عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف ( فقد ورثاء )

فقد ورثاء

علي بن محمد الشدي والذكر الجميل (<!--)

 

عليك سلام الله مني تحية ً **  ومن كل غيث صادق البرق والرعد

من سعادة الإنسان في هذه الحياة أن يمنحه المولى رحابة الصدر، والاستئناس بمن حوله من أقارب وجيران ورفاق درب في مضمار حياته بدأ من لداته وأترابه في صغره فزمن الطفولة، من أحلى أيام عمر الإنسان وتعتبر من قواعد البنية الشخصية للإنسان والاستعداد للخوض في مسارات الحياة، فإذا استمر في التواصل مع أحبته وجميع الصحب من أفراد مجتمعه فإنه يسعد في حياته ويمضي سنوات عمره مرتاح البال فالإنسان كما يقال: مدني بالطبع يسعد بمن حوله من الأخيار والتحدث معهم وتبادل الزيارات فيما بينهم إن أمكن حسب ظروف كل منهم وموقعهم وعاداتهم، فمن الذين يألفون ويُؤلفون الصديق الكريم الشيخ علي بن محمد الشدي الذي رحل عنا إلى الدار الباقية في عام 1416هـ، وقد خيم الحزن على أسرته ومحبيه وعلى أجواء مدينة حريملاء فأقيمت صلاة الميت عليه في جامع الملك خالد بأم الحمام ثم تبعه خلق كثير من المشيعين داعين له بالمغفرة ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ وقد ولد في مدينة حريملاء وترعرع في أكنافها بين أحضان والديه ودرس بالكتاب وتعلم الخط، فأكمل كتاب الله العزيز على المقرئ محمد بن عبدالله الحرقان، وكان يحضر مجالس العلماء ومجالس بعض القضاة الذين توالوا على حريملاء آنذاك فاستفاد فوائد كبرى من الإنصات وسماع شروحات المتون والمسائل الفقهية التي تقرأ في المساجد وفي مجالس بعض طلاب العلم، وقد حفظ بعض النصوص الشرعية تلقائياً مع ما يسمعه من كتب المطولات والسير، فالله سبحانه قد وهبه حدة في الذكاء وجودة في الحفظ مما أكسبه معرفة وحنكةً وفهماً استنار به في حياته، ولم يقتصر على ذلك بل إنه يناقش في بعض المسائل الفقهية والعلمية، فهو قوي العارضة والمجادلة المقنعة، وقد ذكر لي الشيخ محمد بن عبدالعزيز الشدي ـ رحمه الله ـ طرفاً من نقاشه معه ومع غيره من العلماء ليصل إلى الحقيقة، فقد ثقف ثقافة واسعة أهلته بأن يسير في الحياة بخطى ثابتة مكرماً ومحبوباً لدى محيطه الأسري والاجتماعي، وقد حظي بثقة بعض كبار المسؤولين في الدولة لإخلاصه ووقوفه بجانب أصحاب الفلاحة ومطالبة الدولة ـ أعزها الله ـ بمضاعفة ما يصرف لهم من قروض تعينهم على التوسع في الفلاحة والزراعة هو وصديقه الراحل عبدالعزيز الوعلان ـ رحمهما الله ـ دون مقابل لهما ، فلما علمت الدولة بإخلاصهما وحرصهما على التشجيع لأجل الأمن الغذائي عُينا للمحاماة عن أرباب الفلاحة والمزارعين تقديراً لنشاطهما، فما كان من الشيخ علي إلا أن قال لأحد المسؤولين الكبار ـ أحد أنجال الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه ـ ولو عينتمونا سنستمر في المطالبة لتشجيع أصحاب الفلاحة ليزداد إنتاجهم الزراعي فرد عليه الأمير.. يحفظه الله مبتسماً قائلاً ما وظفناكم إلا لإخلاصكم وإلحاحكم فالدولة ـ يحفظها الله ـ تحرص كل الحرص على إقراض الفلاح وتشجيعه، وفي الغالب تعفيهم من تسديد الأقساط، ثم عمل أبو محمد وكيلاً لإدارة أوقاف آل سعود التي كان يرأسها الشيخ صالح بن عبدالرحمن الرويتع، كما عمل مشرفاً على مشروع مزارع الملك خالد ـ يرحمه الله ـ فأبو محمد يحضى بتقدير الملك خالد ويأنس بآرائه في شؤون الفلاحة حتى إنه في بعض الأحيان يقال إن الملك خالد يدنيه بجانبه على مائدته الخاصة لمكانته لديه وحسن اختياره لجيد أنواع النخيل والإشراف على غرسها فهو لطيف في حديثه وفي إيراد بعض القصص والطرائف الجميلة التي تؤنس الملوك ولله در القائل:

