الدرس التاسع
فتح مكة
الأهداف الإجرائية للدرس:
- تحدد العام الذي تم فيه فتح مكة.
- تذكر بعض مواقف الرسول من أهل مكة
- تتناول بالعرض غزوة حنين والطائف .
- تذكر أهم أسباب غزوة تبوك (9هـ) .
- تستخلص العبر والعظات من حجة الوداع :
- تذكر موقف المسلمين من وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) .
أعانت قريش حلفائهم من قبيلة بكر بالسلاح والرجال فى حربهم ضد قبيلة خزاعة وكانت خزاعة من حلفاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) .
ولما رأت خزاعة ذلك أرسلت وفداً برئاسة عمرو بن ساللم الخزاعى ليستنصر بالرسول فلما قص عليه ما وقع لقبيلته قال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " نصرت يا عمرو بن سالم " .
أما قريش فإنهم لما رأوا أن ما عملوه نقض للعهود التى أخذت عليهم ندموا على ما فعلوا وأرادوا مداواة هذا الجرح فأرسلوا قائدهم أبا سفيان بن حرب إلى المدينة ليشد العقد ، فركب راحلته وهو يظن أنه لم يسبقه أحد حتى إذا جاء بالمدينة نزل على أم المؤمنين أم حبيبة بنته وقد أراد أن يجلس على فراش رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فطوته عنه فقال : يا بنية أرغبت به على أم رغبت بى عنه ؟ فقالت : ما كان لك أن تجلس على فراش رسول الله وأنت مشرك نجس فقال لقد أصابك بعدى شر .
ثم خرج حتى أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكلمه فلم يرد عليه شيئاً ثم ذهب إلى أبى بكر فكلمه أنه يكلم رسول الله فقال ما أنا بفاعل ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال : أأنا أشفع لكم إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ثم جاء فدخل على علىّ بن أبى طالب وعنده فاطمة وطلب منه أن يشفع له عند محمد فرفض ثم عاد إلى قومه .
حرص النبى على أن يكون خروجه إلى مكة سراً وذلك حتى لا تعلم قريش فتستعد للحرب فلقد أراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يحقن الدماء . فدعا (صلى الله عليه وسلم) مولاه جل ذكره وقال : اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها فى بلادها ، فقام حاطب بن أبى بلتعة حد الذين شهدوا بدراً وكتب كتاباً لقريش يخبرهم ببعض أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأرسله مع جارية لتوصله إلى قريش على عجل فأعلم الله رسوله ذلك فأرسل فى أثرها علياً والزبير والمقداد فانطلقوا حتى وجدوا المرأة فقالواو لها : أخرجى الكتاب ، قالت ما معى كتاب ! قالوا : لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب ! فأخرجته من شعرها فأتوا به رسول الله فقال (صلى الله عليه وسلم) : يا حاطب ما هذا ؟ قال يا رسول الله لا تعجل علىّ إنى كنت حليفاً لقريش لم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتى ولم أفعله ارتداداً عن دينى ولا رضاء بالكفر بعد الإسلام ؛ فقال (صلى الله عليه وسلم) أما إنه قد صدقكم فقال عمر : دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال : إنه قد شهد برداً وما يدريك لعل الله أطلع على من شهد بدراً فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم ، وفى ذلك أعد الرسول جيشاً عظيماً لم تشهده الجزيرة العربية من قبل إذ كان عدده عشرة آلاف شخص يسيرون فى طاعة تامة لقائدهم .
قابل (صلى الله عليه وسلم) فى الطريق عمه العباس بن عبد المطلب مهاجراً بأهله وعياله فأمره أن يعود إلى مكة ويرسل عياله إلى المدينة . ولما وصل (صلى الله عليه وسلم) مر الظهران أمر بإيقاد عشرة آلاف نار وكانت قريش قد بلغهم أن محمداً زحف بجيش عظيم لا تدرى جهته فأرسلوا أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله . فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة . فقال أبو سفيان : ما هذه لكأنها نيران عرفة . فقتال بديل بن ورقاء : نيران بنى عمرو ، فقال أبو سفيان : عمرو أقل من ذلك ، فرآهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله ، فقال له رسول الله : ألم يأن لك يا أبا سفيان أن تعلم أن لا إله الله ؟ قال أبو سفيان : بأبى أنت وأمى ما أحلمك واكرمك وأوصلك ، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عنى شيئاً .
