقال : لا .
وكان أشد الناس حياء وإغضاء ، قال أبو سعيد الخدرى : كان أشد حياء من العذراء فى خدرها ، وإذا كره شيئاً عرف فى وجهه ، وكان لا يثبت نظره فى وجه أحد ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، وكان أعدل الناس ، وأعفهم ، وأصدقهم لهجة ، وأعظمهم أمانة ، اعترف له بذلك محاوروه وأعداؤه ، وكان يسمى قبل نبوته بالأمين ، ويتحاكم إليه فى الجاهلية قبل الإسلام ، روى الترمذى عن علىّ أن أبا جهل قال له : عن لا نكذبك بما جئت به ، فأنزل الله تعالى فيهم : )فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ( وسأل هرقل أبا سفيان ، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا .
وكان أشد الناس تواضعاُ ، وأبعدهم عن الكبر ، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك ، وكان يعود المساكين ، ويجالس الفقراء ، ويجيب دعوة العبد ، ويجلس فى أصحابه كأحدهم ، وكان أوفى الناي بالعهود ، وأوصلهم للرحم ، وأعظم شفقة ورأفة ورحمة بالناس ، أحسن الناس عشرة وأدباً ، وأبسط الناس خلقاً ، أبعد الناس سوء الأخلاق ، ولم يكن فاحشاً ، ولا متفحشاً ، ولا لعاناً ، وصخاباً فى الأسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، وكان لا يدع أحداً يمشى خلفه ، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه فى مأكل ولا ملبس ، ويخدم من خدمه ، ولم يقل لخادمه أف قط ، ولم يعاتبه على فعل شىئ أو تركه ، وكان يحب المساكين ويجالسهم ، ويشهد جنائزهم ، ولا يحقر فقيراً لفقره .
وعلى الجملة فقد كان النبى (صلى الله عليه وسلم) محلى بأجمل الصفات ، أدبه ربه فأحسن تأديبه ـ حتى خاطبه مثنياً عليه فقال : ) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ( .
ساحة النقاش