وما بقيت من اللذات إلا **  محادثة الرجال ذوي العقول

وكان يرد على من يغبطه في عمله بالديوان الملكي بقول الشاعر:

صفا لي العيش مخضرا جوانبه **  فما وجدتُ بحمد الله تكديراً

وكان رحمه الله يدعونا لزيارته بمزرعته بالوصيل أنا والعم عبدالله بن صالح العجاجي والأخ عبدالرحمن بن عبدالله العمراني، ولصلة القرابة مع والدته رحمها الله فيقوم بإكرامنا مؤكداً المبيت عنده، ولا يسمح لنا بالمغادرة إلا بعد تناول طعام الإفطار من الأكلات الشعبية الشهية، مع إهدائه لنا من جيد التمر في مواسم جذاذ النخيل، وحاثاً على التواصل وتكرار الزيارة له رحمه الله وكان يقضي معنا بعض الوقت قبل النوم فيحلو السمر معه بتنوع ما يتطرق إليه من مواضيع شائقة، فالذكريات الجميلة مع  (أبو محمد) رتلها ومداها يطول، أسكنه الله فسيح جناته وهذه الكلمة الوجيزة مجرد خاطرة وتلذذ بذكره العطر الذي لا يغيب عن خاطري مدى الأيام.

 

 

 


أخي محمد في ذاكرة الزمن (<!--)

 

نبكي على الدنيا وما من معشر **  جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا

ويقول الآخر:

وكل أخ مفارقه أخوه  **  لعمر أبيك إلا الفرقدان

شاءت قدرة المولى أن يكون يوم الخميس 12/5/1395هـ  هو آخر أيام إقامة أخي محمد في الدنيا -يرحمه الله -وقد عاش في طفولته كأمثاله بين أحضان والديه، وبين لداته ورفاق دربه، وعند بلوغه سن السابعة ألحقه الوالد بإحدى مدارس الكتاب بحريملاء ـ وكان على مستوى من الذكاء والفطنة، وسرعة الحفظ رغم صغر سنه حتى ختم القرآن الكريم كاملا مع حفظ بعض أجزائه، وحفظ بعض الآيات من أواخر السور التي يتكرر مرورها على سمعه أثناء تأدية الصلوات الجهرية، مما سهل عليه حفظها تلقائيا، ومعلوم أنه نشأ في بيت علم وأدب، وكان يصحب والدنا الشيخ عبدالرحمن إلى مجالس الذكر، وإلى المسجد الذي يصلي فيه فيسمع تلاوة القرآن الكريم وقراءة بعض الكتب المفيدة التي يتلوها بعض طلاب العلم على والدنا -رحمه الله -أمثال الشيخ أحمد بن علي الشدي، والشيخ عبدالعزيز بن محمد الداود، والأستاذ عبدالله بن سليمان الحميدي، وغير هؤلاء الأخيار، وذلك قبيل صلاة العشاء، وبعد صلاة العصر مباشرة من كل يوم ..، حيث يعلق في ذهنه حفظ الكثير من الأحاديث النبوية، وبعض القصص التاريخية ..، وغيرها من أخبار الماضين مما كون لدى أخي محمد حصيلة عامة من المعلومات وكانت سببا قويا في تربية ملكة الحفظ وسعة الأفق لديه ..، فالاستعداد الفطري من أقوى روافد المعرفة في تثبت ما يمر بخاطر الإنسان، وعلى سمعه وبصره كل هذه كونت لديه مخزونا ثرا من شتى المعارف، والمواد الأخرى ..، وعندما عين الملك عبدالعزيز والدنا قاضيا في قرية (العليا) عام 1347هـ الواقعة في الجانب الشمالي الشرقي من مملكتنا الحبيبة إلى قلوبنا كان من الضروري أن يحتاج إليه الوالد لمرافقته وملازمته طيلة مدة عمله فتوجها من حريملاء عبر الصحراء الشاسعة الشاقة مرقلين صوب مقر العمل الجديد (بقرية العليا) كما أسلفنا، حيث اختارا جملا من أقوى المطايا وأصبرها على حمل الأثقال وقطع الفيافي والقفار، فوضعا على ظهره بعض مستلزمات السفر والإقامة هناك من كتب ومراجع..، وكمية من الأرزاق والأطعمة، وما يحتاجون إليه من متطلبات السكن، فالجمل في تلك الحقبة يعتبر من سفن الصحراء لقطع المسافات الطويلة المحفوفة بمخاطر الطريق من متاهات وخوف من الهوام والسباع، ومن وحوش البراري والفلوات، فسارا أياما وليالي حتى وصلا هناك واستقرا في تلك الهجرة، ونزلا في حجرة أو حجرتين..، على ما فيهما من ضيق وقلة راحة ..! ، وقام الأخ محمد بخدمة الوالد خير قيام في شؤونه الخاصة، وفي استقبال الخصوم إن وجد أحد منهم..، لأن وجوده معه فيه إيناس، وتخفيف من وطأة وحشة الغربة، والبعد عن والدته -جدتي -وعن بنياته الصغار -آنذاك -وذلك قبل طلوعي على الدنيا، فالأخ محمد هو أكبر أنجال الوالد(رحمهم الله)، وفي وقت فراغه ينتهز الفرصة في البيع والشراء من حيوانات مثل الجمال والأغنام  وما تنتجه من السمن والأقط، بل ومن سائر البضائع المتنوعة، التي ترد من البلدان المتاخمة لمقر عملهما مثل الكويت وأطراف العراق.. الخ، وغير ذلك من متطلبات المجتمع في هاتيك الديار والبقاع ..، فهي تعتبر مصدر رزق وربح، وذلك لقلة المادة لدى الوالد، وشح الموارد المالية التي  يتكئ عليها الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -في تمويل وتصريف أموره ومستلزمات الحياة لإسعاد رعيته من موظفين وقضاة وجنود وغير أولئك ..، وذلك قبل أن تشرق شمس الحياة المادية والحضارية على ربوع مملكتنا الحبيبة على قلوبنا، فعاش الوالد في تلك الحقبة القاسية عيشة كفاف وبساطة، وبعدما أمضى عاما تقريبا ألح على الملك عبدالعزيز ليعفيه من القضاء، فأمر بنقله إلى بلدة (سنام) بمنطقة القويعية فاستمر بها مدة من الزمن، ثم سافر الوالد إلى الرياض لمقابلة الملك عبدالعزيز شخصيا مبديا ظروفه العائلية أهمها حاجة والدته جدتنا ليكون على مقربة منها لكبر سنها، وكان في مجلس الملك الشيخ عبدالله بن عبداللطيف قاضي الرياض - آنذاك - فشفع له فأعفاه من القضاء، فعاد - رحمه الله -مغتبطا ليسعد بخدمة والدته ويرعى بُنياته، ويكون بجانب أسرته، وكان الأخ محمد هو ساعده الأيمن طيلة مدة عمله في كلا البلدين(رحم الله الجميع)، وكان ذاك الإعفاء سببا مباركا في زواج الأخ محمد-أبو عبدالعزيز -واستقراره في بلده حريملاء حيث استمر في الأخذ بالأسباب في طلب المعيشة من بيع وشراء معتمدا على الله غير معول على أحد فهو عصامي لا عظامي، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:

وإنما رجل الدنيا وواحدها  ** من لا يعول في الدنيا على رجل

 وبعد عقود من الزمن عمل فترة وجيزة في الفرع الزراعي بحريملاء حتى تقاعد..، واستمر في مزاولة الأعمال الحرة حتى توفاه الله ، مخلفا ذرية صالحة بنين وبنات، وهذه نبذة وجيزة عن مشواره في الحياة عبر السنين الماضيات.

غفر الله له ولوالديه وأصلح عقبه إنه سميع مجيب.


سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم

ذكراه ساكنة بين جوانحي (<!--)

 

لا يأمن العجز والتقصير مادحه ** ولا يخاف على الإطناب تكذيباً

ودت بقـــــــــــــــاع الله لــــو جعلــت **  قبراً له فحباها جِسْمُـــــهُ طيباً

 فبينما كنت أفتش بعض مقتنياتي ومدخراتي الحبيبة إلى قلبي داخل غرفة مكتبتي الخاصة إذا بي أعثر على نسخة من العدد 231 الاثنين 13 شوال عام 1389هـ من صحيفة (الدعوة) التي كانت تصدر أسبوعياً مؤقتاً – آنذاك - والذي يحمل في ثناياه نبأ وفاة ورحيل والدنا وشيخنا  العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ، ويضم داخله عدداً من كلمات التأبين وقصائد الرثاء المؤثرة من بعض تلامذته ومحبيه، وكان لزاماً علي أن أنوه بأفضاله وعنايته بي أثناء التلقي عليه مبادئ من العلم عامي  69/1370هـ  فقد أهاجت بي الذكريات، وطوح بي الخيال إلى تذكر هاتيك المجالس، مجالس الذكر وتلقي العلم على يديه، وعلى أخيه فضيلة الشيخ عبداللطيف في جهتي مسجد الشيخ عبدالله بن عبداللطيف الغربية لدى الشيخ عبداللطيف، والشرقية لدى سماحة الشيخ محمد – رحمهما الله – وبعد طلوع الشمس ينتقل معظم الطلاب إلى منزل الشيخ محمد لتلقي المزيد من العلوم، مثل كتاب التوحيد، والعقيدة الواسطية والحديث، وسماع بعض كتب المطولات مع التعليق على ما تدعو الحاجة إلى إيضاحه للطلبة والمستمعين..، وبقية مواد العلوم الأخرى موزعة على الأوقات وأفواج الطلبة حسب مستوى كل فوج إلى أذان العشاء، والمسجد كخلية نحل من طلاب العلم على مختلف أعمارهم وقدراتهم..، ولقد منحه المولى قوة جلد وصبر لا يتطرق إليه ملل ولا كلل، وعمق في علمه الواسع في جميع المواد العلمية، يقل من يماثله في حنكته وفهمه وقوة ذاكرته، ويحسن بي أن أذكر هذا البيت وكأنه يعنيه للبرهان القيراطي من قصيدة رثى فيها جمال الدين بن عبدالرحيم شيخ الشافعية حيث يقول:

فأعظم بحبر كان للعلم ساعياً ** بعزم صحيح ليس بالمتكاسل

فوقته - رحمه الله – كله مستوفى إلا ما يتخلله من أوقات خاصة ووجيزة يرتاح فيها قليلاً، ولقد بارك الله في عمره وفي وقته، وقد تخرج على يديه خلق كثير جداً وكوكبة خيرة أصبحوا من كبار العلماء وبحوراً في العلم والإفتاء أمثال: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وفضيلة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد، والشيخ عبدالرحمن بن قاسم – صاحب المؤلفات وجامع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي، والشيخ عبدالعزيز بن ناصر الرشيد، وأخويه الشيخين عبداللطيف وعبدالملك بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ والد معالي وزير الشؤون الإسلامية الشيخ صالح، والشيخ ابراهيم بن محمد رئيس الدعوة والإرشاد والبحوث وهما أبناؤه وغير هؤلاء كثير من الأجيال المتتابعة يتعذر عدهم:

فرب ضرير قاد جيلاً إلى العلا  ** وقائده في السير عود من الشجر

تغمد الله الجميع بواسع رحمته – ومن آثاره الأخرى الجليلة تبنيه تأسيس المعاهد العلمية وكليتي الشريعة واللغة العربية بتأييد من جلالة الملك عبدالعزيز وجلالة الملك سعود ومعاضدة فضيلة الشيخ عبداللطيف له – رحمهم الله – وعوداً على ذكر بداية شطر من سيرته وحياته، ولقد ولد العلامة الكبير سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ في مدينة الرياض في 17 من شهر محرم عام 1311هـ فتربى في بيت علم وفضل محباً للعلم طموحاً في اقتناصه من مضانه وأفواه العلماء، ومن بطون الكتب النافعة، وكان والده العلامة الشيخ إبراهيم قاضي مدينة الرياض من أبرز علماء نجد ومشاهيرهم، فاحتذى الشيخ محمد حذو أبيه..، وعند بلوغه السابعة من عمره ألحقه في كتّاب المقري عبدالرحمن بن مفيريج فأعجب بسرعة فهمه وحفظه، فأهتم به حتى حفظ القران الكريم عن ظهر قلب، بعد ذلك شرع في طلب العلم فأخذ بالقراءة على أبيه، وعلى عمه علامة نجد في زمنه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، وقراءته الأولى في التوحيد، وأصول العقيدة حفظ وتفهم، ثم قرأ مختصرات كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ومختصرات كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم كالواسطية، والحموية، وكذلك عني بمختصرات النحو والفرائض كالأجرومية والرحبية، وقد كف بصره وهو في الرابعة عشرة أو السادسة عشرة من عمره فصبر واحتسب وصمم على النهل من موارد العلوم العذبة، فقرأ على علماء الرياض زيادة على القراءة على عمة وأبية، وعلى الشيخ سعد بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس وعلى الشيخ عبدالله بن جلعود، فأدرك هذه العلوم إدراكاً جيداً وغزيراً أهله على أن يكون مفتياً عاماً للديار السعودية، مع ترؤسه لعدد من الدوائر والمصالح الحكومية فهو نهر عذب عميق اغترف منه وارتوى خلق كثير، ولله در الشاعر:

سعدت أعين رأتك وقرت **  والعيون التي رأت من رآكا

ولا أنسى أفضاله علي – رحمه الله – حيث كان يدعوني للإفطار معه ومع أبنائه في شهر رمضان عامي 69/ 1370هـ أنا والشيخ علي الضالع كل ذلك تقديرا منه وحب لوالدنا الشيخ العالم الجليل عبدالرحمن بن محمد الخريف الذي هو بمنزلة الزميل له، فهو كثير السؤال عنه، ويقول كان الإمام عبدالرحمن الفيصل والد جلالة الملك عبدالعزيز يدعوه في بعض الأحيان ليسمعه تلاوة القرآن الكريم بصوته الجميل أثناء مجيئه من حريملاء ليلتقي ببعض العلماء والمشايخ، فأعماله الجليلة متعددة لا حصر لها، فموته وغيابه أحدث فجوة واسعة يتعذر ردمها وملؤها بعده في الميدان العلمي والفقهي، كما أنه سياسياً محنك بعيد النظر يستأنس بآرائه  وأفكاره النيرة، ومن بعض الأمثلة على ذلك ما روي عنه في اختياره حجز مساحات شاسعة من الأرض بحي النسيم شرقي مدينة الرياض  ليكون موقعاً لمقابر ومضاجع الراحلين التي تبعد عن قلب المدينة – آنذاك – خمسين كيلو متر، الذي الآن أصبح داخل العمران والأحياء السكنية – فجراه المولى وافر الأجر - ، ووفق ولاة أمر هذا الوطن لما فيه الخير والبركة، وهذا يدل دلالة واضحة أن الله قد وهبه نفاذ البصيرة رغم فقد بصره، ولقد أجاد الأستاذ/ علي الجندي في مخاطبة بصير لا يبصر أثناء قصيدة جميلة المعاني حيث يقول:

عزاءك إن الله أعطاك فطنة  **  وأعطاك فكراً لم يشُب صفوه كدر

وأعطـــــــاك نوراً في فؤادك نبعه ** يريك وراء الغيب ما سطر القدر

وكان لي معه بعض الذكريات الخفيفة اللطيفة القصيرة.. ، فلما أثقله المرض في أخر حياته بذل الأطباء ما في وسعهم لكبحه ولكن الحيل أعيتهم، فانتقل إلى دار النعيم بعد ظهر يوم الأربعاء 24/9/1389هـ  وصلى عليه بعد صلاة العصر في جامع الرياض الكبير جموع غفيرة وزحام شديد حيث خرجت تلك الجموع لتشييع فقيد الأمة وكان على رأس المشيعين جلالة الملك فيصل وفيهم الأمراء والعلماء والوزراء والأعيان، ودفن في مقبرة الرياض المسماة (العود) داعين له بالمغفرة وقد حضر العزاء في بيت الفقيد صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز – رحمه الله – وأبدى أسفه وحزنه الشديد على رحيله، وأثنى عليه وذكر خسارة البلاد بوفاته وواسى أفراد أسرته والحاضرين من العلماء.. ، وهذه الكلمة الوجيزة لا تفي بعد الكثير من مآثر ومحاسن شيخنا ووالدنا المتصف بالرزانة والهيبة وسعة الأفق، وسيضل ذكره خالداً على مر الدهور والأعصر، وإنما جاءت خاطرة في نفسي تعبيراً لما أكنه لسماحته من حب واحترام – تغمده المولى بواسع رحمته ومغفرته -

إن العظيم وإن توسد في الثرى** يبقى على مر الدهور مهيبا


الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم نهر علم وسماحة خلق(<!--)

 

هو بحر العلوم والفقه فازدد ** منه قرباً تزدد من الجهل بعدا

الإنسان حينما ينفرد بنفسه تتداعى على خاطره أمواج كثيفة متعددة الاتجاهات، تحمل في ثناياها رتلاً طويلاً من الذكريات، منها ما يؤنس به، كأيام الطفولة والصبا بين أحضان والديه ومع أقرانه، وما يتخلل تلك الأيام من ساعات مرح ولهو بعيداً عن مشاغل الحياة وهمومها.