فأسلم أبو سفيان ، ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يتركه يعود إلى مكة حتى شهد بنفسه موكب الجيوش الإسلامية ، فرأى أبو سفيان ما لم يخطر له ببال ، حتى إذا انتهى العرض العسكرى ، ترك أبو سفيان ليعود إلى مكة ، وكان أبو سفيان هناك لساناً يحدث الناس عن الزحف الذى لا يستطيع أحد إيقافه فقتل كل أمل فى المقاومة .
ودخلت جيوش المسلمين من جهات أربع ، وكان خالد بن الوليد من قادة الفتح ، ونادى منادى الرسول : من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن .
واستثنى من ذلك جماعة عظمت ذنوبهم وآذوا الإسلام وأهله عظيم الأذى فأهدر دمهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة . منهم عبد الله بن سعد بنى أبى سرح الذى أسلم وكتب لرسول الله الوحى ثم ارتد وافترى الكذب على الأمين المأمون فكان يقول : إن محمداً كان يأمرنى أن أكتب عليم حكيم فأكتب غفور رحيم ، فيقول كل جيد ! ومنهم عكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أمية وهبار بن الأسود والحارث بن هشام وزهير بن أبى أمية وكعب بن زهير ووحشى قاتل حمزة وهند بنت عتبة زوج أبى سفيان وقليل وغيرهم ، ونهى عن قتل واحد سوى هؤلاء إلا من قاتل .
كان على خالد بن الوليد أن يدخل من حى يسكنه أشد قريش عداوة لمحمد ، وهم من اشتركوا فى الهجوم على خزاعة ، كان بينهم عكرمة بن أبى جهل ، وعلى الرغم من إعلان العفو العام لجميع الناس فإنهم لم يدعوا خالداً يدخل ، وأمطروا جيشه بنبالهم ، فاضطر خالد إلى تفريقهم ، وقتل من رجاله رجلان ، وفقدت قريش ثلاثة عشر رجلاً . وفيما كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يرقى مرتفعاً لينزل إلى مكة ، بصر بسيوف رجال خالد فى رقاب أهل مكة ، فصاح مغضباً بذكر أمره ألا يكون قتال ، واستدعى خالداً ، فلما علم بما كان ، ذكر أن الخير فيما اختاره الله .
دخل المسلمون مكة وطافوا بالكعبة وأزالوا منها التماثيل والصور وحطموا الأصنام وهم يهتفون : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً .
ثم جلس الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى المسجد والناس حوله والعيون شاخصة إليه ينتظرون ما هو فاعل بمشركى قريش الذين آذوه وأخرجوه من بلاده وقاتلوه ، ولكن هنا تظهر مكارم الأخلاق التى يتعلم منها المسلم أن يكون رضاه وغضبه لله لا لهوى النفس فقال (صلى الله عليه وسلم) : يا معشر قريش ما تظنون أنى فاعل بكم ؟ قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال عليه السلام : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
ثم شرع الناس يبايعون الرسول (صلى الله عليه وسلم) على الإسلام ، وممن اسلم فى هذا اليوم معاوية بن أبى سفيان وأبو قحافة والد الصديق ، وقد فرح الرسول كثيراً بإسلامه . وجاء يرتعد خوفاً فقال له (صلى الله عليه وسلم) : " هون عليك فإنى لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأككل القديد ".
أما الذين أهدر الرسول (صلى الله عليه وسلم) دمهم فقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت فمنهم من حقت عليه العذاب فقتل ، ومنهم من أدركته عناية الله فأسلم . فعبد الله بن سعد بن أبى سرح لجأ إلى أخيه من الرضاع عثمان بن عفان وطلب منه أن يستأمن له رسول الله فغيبه عثمان حتى هذا الناس ثم أتى به النبى وقال : يا رسول الله قد أمنته فبايعه فأعرض عنه (صلى الله عليه وسلم) مراراً ثم بايعه . وأما عكرمة بن أبى جهل فهرب فخرجت وراءه زوجته وبنت عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام وكانت قد أسلمت قبل الفتح وقد أخذت له أماناً من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلحقته وقد أراد أن يركب البحر فقالت له : جئتك من عند أبرّ الناس وخيرهم لا تهلك نفسك وإنى قد أستأمنته لك فرجع . ولما رآه (صلى الله عليه وسلم) وثب قائماً فرحاً به وقال : مرحباً بمن جاءناً مهاجراً مسلماً . ثم أسلم رضى الله عنه وطلب من رسول الله أن يستغفر له كل عداوة عداها إياها فاستغفر له ، وكان رضى الله عنه بعد من خيرة