عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف ( فقد ورثاء )

فقد ورثاء

أسرة المبارك وتتابع الأحزان (<!--)

 

فلا تبكين في إثر شيء ندامة **  إذا نزعته من يديك النوازعُ

يسير الإنسان في غالب أيام حياته مغتبطاً بين أسرته ورفاقه, ويأنس بمن حوله من جيران وأصدقاء, ويفرح بقضاء أيام فراغه بما يمتعه ويبعد هموم الحياة عنه, إما برحلات أو بمجالسة الأخيار وتبادل الأحاديث الشيقة معهم, لأن محادثة الرجال ذوي العقول والآداب من أمتع الحياة ولذاتها ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:

وما بقيت من اللذات إلا ** محادثة الرجال ذوي العقول

ومع ذلك كله فإن سرور الحياة لا يخلو من كدر ومنغصات, وهذه طبيعة الحياة بلا شك كل يجري فيها ولا يعلم ما الله صانع فيه, ولا بخفيات الأقدار؛ ففي يوم الخميس الموافق
 8/6/1434هـ وقبيل غروب شمسه, فُجعت أسرة المبارك في حريملاء والقرينة والرياض بوفاة خمسة من شبابها إثر حادث مروع في طريق زراعي شرق محافظة حريملاء حيث اصطدمت سيارتهم في عمود كهرباء فصعدت أرواحهم الطاهرة إلى بارئها, وهم: عبدالله بن حمد بن محمد المبارك، وعبدالعزيز وعبدالرحمن أبناء المقدم خالد بن محمد المبارك، وعبدالله ومحمد أبناء الراحل أحمد بن عبدالعزيز المبارك. فكان لذلك الحادث وقع مؤلم صدع قلوب والديهم وإخوتهم وجميع أسرهم – كان الله في عونهم وجبر مصيبتهم في فلذات أكبادهم – ولقد خيم الحزن على أجواء محافظة حريملاء وما حولها... حتى أن زملاء تلك البراعم الصغار ضاقت محاجر عيونهم بدموعها آسفاً على رحيل زملائهم المفاجئ، ولقد اكتظ وضاق جامع الحزم بحريملاء وساحاته بآلاف المصلين رجالا ونساءً بعد صلاة عصر يوم الجمعة 7/6/1434هـ حتى إن بعض الرجال والنساء لم يجدوا مكاناً فصلوا خارج المسجد، ولم يعهد مثل ذلك اليوم كثافة، وحزناً عميقاً عم الجميع – رحم الله الراحلين وأنزل السكينة على والديهم وإخوتهم وزملائهم المفجوعين بفقدهم -..، ثم تبعهم إلى مضاجعهم بمقبرة (القرينة) خلق كثير من المشيعين يتعذر عدهم وحصرهم، ومما ضاعف حزني وأهاج شجوني تدافع البعض من زملائهم الصغار على حافة كل قبر لإلقاء النظرة الأخيرة على كل زميل قبل أن تخفي اللبنات والحفر جثمانهم فيغيبوا عن نواظرهم غياباً أبدياً، ولك أن تتصور حالهم حين ذهابهم إلى المدرسة ودخول فصولهم وقد خلت مقاعدهم الدراسية منهم، فأجهشوا بالبكاء المر، وبكاهم من حولهم من مدرسين وطلاب ولسان حالهم يردد معنى هذا البيت:

يعز علي حين أدير عيني ** أفتش في مكانك لا أراك

ولقد ضاق منزل الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن محمد المبارك الواقع شمال الرياض بالمعزين، والشيخ عبدالعزيز: جدّ أبناء الراحل: أحمد بن عبدالعزيز بن ناصر المبارك لأمهم، وعميد الأسرة وحفيد رائد الحركة العلمية بحريملاء الشيخ محمد بن ناصر المبارك، ورفيق دربي منذ الصغر.

وهذه الفاجعة التي امتحن الله بها هذه الأسرة تأتي بعد فاجعة مضى عليها قرابة الثمان سنوات، فقدوا أيضا اثنان من أبناء أحمد، فلم يبق من أبناء أحمد الذكور سوى واحد من الخمسة وشقيقتين، وكأني بهذا الفتى المكلوم وهو يشاهد رحيل أشقائه يقول بكل تحسر وتفجع:

تتابع إخوتي ومضوا لأمر** عليه تتابع القوم الخيارُ

رحم الله الجميع وأنزل السكينة والعزاء على والدتهم أم عبدالعزيز المفجوعة بأبنائها الأربعة وبزوجها أحمد (قبلهم) ، وجميع أمهات وآباء المفجوعين من أسرة آل مبارك برحيل فلذات أكبادهم.

وما المال (والأبناء) إلا ودائع ** ولا بد يوماً أن ترد الودائع

-تغمد الله الجميع بواسع رحمته وألهم جميع أسرة آل مبارك ومحبيهم وزملاء الراحلين الصبر والسلوان -

 


رحم الله الرجل العصامي عبدالرحمن بن حمد القضيب (<!--)

 

كل ابن أنثى وان طالت سلامته ** يوما على آلة حدباء محمول

.. نعم: بهجة الدنيا لا تدوم لأحد ولا لأي إنسان مهما بلغ من المكانة علوا وجاها ومالا، وإن حاول استدامتها وتطويعها حسب إرادته، فإن الأمر لله، فالأيام تمر به سراعا وتطويه العقود الزمنية و تُناديه أن حان حطُ رحالك في باطن الأرض، فكل ذلك بمشيئة الحي القيوم، فبينما كان الأخ العزيز عبدالرحمن بن حمد القضيب – أبو حمد -يتمتع بكامل صحته، ويسير مغتبطا بين أسرته ومعارفه إذا هو يفاجأ بعارض صحي ألزمه الفراش، وظل متنقلا بين منزله وبين المصحات شهورا طويلة... أعييت الحيل أطباءه، حتى أسلم روحه لبارئها مساء يوم الأربعاء 28/6/1434هـ مأسوفا على رحيله وغيابه عن أهله ومحبيه..، وقد أديت عليه الصلاة بعد صلاة ظهر يوم الخميس 29/6/1434هـ بجامع الملك خالد بأم الحمام بالرياض، ثم حمل إلى مقبرة  (صفية) بحريملاء مهوى رأسه ومرتع صباه:


مُجاور قوم لا تزاور بينهم ** ومن زارهم في دارهم زار هُمدا !

