عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف ( فقد ورثاء )

فقد ورثاء

فـراق الأبنـاء يصدع القلوب (<!--)

(الأمير فهد بن سلمان بن عبدالعزيز رحمه الله)

 

        حقاً إن فقد الأبناء وفقد الرجال المخلصين موجع للقلوب ومؤلم للنفوس غاية الإيلام. ففي يوم الأربعاء الموافق 4/5/1422هـ نعى الديوان الملكي نبأ وفاة ابنٍ بارٍ من أبناء هذا الوطن المخلصين وعلمٍ بارزٍ من رجالات الدولة.. إنه الشاب الأديب صاحب السمو الملكي الأمير فهد نجل سلمان بن عبدالعزيز بعدما استوفى نصيبه القليل المقدر له من أيام حياته قادماً على ربٍ كريم وتاركاً أثراً طيباً وذكرى معطرة بالدعاء والذكر الحسن:

وأحســن الحـــالات حـــال امــــــرئ
<!--

 

تطيب بعد الموت أخباره
<!--

يـفـنــى ويــبــقـى ذكــــره بــعـــده
<!--

 

إذا خـــلـــــــت مـــن بــعـــده داره
<!--

    وكان لهذا النبأ المفاجئ بالغ الحزن في نفوس أبناء الشعب السعودي وسائر الشعوب العربية والإسلامية لما عُرِف عنه من تواضع جم وتضحية وبذل سخي في أوجه الخير والعطاء..

        كما أن هذا النبأ قد أفزع والده المحبوب خارج البلاد ونزل عليه كالصاعقة - كان الله في عونه - وأرجو من الله أن يمده وجميع أسرته بالصبر واحتساب الأجر من المولى وأن يحسن عزاءهم ويجبر مصيبتهم فالله سبحانه وتعالى قد وعد الصابرين على أقدار الله بقوله: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}..

ويقول الشاعر منقذ الهلالي في الحث على الصبر عند وقوع المصائب:

ولخـيـر حــظــــك فــي المصــيــبـة أن
<!--

 

يلقاك عند نزولها الصبر
ج

    وكأني بالشاعر يشير إلى معنى الحديث المتضمن مضاعفة أجر الصابرين عند الصدمة الأولى. ومما زاد تأثري وحزني الشديد مشاهدتي لوالده الأمير سلمان وهو على حافة القبر يودع فلذة كبده الوداع الأبدي حتى أخفت اللبنات جثمانه باللحد شيئاً فشيئاً بنظرات ملؤها الحزن والأسى تهمي دموعاً حرى. كما أن صوره التي علت الصفحات تنبئ عن بالغ التأثر، وتلزم المشاهد لها بمشاركته في حزنه العميق وكأني به ولسان حاله يردد ما قاله الشاعر الأديب محمد بن سليمان الشبل في موقف مؤثر كهذا مصوراً الوداع ومرارته المؤلمة حيث يقول :

يـــوم الـوداع وهـــل أبــقــيــت فـي خـلدي
<!--

 

إلا الأسى في حنايا القلب يستعر
<!--

     كما لفت نظري أثناء حضوري بعد صلاة المغرب مباشرة للتعزية والمواساة ما شاهدته داخل وخارج قصر الأمير سلمان من أعداد هائلة وأفواج قادمة تقدر بالآلاف من مختلف الطبقات والجنسيات تتدافع في طريقها لتقديم العزاء، والدعاء للراحل بأن يحسن الله وفادته ويجعله في زمرة المحسنين.. ولقد ضاقت تلك الساحات الواسعة والشوارع المحيطة بالقصر بأرتال كثيفة جداً من السيارات. ولقد حاولت الوصول إليه في تلك اللحظات بل الساعات لتقديم العزاء ـ لمن لا تفوته مواساة الأيتام والمسح على رؤوسهم .. والتعزية لسائر أبناء الوطن حينما يعلم بذلك ـ فلم أظفر بذلك لشدة الزحام.. وما حضور هذه الأعداد والجموع الغفيرة الخالية من المجاملات إلا دليل على علو مكانة ومحبة صاحب القصر وحزن الجميع على فهد.. وعلى قوة الترابط بين الحاكم والمواطن، ولأجل الدعاء له بالرحمة والمغفرة لمن غاب عنا ووارته الترب ذلك الشاب الراحل الذي اشتهر بدماثة الخلق وطيب المعشر والتلذذ بالبذل والعطاء في أوجه الخير. فهو بتواضعه قد ملك القلوب ومن نبله ولطفه أنه حينما علم بتعليقي على الحوار الشيّق الذي أجراه مع سموه الأستاذ مساعد بن خميس في أول هذا العام 1422هـ بالقناة التلفزيونية (art) وعلق الأستاذ الأديب حمد بن عبد الله القاضي على إجاباته السديدة أثناء المحاورة التي تدل على نضجه وفرحه بالخير لإسعاد الآخرين.. أن فاجأني مهاتفاً وشاكراً لي، فلم أملك سوى شكره والتمثيل بهذا البيت :