المسلمين وأغيرهم على الإسلام . وأما هبار بن الأسود فهرب واختفى حتى إذا كان رسول الله بالجعرانة جاءه مسلماً وقال : يا رسول الله هربت منك وأردت اللحاق بالأعاجم ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمن جهل عليك ، وكنا يا رسول الله أهل شرك فهدانا الله بك وأنذنا من الهلكة فأصفح الصفح الجميل ، فقال (صلى الله عليه وسلم) : قد عفوت عنك . وأما الحارث بن هشام وزهير بن أبى أمية المخزومى فأجرتهما أم هانى بنت أبى طالب فأجاز (صلى الله عليه وسلم) جوارها ، ولما قابل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الحارث بن هشام مسلماً قال (صلى الله عليه وسلم) الحمد لله الذى هداك ما كان مثلك يجهل الإسلام وقد كان بعد ذلك من فضلاء الصحابة . وأما صفوان بن أمية فاختفى وأراد أن يذهب ويلقى نفسه فى البحر ، فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحى وقال : يا نبى الله إن صفوان سيد قومه وقد هرب ليقذف نفسه فى البحر فأمنه فإنك قد أمنت الأحمر والأسود . فقال (صلى الله عليه وسلم) : أدرك ابن عمك فهو آمن . فقال : أعطنى علامة فأعطاه عمامته فأخذ عمير حتى إذا صفوان قال له فداك أبى وأمى جئتك من عند أفضل الناس وخير الناس ، وهو ابن عمك وعزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملك ، قال صفوان : إنى أخافه على نفسى ، قال هو أحلم من ذلك وأكرم ، وأراه العمامة علامة الأمان فرجع إلى رسول الله وقال له : إن هذا يزعن أنك أمنتنى ؟ قال صدق قال : أمهلنى بالخيار شهرين ، قال أربعة أشهر ، ثم أسلم رضى الله عنه وحسن إسلامه . وأما هند بنت عتبة فاختفت ثم أسلمت وجاء إلى رسول الله فرحب بها .
أما كعب بن زهير فلما ضاقت به الأرض ولم يجد له مجبراً جاء المدينة بعد أن قدمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأسلم .
أما وحشى قاتل حمزة فكذلك أسلم وحسن إسلامه وقلبه (صلى الله عليه وسلم) . وقد جاءه ابنا أبا لهب ومعتب فأسلما وفرح بهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
وكان من الذين اختفوا سهيل بن عمرو ، فاستأمن له ابنه عبد الله فأمنه (صلى الله عليه وسلم) وقال : إن سهيلاً له عقل وشرف ، وما مثل سهيل يجهل الإسلام .
بيعة النساء :
هذا ، ولما تمت بيعة الرجال بايعه النساء وكن يبايعن على ألا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصين الرسول فى معروف ، ثم أمر (صلى الله عليه وسلم) بلالاً بأن يؤذن على ظهر الكعبة .
غزوة حنين والطائف :
رأت القبائل العربية التى تقيم على مقربة من مكة أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لابد أن يفكر فى مهاجمتها بعد أن قضى على مقاومة قريش لذلك صمتت على محاربته فجمع مالك بن عوف (من بنى النضير من هوزان) هوزان وثقيف فلما اجتمعوا وقرروا أن يسيروا لقتال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين وأدرك مالك بن عوف أن هذه آخر محاولة يقوم بها عبدة الأصنام ضد الإسلام وذلك بذل أقصى جهده للحصول على النصر فاختار للموقعة أرضاً جيلية بها مرتفعات وبها مسالك لا يعرفها أغلب المسلمين ولا يجيدون القتال فيها وحشد مالك خلف الجند النساء والأطفال حتى يدرك المحارب أن هزيمته ستكون فناء لأهله وماله وبذلك يستميت فى القتال حتى النصر وتمت حيلة مالك حينما عسكر بجنده فى عشاه الجبال فأصبح هؤلاء الجنود مشرفين على الطرق الضيقة حيث يمر جيش المسلمين ولما سمع النبى (صلى الله عليه وسلم) بخروج هوزان وثقيف ندب المسلمين للخروج لقتالهم فخرج إليهم على رأس عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار الذين فتح بهم مكة وألفين من أهلها وبينما كان جيش المسلمين يعبر المسلك الضيقة بجبال تهامة والزهو يشيع فيهم بسبب ضخامة العدة وكثرة العدد ، انقض عليهم العدو من مكانه فى الشعاب والمرتفعات ، وفوجئ المسلمون بالضرب ينصب عليهم انصباباً ، فاضطربوا وتفرقت جموعهم وغلبوا على أمرهم وولوا متقهقرين ، وقد حكى القرآن الكريم هذه الهزيمة بقوله )وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ( .