أيام كنت أناغي الطير في جذل ** لا أعرف الغم في الدنيا وبلواها

كما يحلو له استحضار وتذكر معلميه ومشايخه الأفاضل الذين قضى معهم من الأيام أحلاها و أجداها، وكأنه يسمع نبرات أصواتهم أثناء تلقيه دروس العلم والآداب - وإن كانوا قد أمسوا تحت طيات الثرى -مقروناً ذلك بالدعاء والترحم عليهم، جزاء  ما قدموه من إخلاص وإرشاد وتربية أبوية، وفي طليعة أولئك الآباء شيخنا ووالدنا فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ أول معلم لنا في علم النحو والفرائض -جزاه المولى عنا خير الجزاء وأسكنه الفردوس الأعلى، ولقد ولد في مدينة الرياض عام 1315 هـ ولما تربع جلالة الملك عبدالعزيز على عرش البلاد عُين والده الشيخ إبراهيم قاضياً في الرياض، فنشأ -أبو عبدالله -في بيت علم وقضاء ودين وتربي تربية حسنة، وقرأ القرآن الكريم وحفظه عن ظهر قلب في احد الكتاب -آنذاك -ثم شرع في طلب العلم وأكب على حفظ المتون المعروفة لتربي لديه ملكة الفهم، وحفظ النصوص التي تثري حصيلته اللغوية والأدبية والشعرية  ليُطل على الأساليب البلاغية وأخْيلتها ومعانيها التي بها يعذب منطق الإنسان ويحلو كلامه..، وقد تجلى ذلك في حديث وأسلوب شيخنا المربي الفاضل عبداللطيف بن إبراهيم -رحمه الله -ولقد قرأ على علماء الرياض؛ ومن أبرز مشايخه عمه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، ومحمد بن عبداللطيف، وسعد بن بن حمد بن عتيق، فقرأ عليهم الأصول والفروع والحديث والتفسير والعربية، ولازمهم زمناً، كما لازم الشيخ الفرضي الحاسب عبدالله بن جلعود، وتبحر في علم الفرائض وحسابها عليه فكان المرجع في الفرائض وحسابها، وكان بعض القضاة يحيلون عليه في عمل المناسخات وقسمة التركات، كما قرأ العربية والبلاغة والعروض على الشيخ حمد بن فارس ونبغ في فنون عديدة... وله في الأدب والشعر اليد الطولى، فقد رثى مشايخه بمراثي رقيقة قوية، ومن أشهر مراثيه مرثيته لعمه الشيخ العلامة عبدالله بن عبداللطيف -رحم الله الجميع رحمة واسعة -، فأعماله الجليلة تشهد له تفانيه في حب العمل ونشر العلم وتعليمه لطلابه؛ حيث  جلس للتدريس في مسجد أخيه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، فالتف إلى حلقاته كثيرون لا حصر لعددهم..، وكان حَسَن التعليم واسع الاطلاع، وقد تخرج على يديه عشرات العلماء والقضاة نفع الله بهم، ولما فتح المعهد العلمي بالرياض عام 1371هـ عُين مديراً له تحت إشراف أخيه سماحة الشيخ محمد، ثم عُين مديراً عاماً للمعاهد العلمية بالمملكة، ولما افتتحت الكليات ضمت إدارتها إليه فقام بواجب الوظيفة خير قيام على أكمل وجه وأتمه. والواقع أن المعاهد العلمية وكليتي الشريعة واللغة العربية التي كانت نواة مباركة لوجود جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وفروعها المتعددة في أنحاء المملكة وخارجها؛ قد نفع الله بها، وكانت سبباً قوياً في إنارة الصدور والعقول وتخريج أفواج عدة متتابعة من العلماء والقضاة والمعلمين والمرشدين، بل وكثير من الرجال الأكفاء العاملين في ميادين الحياة عامة.. وقد انعكس ذلك منذ البداية إلى تحسين أوضاع من انتسب إلى ذاك الصرح العملاق مادياً وخلقياً متميزاً.. وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا.

وكل ذلك بفضل من الله وتوفيقه للمؤسس الأول جلالة الملك عبدالعزيز، ورعاية الملك سعود بن عبدالعزيز، واختيار سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رئيساً لتلك الجامعة وفضيلة الشيخ عبداللطيف نائباً لرئيس الجامعة والمعاهد ثم مديراً للجميع، -رحمهم الله جميعاً -وكان رحيماً ولطيفاً مع أبنائه الطلبة يشجعهم على الالتحاق بالمعهد عند افتتاحه؛ أذكر جيداً أنه قد أتى إليه طالب تعذرت لجنة القبول عن إلحاقه بالمعهد لصغر سنه فدخل عليه وعيناه مغرورقتان بالدموع قائلاً بكل براءة: "أمي تقول إنك كبير" فما كان منه رحمه الله إلا أن رق له قائلاً "أبشر يا بني" فألحقه مع زملائه، وكان سبباً مباركاً في إسعاد ذلك الصبيّ، فالشيخ عبداللطيف -أبو عبدالله -لين العريكة سهل الجانب لا يهابه طالب الحاجة. ومن ذكرياتي الجميلة التي لا تنسى معه عندما هممت بالزواج في منتصف عام 1375هـ، وأنا طالب بالسنة الأولى بكلية اللغة العربية، حيث طلبت منه إقراضي خمسمائة ريال فاعتذر في بادئ الأمر قائلاً "إن عمارة بيتي الحالي استنفد ما لدي من نقود" فألحّيت عليه في الطلب لحاجتي الماسة معتبراً أنه بمنزلة الوالد فقلت له بهذه العبارة "ولو من مصروف البيت الخاص" فلم ير بدّاً من جبر خاطري:  إذا هززت فاهزز كريماً يلن لهزتك... الخ..