وأحــســن أخـــلاق الـفــتـــى وأجـلـها
<!--

 

تواضعه للناس وهو رفيـع
<!--

    والعزاء في ذلك كله أنه قد ترك ونقش في جبين الزمن صفحات مشرقة تجدد ذكره على مر الليالي والأيام ونبراساً هادياً ومضيئاً لدروب الخير لمن بعده من الأجيال الصاعدة.. وأختتم هذه العجالة معزياً لوالده المحبوب ووالدته الحنون وإخوانه وأبنائه وجميع الأسرة المالكة ومحبيه – تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته ـ {إنا لله وإنا إليه راجـعـون }.. وبـيت من الشـعـر يــقـول :

فــلا تـبــكـيــن فـي أثــر شــيء نـدامـة
<!--

 

إذا نزعته من يديك النوازع
<!--

وهكـذا تسـيـر قـوافل الأخيــار(<!--)

(الأخ محمد بن سليمان الباتلي رحمه الله)

 

يـا غـائبــاً فــي الثــرى تبــلى محـاسـنه
<!--

 

الله يوليك غفراناً وإحسانا
<!--

   في صباح يوم السبت الموافق 14/5/1422هـ هاتفني صديق يحمل نبأ وفاة أخٍ عزيز علينا رحيله، اتصف بلين الجانب والسماحة والكرم، إنه الأخ الفاضل محمد بن سليمان الباتلي، بعد عمر مديد نيف على التسعين عاماً قضاه في طاعة الله، وحب الخير للمساكين، والتوسعة على من يقصده لإقراضه، وإقراض من تضيق عليهم سبل الحياة بنفس سامحة غير ملح في استرجاع حقه، مستحضراً الحديث الشريف: ( من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.. ) الحديث رواه مسلم. .. والشـاعر يقـول:

وأشــكـر فـضــائـل صـنع الله إذ جُـعـلت
<!--

 

إليك لا لك عند الناس حاجات
<!--

   وقد ساهم ـ رحمه الله ـ مع نخبة من رجالات حريملاء مع جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ في توطيد أركان البلاد آنذاك.. وكان لسفره عام 1352هـ مع الأمير عبدالرحمن بن إبراهيم المبارك أمير مدينة ظبا المطلة على البحر الأحمر.. ومروره بمكة المكرمة وتلقيه مبادئ العلوم الشرعية، وتحسين الخطوط.. أكبر الأثر والفائدة في تنويره وتثقيفه، وتهيئته للعمل مع الأمير في مدينة ضبا التي طال مكثه فيها يعلم أبناء الأمير، ويؤمهم للصلاة، ويقوم ببعض المهام المنوطة به، فلما طالت إقامته هناك استبد به الحنين إلى مسقط رأسه حريملاء فعاد إليها رغم تمسك الأمير به وترغيبه في البقاء لديه لما يتمتع به من سجايا حميدة وأمانة وإخلاص في عمله ـ رحمهما الله جميعاً ـ ولكنه اعتذر وغلبه الشوق إلى مرتع صباه فعاد.. ولقد أجاد الشاعر في تصوير حال أمثاله حيث يقول :

مـا مــن غــريـب وإن أبـــدى تـجــلـده
<!--

 

إلا تذكر عند الغربة الوطنا
<!--

   وبعد عودته من غيابه الطويل عمل ببلدية حريملاء عملاً إدارياً فترة من الوقت. والواقع أني قد تأثرت وحزنت كثيراً على رحيله وغيابه لما له من مكانة عالية في شعاب نفسي، وكانت تربطني به علاقة ود ومحبة صادقة رغم فارق العمر..! فالتواصل والتزاور بيننا مستمر منذ تعييني مديراً لمعهد المعلمين ومشرفاً على المدرسة الابتدائية بحريملاء عام 1379هـ فهو على صلة بنا وبالمدرسة للاطمئنان على سير دراسة ومستويات أنجاله النجباء الذين هم في قمة من الذكاء والانضباط، والتمتع بالأخلاق الحميدة، وكنت أزوره ـ رحمه الله ـ عندما بدأت علامات الكبر تنزل بساحته فينفحني ببعض النصائح والطرائف والحكم، ولكن بعدما اقتربت نهايته بعد مشوار حياته الحافلة بطاعة المولى، والسمعة المعطرة بالثناء عليه والذكر الحسن، توقفت لغة الكلام بيننا فاكتفيت بالسؤال عنه، والدعاء له بحسن الختام.