قام الرسول (صلى الله عليه وسلم) ينادى : إلى أين أيها الناس ؟ هلموا إلىَّ ! إن رسول الله محمد بن عبد الله ولم يبق حوله إلا نفر قليل من المهاجرين والأنصار وأهل بيت الرسول وأبو سفيان بن الحارث واشتد الحال على المسلمين وعظم البلاء حتى كانوا لا يسمعون نداء الرسول لهم . وقال كلدة أو جبلة أخو صفوان بن أمية : ألا بطل السحر اليوم وقد حدثت شيبة بن عثمان بن أبى طلحة نفسه بالانتقام من الرسول وأخذ ثأر أبيه الذى قتل يوم أحد قال : فأردت برسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأقتله فأقبل شىء حتى تغشى فؤادى فلم أطلق ذلك فعلمت أنه ممنوع منى .
عند ذلك أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) العباس بن عبد المطلب وكان جهورى الصوت أن يصيح فى الناس : يا معشر الأنصار ! يا أصحاب الشجرة فأجابوه لبيك لبيك ! وسارعوا ناحية الرسول يتراكضون إليه حتى كان الرجل إذا عجز عن اقتحام السبيل إلى الرسول على بعيره نحره وقصد إليه راجلاً واجتمع حول الرسول (صلى الله عليه وسلم) نحو مائة من الأنصار الذين أعز الله بهم الإسلام فاستقبلوا الأعداء بقلوب مطمئنة وقام العباس ينادى يالأنصار ياللخزرج فتكاثر الناس حوله فلما أسفر الصبح وخرج العدو من مكمنه التقوا ، وجهاً لوجه ثم الجتلد القوم واستمر القتال ، وقال الرسول : الآن حمى الوطيس وقد أهوى على بن أبى طالب إلى صاحب راية المشركين فضرب عرقوبى جمله ووثب أحد الأنصار على الرجل وقتله ، وتمت هزيمة المشركين وتفرقت فلولهم فذهب مالك بن عوف ببعضهم إلى الطائف وذهب آخرون إلى سهل أوطس ونخلة وتتبع المسلمون من ذهبوا إلى أوطاس ومن ذهبوا إلى نخلة وانصرف الرسول من وادى حنين إلى الطائف فى أثر مالك بن عوف ليحاصرها وقد أمر بحمل السبايا والغنائم إلى الجعرانة حتى يعود من حصار الطائف ثم سار الرسول إلى الطائف مطارداً فلول ثقيف الذين لجئوا إليها ومعهم مالك بن عوف حتى إذا دخلوا مدينتهم أغلقوا عليهم أبوابها واعتصموا بالحصون بالحصون يرمون المسلمين بالنبال من فوقها . وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد عسكر قريباً منهم فأمر الصحابة بالتقهقر قليلاً حتى لا يستدفوا لنبل المشركين مكتفياً بحصارهم ولكن ثقفياً صمدت لقتال المسلمين وحصارهم خمسة عشر يوماً ، وظلت ترميهم بالنبال مطمئنة إلى مناعة أسوارها ووفرة الغذاء والمئونة فيها .
كان على المسلمين أن يقترحوا وسائل جديدة للنجاح فى الحصار ، وكان على هوازن وثقيف أن تجد السبل التى ترد بها وسائل المسلمين ، فالمسلمون يستعملون المنجنيق وهو أداة ترمى الحجارة على الأعداء وتقوض الجدران ، ولكن جدران الطائف كانت أقوى من أن تهتز لهذه الضربات ، فاستعمل المسلمون الدبابة وهى أداة مصنوعة من الخشب أو الجلود يدخل المسلمون فيها ويتحركون فى حمايتها إلى الهدف ، فإذا وصلوا الأسوار نقبوها فى حين يحميهم سطح الدبابة من نبال العداء . ولكن أهل الطائف ألقوا على المهاجمين قطع الحديد الملتهب فتعرضت الدبابة للاحتراق ، فتغلب المسلمون على ذلك بأن غطوا ظهر الدبابة بألواح من الحديد أو الصفيح ، فألقى المحاصرون عليها حجارة ثقيلة دمرت بعضها ، وحاول المسلمون أن يحرقوا كروم الطائف ، وهى أغلى ما يعتز به أهل الطائف فأرسل هؤلاء إلى الرسول يخبروه ألا يحرق الكروم ويخبروهه أن يأخذها أو يدعها لله وللرحم .