ولقد ولد بمدينة حريملاء في أواسط الخمسينيات، وباكره اليتم هو وشقيقه سليمان وشقيقاته، فتولى رعايتهم عمهم ناصر بن سليمان الذي لم يألو جهدا في إسعادهم، وعمه الفاضل الشيخ عبدالله بن قضيب بن عبدالرحمن – رحمه الله - الذي ساواهم بأبنائه طيلة طفولتهم.. مما خفف عنهم وطأة اليتم وحرمانهم من حنان الأبوة – عظم الله أجرهما - وعند بلوغه سن السابعة التحق كغيره بإحدى الكتاب لتحفيظ القرآن الكريم، ثم درس بالمرحلة الابتدائية بحريملاء، وحينما حسن خطه وتجاوز سن الطفولة فكر في مزاولة عمل لبناء مستقبله معتمدا على الله، ثم على نفسه وحده:

وإنما رجل الدنيا وواحدها ** من لا يعول في الدنيا على رجل

لان الخط – آنذاك -يُعتبر أكبر مؤهل لمزاولة الأعمال الكتابية، فلم ير بدا من السفر إلى المنطقة الشرقية لتوفر مصادر الرزق والأعمال الوظيفية، مُلفِياً على معالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عدوان مدير المالية، وممثلاً للدولة السعودية لدى شركة أرامكو – آنذاك - رحمه الله ، فرحب به لظروفه رغم صغر سنه، كما هي عادته مع كل شاب سعودي يفد إلى المنطقة، فأحاله إلى مدير مكتبه الشيخ الفاضل حمد بن علي المبارك – والد المغتربين هناك، لتوظيفه فعين كاتبا، وكان في استقباله وإرشاده بكل شيء يهمه عملياً واجتماعياً الأخ الكريم عبدالله بن عبدالعزيز الصالح – رحمه الله - أحد موظفي المكتب الخاص لمعالي الشيخ عبدالله، مما خفف عنه وحشة الغربة هناك، وعندما انتقل الشيخ عبدالله بن عدوان وزيرا للمالية صحبه إلى جده  فترة من الزمن، ثم انتقل إلى مصلحة التقاعد، بعد ذلك انتقل إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وأخيرا عمل في الشؤون الخاصة بديوان ولي العهد الملك فهد بن عبدالعزيز-آنذاك -حتى تقاعد – تغمد الله الجميع بواسع رحمته -وكان طيلة أعماله متعددة المواقع محبوبا لدى رؤسائه وزملائه، كما أنه واصل لرحمه ومحبي والديه هو وشقيقه (أبو هيثم) العميد المتقاعد الأخ الشهم سليمان بن حمد باذلا جاهه وماله لمن يحتاج إليه، ولقد أجاد الشاعر طَرَفه بن العبد:

لعمرك مالأيام إلا معارة ** فما اسطعت من معروفها فتزود

وقد خلف ذرية صالحة خمسة من البنين وعدد من البنات وزوجتين صالحتين -تغمده الله بواسع رحمته -واسكنه فسيح جناته، والهم ذويه الصبر والسلوان.

رحم الله الأخت منيرة بنت عبدالعزيز المهيزع(<!--)

 

قضيتِ حياةً ملؤها البر والتُقى *** (فأنتِ) بأجر المتقين جدير

سرور أيام الدنيا وإن طال أمده فلا بد أن يعقب صفوه كدر، وهذه سنة الحياة سنة الله في خلقه، إنها لم تصفو لأي إنسان مهما حاول الاستمتاع بملذاتها العامة والخاصة، وبأطايب نعيمها المتنوعة، فإن ذلك كله لا يستطيع حجب وقوع شيء من أقدار الله من أمراض ومصائب، أو فقد عزيز، لأن الدنيا محفوفة بالمخاطر وبمكدرات النفوس، فبينما كنت عائدا من مدينة الرياض إلى بلدي حريملاء مقر إقامتي في ساعة متأخرة بعد حضور حفل زواج بهيج سعدت بلقاء نخبة من العلماء والأدباء، ولفيف من الزملاء والأصدقاء إذا برسالة جوال تشير بنبأ وفاة الأخت العزيزة منيرة بنت عبدالعزيز المهيزع أم أبناء عبدالعزيز بن محمد العجاجي وشقيقة الأخ الفاضل عبدالعزيز بن عبدالعزيز المهيزع (أبو عبدالقادر) الحبيبة إلى قلبي وقلوب أبنائها وبناتها وأسرتها ومحبيها، فكان لذاك النبأ وقع موجع ومحزن جدا، حيث صعدت روحها الطاهرة إلى بارئها قُبيل منتصف ليلة الأربعاء 19/7/1434هـ بعد معاناة طويلة مع المرض ومع ذلك كانت صابرة محتسبة الأجر والمثوبة من رب العباد إلى أن استوفت نصيبها من أيام الدنيا، فسبحان من جعل وقت وفاتها هو تاريخ ميلادها أي في 20 رجب، ولقد أديت صلاة الميت عليها بعد صلاة عصر يوم الأربعاء 19/7/1434هـ بجامع الملك خالد بأم الحمام، ثم تبع جثمانها الطاهر محمولا إلى المقبرة عدد كبير من المشيعين راجين المولى لها بواسع رحمته ومغفرته، بعد ذلك أخذ المعزون يتوافدون إلى مكان العزاء رجالا ونساء طيلة الأيام الثلاثة بأعداد كثيفة، وقد توالت الأحزان على مشاعري في الآونة الأخيرة، وكثرت ضرباتها بين جوانحي على أثر رحيل الكثير من الأقربين رجالا ونساء وأصدقاء ومعارف كُثر.. ولما تجف دمعة العين الحراء تفجعا وتحسرا على رحيل صديقي ابن عمي الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن إبراهيم الخريف رئيس شركة الخريف الذي تخطفته على عجل يد المنون بمشيئة علام الغيوب ومقدر الأعمار والآجال مساء الأربعاء 5/7/1434هـ..، حتى أعقب ذلك رحيل أختي منيرة – من الرضاعة -أم عبدالرحمن كما أسلفنا ذكرها  آنفا، ولقد حزنت حزنا شديدا على فراقها وغيابها عن نواظرنا، فعم الحزن أبناءها وبناتها وشقيقها عبدالعزيز، وخيم على أبناء وبنات أخيها الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مهيزع، وجميع أسرة آل مهيزع والعجاجي ومحبيها، - تغمدها الله بواسع رحمته - ، فهي امرأة صالحة كثيرة العبادة محبوبة لدى أسرتها وجيرانها، محبة للبذل في أوجه البر والإحسان، عطوفة على الأطفال وعلى الضعفة والمساكين..، قد حباها المولى لين الجانب مع الصغير والكبير، فهي على جانب من التواضع الجم والخلق الرفيع، فمنزلتها لدي منزلة الأخت الشقيقة حبا وتقديرا:

فلو أنني خيرت من دهريْ المنى *** لاخترت طول بقائها وخلودها

ولقد ولدت في حريملاء وقد مات والدها في صغرها  فقامت والدتها أمي من الرضاع (سارة بنت صالح العجاجي) – تغمدها الله بواسع رحمته – برعايتها ورعاية شقيقها عبدالعزيز وشقيقتها نورة – رحمها الله – بجانب زوجها الجديد.. والد الشيخ محمد بن عبدالعزيز المهيزع – رحم الله الجميع – ولقد ألحقتها والدتها بعد بلوغ السابعة إحدى مدارس الكتاب للبنات لتعلم القرآن الكريم والكتابة حتى ختمت القرآن وحفظت بعض أجزائه حفظاً عن ظهر قلب، وقد عاشت حياتها محبوبة لدى القريب والبعيد متصفة بهدوء الطبع ولين الجانب محسنة تربية من تحت يديها من أبناء وبنات بل ومن له علاقة بأسرتها، فحياتها عبادة خالصة لله وقدوة حسنة في تعاملها وإكرام من يقصدها، معرضة عن مساوئ الغير لذا عاشت العمر كله محبوبة حميدة السجايا باشة المحيا، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:

وجه عليه من الحياء سكينة *** ومحبة تجري مع الأنفاس

وإذا أحــــب الله يوماً عبده *** ألقى عليه محـــبة في الناس

ولي معها ومع شقيقها عبدالعزيز ومع والدتها: أمي التي أحسنت إلي بالرضاعة ذكريات جميلة طويل مداها لا تغيب عن خاطري مدى عمري، ولئن غاب عنا شخص أم عبدالرحمن وبات تحت طيات الثرى، فإن فعلها الجميل وذكرها العطر باق في قلوبنا:

لعمرك ما وارى التراب فِعالها *** ولكنما وارى ثياباً وأعظما

فمثلها يندر من بين فضليات النساء خلقاً وأدبا، وحبها عظيم متغلغل في سويداء قلبي مرددا  هذا البيت:

حياتُكِ كانت لي نعيماً وغبطةً *** وموتُكِ عاد الصدرُ منه حطاما !

- رحمها الله رحمة واسعة - وألهم أهلها وذويها  وأبناءها وبناتها وأخيها عبدالعزيز وجميع محبيها الصبر والسلوان.

 


الشيخ عبدالله بن رشيدان عالم جليل ذكره باق وسيرته عطره (<!--)

 

يموت قوم فلا يأسى لهم أحد *** وواحد موته حزن لأقوام

حينما يرحل العالم وقاضي البلد الى الدار الباقية يخيم الحزن على أهلها وما حولها من قرى وأرياف لعلو مكانة العلماء وطلاب العلم ، ولاسيما من عاش بينهم في طفولته، وفي ريعان شبابه، ثم الاستفادة من علمه وبتوجيهاته السديدة في حل قضاياهم اما بالصلح أو انجازها بالأحكام الشرعية، فأي عالم له مكانة في نفوس أبناء مجتمعة رجالا ونساء، فكلما يرد ذكره تلذ له الاسماع ويترحم عليه بعد وفاته، ويظل ذكره باق في الذاكرة على توالي الاعصر والدهور، فمن أولئك النخبة من العلماء الافاضل صاحب الفضيلة الشيخ عبدالله بن محمد بن رشيدان أحد القضاة المشاهير – رحمه الله – الذي ولد في مدينة حريملاء في أوائل القرن الماضي (1300) تقريبا، وقد كف بصره منذ طفولته ولكن الله سبحانه وتعالى عوضه نفاذ البصيرة وسرعة الحفظ، وقد ظهر ذلك عليه أثناء دراسته في أحدى الكتاب لتحفيظ القرآن الكريم، حيث فاق أقرانه المبصرين، وقد جمع بين قوة الحفظ ورقة الطبع وسماحة الخلق مبكرا..، بعد ذلك أخذ يتلقى مبادئ في العلم على بعض علماء بلده حريملاء منهم فضيلة الشيخ محمد بن فيصل بن حمد المبارك، وعلى الشيخ عبدالله بن حمد بن عبدالله بن عيسى، وشهرته "الحجازي" قاضي ثادق والمحمل – آنذاك – ، وعلى الشيخ عبدالله بن فيصل بن سلطان قاضي البلد - آنذاك - ومن زملائه الشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك والشيخ علي بن ابراهيم بن داوود، والشيخ محمد الجنوبي والشيخ عبدالعزيز بن سوداء والشيخ ابراهيم بن سليمان الراشد المبارك، وغير أولئك العلماء الأفاضل، وبعدما تمكن من حفظ المتون المعروفة وأخذ نصيبا من العلم هم بالشخوص الى الرياض عام 1331هـ ليتلقى المزيد من العلوم على كبار العلماء هناك، المعروفين كل في تخصصه، فحاول البعض من اقرانه أن يثنيه عن عزمه رحمة به وشفقة عليه لقلة ابصاره، وبعده عن اهله ورعايتهم له..، وكأني به يرد عليهم بهذا البيتين:

إن يأخـــذ الله من عيني نورهما *** فإن قلبي بصير ما به ضرر

أر بقلبي دنياي وآخرتي *** والقلب يدرك مالا يدرك البصر !!