ثم كتب ورقة إلى الأخ الفاضل على بن عبدالله بن خميس المسؤول عن شؤون الطلبة بصرف نفس المبلغ لي فجزاه المولى عني خير الجزاء، ولقد استفدت منه كثيراً أثناء تلقي مبادئ الإعراب على متن الأجرومية مع مجموع من طلبة العلم بعد صلاة فجر كل يوم داخل المسجد وبعد صلاة المغرب في علم الفرائض، فهو مصباح علم منير يُهتدى بعلمه الغزير العذب المتدفق من مخزونه العلمي اللغوي والفرضي خاصة، وكان جليس أخيه العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وملازمه يحظر له الدروس ويراجع له المسائل لكون أخيه فاقد البصر - رحمهما الله -فكان لأخيه زميلاً وتلميذاً فحصل له من هذه الملازمة والمراجعة الخير الكثير والعلم الغزير وقد انتفع بعلمه كثير من أهل العلم لقوته في هذين العلمين وحسن تفهيمه وتعليمه كما أن عمله الرسمي لم يعقه عن الأعمال الخيرية مثل إصلاح ذات البين وتسجيل عقود العقارات والمبايعات، وعقود الأنكحة والوصايا، وغيرها من الأعمال الإنسانية والخيرية إلى أن استوفى نصيبه من أيام الدنيا وانتقل إلى دار النعيم المقيم إن شاء الله في اليوم الثالث من شهر شوال عام 1386هـ  بعد حياة طويلة مشرفة وأعمال جليلة لا تنسى ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:

يا نور علم أراه اليوم منطفئاً ** وكانت الناس تمشي منه في سُرُج

وبعد وفاته خلفه ابن أخيه معالي الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ والد وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد معالي الشيخ صالح حفظه الله.. ، ولقد حزن أخوه سماحة المفتي الشيخ محمد حزناً شديداً على وفاة وفقد عضده الأيمن ورفيق دربه منذ صغرهما متلازمين متآلفين قلّ أن يفترقا، وقد علا محياه سحابة حزن وشحوب لا يبرح كل ما تذكر أيامهما الجميلة الحافلة بالسعادة والإبحار في أنهر العلوم الصافية، فلسان حاله كلما خلا بنفسه يردد في خاطره معنى هذا البيت:

أخيين كنا فرق الدهر بيننا ** إلى الأمد الأقصى ومن يأمن الدهرا

فالموجب لتسطير هذه الكلمات الوجيزة ضرب من الوفاء لمعلمي الأول في النحو ولتبقى ذكرى خالدة -تغمده الله بواسع رحمته ومرضاته.

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) أرسلت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم السبت 21 ربيع الآخر 1432هـ الموافق 26 مارس 2011م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 25 صفر 1431هـ الموافق 9 فبراير 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 21 صفر 1433هـ، الموافق 15 يناير 2012م. 

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول 1433هـ الموافق 31 يناير2012م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 252 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف

mager22
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف **** ولد ونشأ في حريملاء , 80كم شمال غربي مدينة الرياض . درس في حلقات العلم على المشايخ بالرياض . بدأ الدراسة النظامية بدار التوحيد بالطائف 1371 - 1372 هـ . أنهى التعليم الثانوي بالمعهد العلمي بالرياض عام 1374 هـ . كلية اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,380