ثم إن الأشهر الحرم قد قب دخولها ، والحصار قد طال مداه حتى كرهه المسلمون وبخاصة عندما تأكدوا من كثرة المئونة داخل الطائف ، وبعد الأمل فى استسلام القريب ، وإزاء هذه الظروف لجأ الرسول إلى حل آخر هو حصار الطائف حصاراً أوسع : فهل تستطيع الطائف أن تعيش وحدها على الوثنية بعد أن دخلت الجزيرة العربية كلها فى الإسلام ؟ وهل تستطيع الطائف أن تقف مواقف العداء من العرب جميعاً ؟
ورفع الرسول الحصار عن الطائف وعاد إلى الجعرانة حيث كانت تنتظره السبايا والأسلاب التى حصل عليها المسلمون عند هزيمة هوازن ، وفى الجعرانة وافاه واد هوازن مسلمين تائبين وطلبوا منه أن يرد عليهم أموالهم ومن سبى منهم فخيرهم بين أخذ السبى أو الأموال فآثروا نساءهم على أموالهم فنزل لهم الرسول عن كل من دخل منهم فى ملكه أو ملك بنى عبد المطلب . ثم قال لهم إذ صليت فقوموا فقولوا إنا نستفع برسول الله إلى المسملين وبالمسلمين إلى رسول الله فى أبنائنا ونسائتنا فأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم ففعلوا فقال رسول الله أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم فقال المهاجرون والأنصار ومان كان لنا فهو لرسول الله ، فقال الأقرع بن حابس أما أنا وبنو تميم فلا وقال عيينة بن حصن أما أنا وبنو سليم فقد نزلوا عمن فى أيديهم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال عليه الصلاة والسلام لمن احتبس نصيبه من سبى هوازن وضن به . ادفعوها ولكم بكل إنسان ست فرائض من أول شىء أصيبه فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم وأخذ الرسول بحكمته لهوازن كل من اخذ منها .
ومما هو جدير بالملاحظة أن هؤلاء الذين رفضوا كانوا من الذين خرجوا مع رسول الله من مكة فى حرب هوازن فهم ممن اسلموا يوم الفتح وليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار الذين خالط الإيمان قلوبهم وقام الإسلام على أكتافهم . ثم أحل الرسول بالعمرة من الجعرانة فرجع إلى مكة وفرق الغنائم فى المؤلفة قلوبهم ومن سادات قريش وغيرها من قبائل العرب على أن الأنصار قد تغيرت نفوسهم لذلك بعض الشىء وساورتهم الشكوك فظنوا أن الرسول صار فى غنى عنهم بعد أبن لقى قومه فلم يعد يحفل بهم ولا يعنى بشانهم كما كان من قبل فلما بلغ الرسول ذلك أمر سعد بن عبادة أن يجمع له الأنصار فجمعهم وخطبهم تلك الخطبة التاريخية التى يتجلى فيها حسن سياسته وقدرته على جذب النفوس وتأليف القلوب إليه نعمة الإسلام عليهم إذ هداهم بعد الضلالة وألف بين قلوبهم بعد العداوة ثم ذكرهم بالثناء تصديقهم رسالته وإيوااءهم إياء ومواساتهم له .. ثم عتب فى كياسة تطلعهم إلى هذا الفئ الذى أفاء الله عليهم ففرقه فى حديثى عهد بالإسلام تطيباً لنفوسهم عما أصابهم فى نشر الدين وإعلاء كلمة الله ، ثم أكد محبته إياهم وإيثارهم على غيرهم من العرب ، وأخيراً أعلن إليهم ثقته بهم ودعاً لهم ولأبنائهم وأبناء أبنائهم فلا عجب إذا بكى الأنصار بعد هذه الخطبة الرائعة وطابت نفوسهم برضاء رسول الله عليهم وعدوا ذلك غنماً عظيماً .
روى الطبرى : أنه لما اجتمع الأنصار برسول الله حمد الله وأثنى عليه بالذى هو أهله ثم قال : " يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتنى عنكم وموجدة وجدتموها فى أنفسكم ؟ ألم أتكم ضلالاً فهداكم الله وعالة فأغناكم الله ؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى لله ولرسوله المن والفضل ، فقال ألا تجيبونى يا معشر الأنصار قالواو : وبماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل ، قال : أما والله لو شئتم لقتلم فصدقتم ولصدقتم : أتيتنا مكذباً فصدقناك ومخذولاً فنصرناك وطريداً فأويناك وعائلاً فأسيناك وجدتم أنفسكم يا معشر الأنصار فى لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتك إلى إسلامكم أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاه والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فو الذى نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت أمراً من الأنصار ولو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصا ... اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى أخضلوا لحالهم وقالو : رضينا برسول الله قسماً وحظاً ثم انصرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتفرقوا ثم عزم الرسول على العودة إلى المدينة فأقام على مكة عتاب بن أسيد ثم سار إلى المدينة إليها فى شهر ذى القعدة سنة 8 هـ .
ساحة النقاش