ولثقة بالله ثم بنفسه وعصاه بيده صديقته، ورفيقة كل أعمى كما قال الفيلسوف أبو العلاء المعري:

عصا في يد الأعمى يروم بها الهدى *** أبر له من كل خدن وصاحب

فصمم على السفر الى الرياض وقد تروى من فيض علوم مشايخه الاجلاء مما أهله للقضاء فأمر الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – بتعيينه قاضيا بمدينة ضرما واستمر بها عددا من السنين يقضي ويجلس لطلبة العلم في أوقات فراغه، فالقاضي في تلك الازمان الفارطة يستفاد منه علما، وخطيبا، ومؤذونا للانكحة في غالب البلدان المتباعدة الاطراف، ثم عين قاضيا فترة من الزمن بمنطقة القويعية، وأخيرا نقل قاضيا بمدينة ثادق بالمحمل الى أن توفاه الله في 1378هـ حميدة أيامه ولياليه، تاركا أثرا طيبا، وذكرا حسنا وذرية صالحة بنين وبنات، وكانت له مع والدنا العالم الزاهد الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف – قبل أن يرحل من حريملاء الى ضرما ليعمل في سلك القضاء – جلسات عدة مفيدة في البحوث العلمية والتعمق في المسائل الفقهية، وفي علم الفرائض والمواريث، وغير ذلك من العلوم الأخرى التي أنارت دربه في الحياة العلمية والقضائية، فوالدنا – رحمه الله – يعتبر مرجعا لطلاب العلم في سائر الفنون العلمية وعلوم القرآن الكريم:

وليس على الله بمستنكر *** أن يجمع العالم في واحد

وهذه كلمة وجيزة جدا عن سيرة فضيلة الشيخ عبدالله بن رشيدان – أبو محمد – الذي عرف بدماثة خلقة ولين جانبه، والميل الى الصلح بين المتخاصمين، ولذا ظل ذكره طريا تلذ له الاسماع،  تغمده المولى بواسع رحمته ومرضاته.

وانما المرء حديث بعده *** فكن حديثا حسنا لمن وعى

 

 


أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب (<!--)

(الأستاذ سعد بن عبدالرحمن الدريهم رحمه الله)

 

أقول وقد فاضت دموعي غزيرة *** أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب

منذ عامين تقريباً كان أحبة وأصدقاء الأستاذ الكريم سعد بن عبدالرحمن الدريهم قد أعدوا كلمات وقصائد عن سيرته العطرة منوهين عن أفضاله وأعماله المشرفة، في عدد من المواقع بمناسبة تكريم مكتبة الدلم العامة التابعة لوزارة الثقافة والإعلام له، وقد جمعت تلك الكلمات الصادقة من أعماق محرريها في مجلة وزعت أثناء الحفل تعبيراً عن صادق ودهم، وابتهاجاً بمناسبة تكريمه برعاية صاحب السمو الملكي الأمير عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالعزيز محافظ الخرج سابقاً وكان الحضور مميزاً حضره نخبه من الأمراء والعلماء ورجال التعليم، ومن محبيه من تلاميذ وغيرهم من الأخيار.. واليوم يتسابقون في تأبينه تحسراً على رحيله بما تجودُ به قرائحهم من كلمات حزن وأشعار تفوح لوعة وتأثراً على فراقه الأبدي تسطرها أقلامهم وفاء له، وهكذا أيام الدنيا سجالاً: مسرات وأحزان.

طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذاء والأكدار

وقد هاتفني ابنه الأكبر الأستاذ عبدالعزيز بصوت حزين في صباح يوم الاثنين1-8-1434هـ قائلاً صديقك والدنا الأستاذ سعد بن عبدالرحمن بن سعد الدريهم لاقى وجه ربه آخر ليلة الاثنين 1 - 8 -1434هـ.

يا راقد الليل مسروراً بأوله *** إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

تغمده المولى بواسع رحمته.. فلم أملك في تلك اللحظة المحزنة سوى الترحم عليه، وإنزال السكينة والصبر على أسرته، وقد طوح بي الخيال متذكراً أياماً وليالي جميلة جداً تُقارب الأربعين عاما مضت ولن تعود أبدا، أثناء حضوري رئيساً للجان الاختبارات بدأ من عام 1395هـ لعدد من المدارس بمنطقة الدلم، ومقرها مبنى مدرسة ابن عباس التي كان يديرها الأستاذ الفاضل راشد بن سالم الحويطان (آنذاك) حيث قضينا أجمل الذكريات مع الأستاذ سعد ومع عدد كبير من أبناء الدلم وما حولها، وقد جرى عملنا في نفس المدرسة عامين غير متواليين، وعاماً ثالثاً بمدرسة الهياثم، كما أن الأستاذ سعد في ذلك الحين مديراً للمتوسطة والثانوية بالدلم، ومن ذلك الزمن قويت صلة الصداقة بيننا وبين إخوة كرام من منطقة الدلم، ولقد ولد الأستاذ سعد في مدينة الدلم عام 1360هـ وأتم الدراسة الابتدائية في المدرسة السعودية الأولى (ابن عباس حالياً) ثم حصل على الشهادة الثانوية بمعهد الرياض العلمي، بعد ذلك حاز على شهادة البكالوريوس في الجغرافيا من كلية الآداب جامعة الملك سعود رحمه الله عام 1384هـ ثم حصل على دبلوم التربية العام من كلية الآداب جامعة الملك سعود عام 1386هـ ثم تم تعيينه مدرساً في متوسطة وثانوية السيح عام 1385 إلى 1386هـ ثم مديراً لمتوسطة وثانوية الدلم إلى 1392هـ، وترأس عدداً من لجان الاختبارات والمراكز الصيفية ورأس نادي الشرق بالدلم مدة من الزمن، كما رأس بلدية الدلم عام 1396هـ إلى 1402هـ ثم مديراً لإدارة المياه بالخرج من عام 1402هـ إلى 1420هـ وأخيراً نائب اللجنة الأهلية بمركز التنمية الاجتماعية بالدلم من عام 1420هـ إلى 1426هـ، فكل الأعمال التي تسنمها شاهدة له بالإخلاص والكفاءة والمرونة، وهو بجانب ذلك مؤرخ ولوع بالجانب الإنساني، وقد صدر له مؤلف: (كتاب الخرج) من سلسلة هذه بلادنا عام 1413هـ فهو كتاب قيم يدل على اهتمامه بالتاريخ وتدوين ما يراه مفيداً للجيل الحاضر والقادم، وبعد وفاته - رحمه الله- تذكرنا قول العلامة عبدالرحمن بن إسماعيل الخولاني في رثاء شيخه:

ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه *** حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا

ويعتبر موسوعة في علمه وثقافته العامة، ولقد كان باراً بوالديه واصلاً رحمه محبوباً لدى أصحابه وجيرانه، مقدراً لكبار السن في العائلة عاطفاً على صغارهم، وله دور كبير في تأسيس صندوق العائلة (صندوق آل دريهم التكافلي). وعندما علمت عن وفاته يرحمه الله بادرت بالشخوص من حريملاء إلى جامع الشيخ عبدالعزيز بن باز بالدلم لأداء الصلاة بعد صلاة عصر يوم الاثنين 1/8/1434هـ وقد ضاق المسجد رغم رحابته بمئات المصلين من محافظة الخرج ومن مدينة الرياض والمحافظات الأخرى مترحمين عليه وداعين له بطيب الإقامة في جدَثه إلى أن يأذن الله بنهوض جميع الخلائق ليوم الحساب، وقد خيم الحزن على الكثير منهم وعلى أبنائه وأخوته، وكأن لسان حال كل واحد منهم وهو يلقي النظرة الأخيرة على جثمانه قبل أن تخفيه الحفر يردد في خاطره معنى هذا البيت المشحون بلوعات الفراق:

طوتك يا سعد أيام طوت أمما *** كانوا فبانوا وفي الماضين مُعتبرُ

وعندما نزور أحبابنا الكرام بالدلم نراه في طليعتهم مستبشراً بحضورنا ومبدياً رغبته في حضورنا لمنزله كما هي عادة نظرائه الأخيار، وقد جبل على الكرم وطيب المعشر. ولئن غاب عنا (أبو عبدالعزيز) فإن ذكره الجميل وأعماله الجليلة لا تنسى أبد الأيام:

وغدا سيذكرك الزمان ولم يزل *** للدهر إنصاف وحسن جزاءِ

تغمده الله بواسع رحمته وألهم ذويه وأبناءه وبناته وأخوته وأسرة آل دريهم عموماً ومحبيه الصبر والسلوان.


الشيخ محمد بن صالح السحيباني عالم جليل بقي ذكره خالداً (<!--)

 

حبيب عن الأحباب شطت به النوى ** وأي حبيب ما أتى دونه البعدُ

ذكريات زملاء الدراسة وتلقي مبادئ العلم تبقى خالدةً في طوايا نفوسهم مهما طال بهم الزمن، وتباعدت أجسامهم، فإن ذكرهم وحبهم ساكن بين الجوانح، سواء بعد مسافات أو بعد الخمسة الأشبار:

والشرق نحو الغرب أقرب شقة **  من بعد تلك الخمس أشبار !!

فمن أولئك الزملاء الأخيار الشيخ الزاهد الفاضل محمد بن صالح بن علي بن محمد السحيباني الذي ولد في البدائع بمنطقة القصيم سنة 1325هـ، وقد فقد نعمة البصر في طفولته، ولم يفقد نفاذ البصيرة، فلما بلغ سن السابعة من عمره قرأ القرآن الكريم في كتّابها وحفظه عن ظهر قلب، ثم بدأ في طلب العلم على علماء بلده وما جاورها من مدن القصيم، ومن أبرز مشايخه الذين تلقى العلم عنهم الشيخ محمد العلي الوهيبي إمام جامع البدائع، والعلامة الشيخ عبدالله بن سليمان بن بليهد، والشيخ محمد بن مقبل قاضي البكيرية، وقرأ على غيرهم ، ثم انتقل الى الرياض فقرأ على سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم وعلى أخيه الشيخ عبداللطيف وعلى الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ وغيرهم من العلماء، حتى أدرك مقصده، وبعدما غرف من صافي العلوم الدينية النصيب الوافر على أيدي مشايخه في مواد: التوحيد، الحديث، والفقه، والفرائض، وعلوم النحو مع حفظ المتون العلمية المعروفة، تم تعيينه قاضياً في بلده (البدائع) وذلك في عام 1374هـ وأستمر حتى أحيل الى التقاعد لمرضه عام 1398هـ وقد وافاه أجله المحتوم في 20 من رمضان 1400هـ حيث حزن الكثير عليه من أسرته وأبنائه: عبدالله أبو أحمد، وعبدالرحمن، وغيريهما من أفراد عائلته ومحبيه تغمده المولى - بواسع رحمته ومغفرته – ولي معه ومع أخيه الشيخ علي، ومع الطالب بالمرحلة الابتدائية - آنذاك - عبدالله نجل الشيخ محمد أجمل الذكريات في ذاك الزمن حيث سعدت بجوارهم – عند قدومي من حريملاء عام 1369هـ - في داخل أحد البيوت بحي دخنه متجاورين الغرف التي أمر جلالة الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – بتخصيصها مع بعض الأربطة لطلاب العلم المغتربين من خارج مدينة الرياض ومن بلدان عدة رغم بعد المسافات ـ بل والبعض من اليمن الشقيق ومن بلدان الخليج.. أذكر أن بعضاً منهم: أسمه مطر تلقى مبادى العلم معنا عام 69/1370هـ مع تخصيص مكافئات حسب مستوياتهم العلمية ترغيباً وتشجيعاً لهم بمواصلة نهلهم من حياض العلوم المفيدة على أيدي المشائخ الأجلاء، ثم انتقاء نخبة منهم لتولي القضاء في أنحاء المملكة، وللدعوة والإرشاد في الهجر والأرياف، لتبصير العوام بأمور دينهم، مع الإمامة في المساجد الكبرى..، فالملك عبدالعزيز – رحمة الله – من مهامه محاربة الفقر والجهل، وتنوير صدور أبناء شعبه، وترسيخ أصول العقيدة المثلى في نفوسهم..، فالشيخ محمد – أبو عبدالله – لا تفوته مجالس سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم المفتي بشرقي المسجد، بعد صلاة الفجر مباشرة، وفي منزله بعد طلوع الشمس فهو يعد من كبار طلاب العلم.. رزانة وطول باع في المسائل العويصة، فيفرح زملاؤه حينما يطرح بعض الأسئلة على سماحة الشيخ فيستفيد الجميع من الإجابات والبسط  فيها لتعم الفائدة، كما أن الشيخ الزاهد العالم الجليل صاحب السمو الأمير محمد بن عبدالعزيز آل سعود لا يفوته حضور حلقات ومجالس الشيخ محمد بن إبراهيم..، وقد يطرح بعض الأسئلة وهو عالم بالإجابة وإنما قصد الفائدة للطلبة المبتدئين، وهكذا حياة العلماء وطلاب العلم حياة جدٍ واصطياد فوائده وشوارده، بعد ذلك تفرقنا وفرقتنا الليالي والأيام، ثم التحقت بالمدارس النظامية بدءً بالدراسة بدار التوحيد بالطائف عامي 71/1372هـ حتى حصلنا على الشهادة العالية بكلية اللغة العربية بالرياض عام 1378هـ ، وفي صيف عام 1386هـ جمعتنا دورة مديري المدارس المتوسطة والثانوية في الطائف بالصديق الحبيب الأستاذ عبدالله بن محمد السحيباني – أبو أحمد – مدير المتوسطة والثانوية بالبدائع ففرحنا بذاك اللقاء متذكرين أيام سكننا معاً بحي دخنة لدى المشايخ، ومعنا في ذلك البيت عدد من طلاب العلم الذين غابوا عنا وباتو تحت طيات الثرى:

أناديهم والأرض بيني وبينهم  **  ولو يسمعوا صوتي أجابوا فأسرعوا

أمثال المشايخ : عبدالله بن عبدالرحمن الغديان، وفهد بن عبدالرحمن الحمين، وعبدالرحمن بن حمد بن شبيب، ومحمد بن عتيق، وعبدالله بن إبراهيم بن خُميس، وعبدالله بن ناصر المزيني، وناصر بن عبدالعزيز بن ناصر، وعبدالله بن سليمان الحميدي، وغير هؤلاء من الزملاء فذكرياتنا الجميلة معهم لاصقة في جدار الذاكرة وفي طوايا النفس مدى العمر – رحمهم الله جميعاً –  ومن ذلك الوقت تجديد التواصل وتبادل الزيارات مع (أبو أحمد)، وكنا نزوره في منزله وفي مزرعته بالبدائع، فيبالغ في اكرامنا، ونبات عنده أحياناً عندما تسنح الفرصة، وبعد رحيلة – رحمه الله – بألمانيا يوم الأربعاء 4/2/1410 هـ،  أستمر التواصل مع أبنائه الكرام على فترات..، فعلى أي حال فذكرياتنا مع الشيخ محمد العالم الجليل، ومع والدهم الصديق الحبيب لا تغيب عن خواطرنا مدى العمر:

يا حبذا أزمنٌ في ظلهم سلفت ** ما كان أقصرها عمراً وأحلاها

أوقات أنس قضيناها فما ذكرت ** إلا وقطع قلب الصب ذكراها

تغمد الله الجميع بواسع رحمته ومغفرته.


الشيخ عبدالله المزيني غاب ولم يغب ذكره (<!--)

 

بعدتم عن العينين فازداد حبكم *** وغبتم وأنتم في الفؤاد حضور

من الناس من يُخلق هادئ الطبع لين الجانب سمح الخلق، قليل الكلام فإذا نطق نطق بصوت هادئ يشد السامع حسن حديثه، مضفيا عليه مسحة هيبة وتواضع، وهذه الصفات الحميدة هبة من الله يهبها من يشاء من عباده الصالحين المتقين ليحبب الناس إليهم، وليكونوا قدوة صالحة لأبنائهم وبناتهم ولأبناء مجتمعهم، فالشيخ الفاضل القاضي عبدالله بن ناصر المزيني ممن تحلى بتلك الصفات الجميلة جعلت النفوس تميل إليه محبة واحتراما، ولقد ولد ذاك العالم الزاهد الفقيه بمدينة الدرعية قرابة عام 1350 هـ، وقد كف بصره في طفولته، وعند بلوغ السابعة من عمره ألحقه والده بإحدى الكتاب، وكان على جانب من الذكاء وسرعة الحفظ، فلما أكمل حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب أخذ يحضر دروس العلم بمساجد الدرعية وسماع ما يقرأ من كتب المطولات، فنما إليه حب العلم واقتناص فوائده، فلم ير بدا من الذهاب إلى مدينة الرياض لينضم إلى طلبة العلم لدى فضيلة الشيخ عبداللطيف والى أخيه سماحة المفتي الشيخ محمد بن ابراهيم بمسجده، وبعد طلوع الشمس يذهب الكبار منهم إلى مجلسه بمنزله ليتلقوا المزيد من تلك الدروس المفيدة بتوسع وتعمق ، فمجالس المشايخ – آنذاك -بمنزلة الجامعات حيث أنها تعج بأعداد كبيرة من طلبة العلم على تعاقب السنين إلى أن وجدت الدراسة النظامية، بدءا بافتتاح المعهد العلمي عام 1371هـ وفروعه في كبريات المدن المغذيات لكليتي الشريعة واللغة العربية، ولقد سعدت بالسكن مع الشيخ عبدالله المزيني عامي 69/1370هـ في أحد بيوت (الإخوان) التي أمر جلالة الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – بتخصيصها للطلبة المغتربين ترغيبا لهم مع صرف مكافآت لكل طالب تشجيعا لهم على مواصلة الدراسة حتى سن النضج العلمي والفقهي ليتهيّأوا للسلك القضائي والوعظ والإرشاد وإمامة المساجد الكبرى والخطابة بها..، ولقد أدت ثمارها زاكية في تلك الأزمان – غفر الله لمشايخنا، ورحم المؤسس لصرح هذا الوطن الغالي - ولقد عشنا داخل ذاك البيت كأسرة واحدة كل ثلاثة أو أربعة في غرفة نعيش ببساطة وتآلف مستغلين أوقاتنا في المذاكرة وحفظ المتون المعروفة مثل كتاب التوحيد، ومتن العقيدة الواسطية، ومتن الأربعين النووية، ومتن زاد المستقنع وغير ذلك من المتون، ومع ذلك لا يخلو جونا الروحاني من بعض المداعبات الخفيفة وتبادل الطرائف مع الشيخ عبدالله المزيني – أبو سعد– وبعض الأخوة لتخفيف شدة وطأة الغربة عن الأهل والأوطان:

بلاد بها كنا وكنا نحبها  *** إذ الناس ناس والزمان زمان

وكان – رحمه الله – كثير الاطلاع على ما في بطون الكتب من شوارد وفوائد جمة، فيقضي الساعات الطوال في اقتناص فرائدها وحفظها بمستودعات ذاكرته ليقتات منها عند اللزوم، وكنت ألقبه – بابن رجب – الذي كان دائماً يحرص على الحصول على مؤلفاته والإبحار بين دفتيها، فهو شغوف بالتروي من حياض صافي العلوم – رحمه الله – وهذا يذكرنا بما ذكر في سيرة أبي جعفر الطبري -رحمه الله -قبيل وفاته بوقت وجيز.. حيث سمع دعاء مفيدا فاستدعى مِحْبرة وصحيفة فكتبه، فقيل له (أفي هذه الحال تكتب!!) فقال ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتى الممات، وكان إماما وقدوة في حياته وبعد مماته، ويصدق عليه قول القائل:

سعدت أعين رأتك وقرت *** والعيون التي رأت من رآكا !!

وبعد افتتاح المعهد العلمي بالرياض استمر به مواصلا بكلية الشريعة حتى نال الشهادة العالية بها، وفي عام 1382هـ
-تقريبا-عين قاضيا بتبوك واستمر بالمحكمة الشرعية مدة (سبعة وعشرين) عاما، وهذا يدل على كفاءته وإنجاز قضاياه في وقتها بكل عدل وإنصاف حتى توفاه الله إثر مرض لم يمهله في عام 1410هـ، وكان أثناء إقامته هناك يجلس لبعض طلبة العلم بالمسجد فترة من الزمن أثناء فراغه لتدريس مادة الفقه وعلم الفرائض، وإماما وخطيبا مدة إقامته هناك، وكان محبوبا لدى أبناء وأهالي تلك المنطقة لما يتمتع به من دماثة خلق وعلم واسع في جميع كتب العقيدة والفقه والحديث وعلوم المواريث، وقد استفاد الكثير من علمه وتوجيهاته الأبوية، وقد استمر التواصل بيننا عبر الهاتف طيلة مكثه بتلك المنطقة، ومع أبناءه البررة بالرياض في تبادل الزيارات معهم على فترات.. وحضور بعض مناسبات زواجاتهم..، وكأن لسان حال والدهم الشيخ – رحمه الله- يردد معنى هذا البيت:

نبادله الصداقة ماحيينا *** وإن متنا سنورثها البنينا !

وأذكر أني قد زرته في مرضه قبيل وفاته بمستشفى القوات المسلحة بالرياض وهو تحت وطأة المرض، فقلت له هل ترغب أن أهدي لك متن القصيدة النونية القحطانية، ففرح بذلك رغم ما يكابده من عقابيل المرض الذي لم يمهله طويلا، حيث توفي بعد ذلك بثلاثة أيام أو أربعة، ولئن غاب عنا زميلنا وحبيبنا – أبو سعد – فإن ذكريات أيامنا الجميلة معه لا تغيب عن خواطرنا أبد العمر(رحمه الله رحمة واسعة). 


ورحل رفيقي صالح بن عبدالله بن سليم (<!--)

       

سقى الله أرضاً حلّها قبر (صالح) *** ذِهاب الغوادي المُدْجنات فأْمرَعاَ

فراق أصدقاء طفولة الإنسان له وقع خاص مؤلم ومحزن جداً يظل مكثه في النفوس طويلاً، لأنه قد قضى أحلى أيامه وساعات عمره معهم في مرحٍ وفرح ولم تشغلهم الدنيا بهمومها ومتاعبها.

أيام كنت أناغي الطير في جذل *** لا أعرف الدنيا و بلواها

فهم يقضون سحابة أيامهم وجزءاً من الليالي المقمرة.. جماعات وفرادا في مزاولة ألعابهم  ونشاطاتهم المتنوعة المحببة إليهم، كالألعاب الشعبية ومزاولة السباحة في برك النخيل..، وفي منخفضات تجمعات السيول في مواسم الأمطار، لما يجدوه من متع، وبالتسابق – أحيانا – بالجري السريع..، وفي صعود الجبال..، وتسلق بعض الأشجار وفسائل النخيل القصيرة – مثلاً – وغير ذلك من وسائل الحركة والترفيه..، فهي المتاحة لهم في ذلك الزمن.. لمزاولة هوياتهم المتعددة لتفريغ طاقاتهم المتقدة، لذا تقوى أواصر الألفة والمحبة بينهم، مكونة ذكريات جميلة تبقى لاصقة بين جوانحهم حتى مع كبرهم.. لا يمحوها ماح إلى أن يفرقهم هادم اللذات ومفرق الأحباب، وهذا هو شأني مع صديقي ورفيقي الوفي الأخ الفاضل صالح بن عبدالله بن سليم الذي انتقل إلى دار الخلود إلى رحمة الله بعد منتصف ليلة الجمعة الموافق26/8/1434هـ.

يا راقد الليل مسروراً بأوله *** إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

وقد حزنت كثيراً على فراقه وبعده عنا بعداً لا يرجى إيابه، وهذه سنة الله في خلقة: حياة ثم موت – تغمده المولى بواسع رحمته – فأديت عليه الصلاة بعد صلاة يوم الجمعة 26/8/1434هـ بجامع الحزم بمحافظة حريملاء، وقد ضاق المسجد وساحاته بالمصلين.. رجالاً ونساء، ثم تبعه خلق كثير إلى مرقده بمقبرة (صفية) المعروفة بحريملاء ـ رحمه الله ـ وعندما حضرت لأداء الصلاة رآني أحد أبنائه قبل دخول المسجد منادياً قائلاً الوالد في مغسلة الأموات المجاورة للمسجد إن رأيت أن تلقي عليه نظرة وداع، وتدعو له بالرحمة والمغفرة  من رب العباد، فلم أرى بداً من استجابة الدعوة، فلما كشف الغطاء عن محياه الذي يشع نوراً وطراوة قبّلتُ ذاك الجبين:

تخال بقايا الروح فيه لقربه *** بعهد الحياة وهو مَيتُ مقنع

فلم أتمالك دفع دموع عيني في تلك اللحظة، لحظة الوداع الأخير، وكُلّي حزن وأسى على رحيله الأبدي داعياً له بطيب الإقامة في جدثه إلى أن يأذن الله بخروج جميع الخلائق من قبورهم.. ولقد ولد في محافظة حريملاء، وختم القرآن الكريم مبكراً على يد الشيخ المقرئ محمد بن عبدالله بن حرقان – رحمه الله – وكان محافظاً على أداء الصلوات منذ صغره، ويحضر دروس العلم، ويستمع للقراء في كتب المطولات التي تقرأ في المساجد قبل أداء الصلوات..، فَنَمَتْ لديه ثقافة دينية عامة، استفاد منها في قابل حياته، فطلبه فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن سعد  قاضي حريملاء – آنذاك – ليعمل لديه بالمحكمة الشرعية في بعض الأعمال.. التي تتناسب مع مستواه ومقدرته، فحذق الكتابة والإملاء مع جودة الخط، وفي تلك الفترة أم المصلين بمسجد بن غدير..، ثم شخص إلى الرياض فعمل بالرئاسة العامة لتعليم البنات حتى تقاعد، وقد عمل إماماً في عدد من المساجد بالرياض: بالمربع، وحي عليشة، وأخيراً مؤذناً في مسجد التيسير بظهرة البديعة الذي يؤمه ابنه الأستاذ عمر، وكان من الصُلحاء الزّهاد يقضي جُلّ وقته في اخر أيام حياته في تدارس القرآن الكريم مع الأستاذ الفاضل عبدالله بن سليمان الحميدي – ابو عصام – صديق الجميع بالمسجد المجاور لسكنهما (رحمهما الله) فهو على جانب كبير من الخلق الكريم تعلو محياه السماحة ولين الجانب والتواضع الجم مع الكبير والصغير، محبوباً لدى جيرانه ومع زملائه في العمل ورفاق دربه.. ولي معه ذكريات عمل خفيف.. امتداداً لذكريات الصغر بحريملاء يطول مداها..، كما لا أنسى تفضله علي بإقراضي مبلغاً من المال بمكة المكرمة زمن أداء فريضة الحج حيث احتجت حاجة ماسة لذلك المبلغ لندرة معارفي هناك، فجزاه الله عني خيرا ورحمه رحمة واسعة، وكان التواصل معه وتبادل الزيارات فيما بيننا على فترات. طيلة العمر المديد فحياته كلها نشاط وعمل، وتواصل مع أحبته وأسرته، والعزاء في ذلك أنه قد خلف ذرية صالحة تدعو له وتجدد ذكره بالأعمال الخيرية، فأكبر الأبناء: عبدالعزيز – رحمه الله – ثم بعده سليم، وعبدالله، وعبدالرحمن، وعمر، ومحمد، وعدد من البنات، ولئن غاب عنا شخص – أبو عبدالعزيز – فإن ذكره الطيب باقي في خلدي وفي صدور أصدقائه وأحبائه.

كم راحل وليت عنه وميت  *** رجعت يدي من تربه غبراء

رحمه الله رحمة واسعة وألهم ذريته وأبناءه وبناته وعقيلته أم عبدالرحمن وأبناء عمه ومحبيه الصبر والسلوان.


الأديب راشد الحمدان توارى عن الوجود (<!--)

 

بدالي أن الناس تفنى نفوسهم ** وأموالهم ، ولا أرى الدهر فانيا !

كل طالب مر على دار التوحيد في مدينة الطائف سواء من هم قبلنا أو بعدنا زملاء فصل أو زملاء دراسة، فكل أولئك لهم مكانة حب في شعاب النفوس, ولا نعلم سر هذا الحب سوى صدق نية الملك عبدالعزيز(رحمه الله) والرابط الأخوي المتأصل في نفوس الكثير ممن لاذوا في أحضان- أم المدارس - وترووا من فيض حياض علوم معلميها فطاحل علماء الأزهر القدامى الأفاضل - رحمهم الله - فمن أولئك زميل الدارسة الأستاذ اللطيف راشد بن محمد الحمدان الذي غادر الحياة الدنيا إلى الدار الآخرة, دار النعيم المقيم لمن شملتهم رحمة المولى, وذلك في أول أيام شهر الرحمة والبركة عام 1434هـ بعد معاناة طويلة مع المرض - رحمه الله رحمة واسعة - ولقد ولد في محافظة المجمعة وباكره اليتم فعاش بين أقرانه وأترابه متوقد الذهن والذكاء، وما بداخله من لوعات الفراق والحرمان من حنان الأمومة، ولكن ذلك لم يعقه عن شق طريقه والمثابرة في مواصلة الدراسة بكل عزم ونشاط, وعندما حصل على الشهادة الابتدائية ورأى بعض أبناء بلده يأتون من دار التوحيد إلى بلدهم المجمعة فترة الإجازة وقد حصلوا على شهادات التفوق الدراسي هناك..., حيث وصفوا له العناية بالطلاب وصرف مكافآت سخية لهم مع تامين سكن(مهجع) مريح جماعي للطلبة المغتربين بجوار مبني الدار... فلم يرى بُدا من التوجه معهم عند بداية العام الدراسي على متن السيارة التي أمر جلالة الملك عبدالعزيز- رحمه الله - بتامين نقل كل الطلاب إلى أوطانهم ذهابا وإيابا سنويا - فألفى على أحد أقربائه الأخ إبراهيم الحمدان أحد العاملين بالدار, فاهتم به لصغر سنه عنده فاستمر في مواصلة الدراسة بدار التوحيد حتي حصل على الشهادة الثانوية، ثم اتجه إلى كلية الشريعة وا�

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 415 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف

mager22
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف **** ولد ونشأ في حريملاء , 80كم شمال غربي مدينة الرياض . درس في حلقات العلم على المشايخ بالرياض . بدأ الدراسة النظامية بدار التوحيد بالطائف 1371 - 1372 هـ . أنهى التعليم الثانوي بالمعهد العلمي بالرياض عام 1374 هـ . كلية اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,356