   لقد قضى ـ رحمه الله ـ شطراً من حياته إماماً لأحد المساجد بحريملاء وكان من الحفاظ الأفذاذ يمتاز بحسن الصوت في تلاوة القرآن الكريم، ويفيد المصلين أعقاب الصلوات بقراءة بعض الكتب المفيدة كرياض الصالحين، ووظائف رمضان، وغير ذلك من الفوائد والأدعية، كما كان يقضي الساعات الطوال في تلاوة القرآن المجيد الذي قد حفظه منذ نعومة أظافره في إحدى مدارس تحفيظ القرآن المنتشرة في حريملاء، لذا كان لوفاته الحزن العميق في النفوس، ولقد حضر للصلاة عليه جموع غفيرة معظمهم من محافظة حريملاء ازدحمت بهم أبواب جامع الملك خالد ـ طيب الله ثراه ـ بالرياض لما له من مكانة في قلوب الجميع، أخذت تلهج بالترحم عليه والتضرع بالدعاء له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه، ومما زاد حزني وأشجاني ما رأيته من أحد أبنائه والحزن بادٍ على محياه وهو يُدمْدم التُربَ على جوانب قبر أبيه وفي نفسه ما فيها من لوعة الفراق، وعيناه تجودان بدمع غزير، وفي إحدى يديه قطعة من الحجارة يضعها بجانب إحدى نصائب القبر لتكون علامة يهتدي بها عند زيارته له.. وهذا يدل دلالة واضحة على تعلق الأبناء بوالدهم حتى بعد الممات.. ولقد أجاد الشاعر الذي يقول:

لـولا معــالـيـم رؤوســـهـم لمــا اهـــتـدى
<!--

 

لحميمه بين القبور حميم
<!--

  والعزاء في ذلك أنه نشأ في عبادة الله منذ فجر حياته حافظاً لكلام الله، وقد استنفد عمره المكتوب له عزيزاً مكرماً، وقدم على رب كريم يغفر الذنوب، وقد ترك وراءه ذرية صالحة تدعو له، تغمده الله بواسع رحمته وأنزل عليه شآبيب رحمته:

وكـل مقـيـم فـــي الحــيــاة وعـيشــها
<!--

 

فلاشك يوماً أنه سوف يشخصُ
<!--

عظّم الله أجر جميع أسرته وألهمهم الصبر والسلوان.

{إنا لله وإنا إليه راجعون}.

وغــاب حـمـيد السـجـايا(<!--)

(الشيخ عبدالله بن قضيب القضيب رحمه الله)

 

حـبيب عــن الأحــباب شــطت بـه النــوى
<!--

 

وأي حبيب ما أتى دونه البعد!
ج

   في صباح يوم الجمعة 5/6/1422هـ ودعت محافظة حريملاء أحد أعيانها البارزين عَلم تطفح على محياه البشاشة والبشر وطلاقة الحاجبين والتقى، وكان لنبأ وفاته دويً من الحزن في أعماق نفسي لما له من مكانة عالية وعلاقة قربى ومحبة صادقة، إنه الشيخ الفاضل عبدالله بن قضيب بن عبدالرحمن آل قضيب، ولقد خيّم الحزن العميق على سماء محافظة حريملاء لرحيله وفقده لما له من مكانة عالية في قلوب محبيه وعارفيه.

   ولقد اكتظ المسجد وساحاته بمجموع غفيرة حضرت من الرياض ومن البلدان المجاورة للصلاة عليه والدعاء له بالمغفرة والمنزل الرفيع العالي في الجنة، وبعد الصلاة عليه تبعته جموع هائلة ـ تتضرع له بالدعاء ـ وكذا أرتال من السيارات إلى مثواه الأخير بمقابر حريملاء لما عرف عنه من صلاح وحسن طوية.. فرغم تربعه على ظهر "الهنيدة" بسنوات.. ظل سليم الحواس معافى ومحتفظاً بذاكرته وببصيرته، وجميع حواسه، ولم يجد التخريف منفذاً للخزانة البيضاء في رأسه ولا إلى طوايا نفسه تكريماً له من الله العزيز، فالذي يسكن القرآن الكريم فؤاده يسلم من كثير من الآفات والهذيان ويحسن الله له الختام ـ إن شاء الله ـ لهذا فإن رحيله وبُعده عنا إلى دار البقاء أحدث فجوة واسعة من الحزن والألم في محيطه الأسري ولدى جميع محبيه ومخالطيه.

تخــالــف النـــاس إلا فـــي مـحـبــتــه
<!--

 

كأنما بينهم في وده رحم
<!--

   ولقد ترعرع في أحضان والديه محبي الخير والنفع للمسلمين.. ونشأ في طاعة الله منذ فجر حياته محباً للبذل السخي في أوجه البر والعطف على الأرامل والأيتام الذين أخفت الترب عائلهم، والإحسان إلى المساكين والضعفاء، وإقراء الضيف والزائر الذي لا يبرح مكانه ليلاً ونهاراً ولقد أجاد وصدق الشاعر الغنوي في وصف أمثاله حيث يقول :

حـبيــب إلــى الــزوّار غـشــيان بيــتـه
<!--

 

جــميــل المحــيا شــب وهـو كـريم
<!--

   وخاصة في مقتبل ـ وقت الحاجةـ أثناء عمله في الفلاحة والزراعة فهو من أكبر الزرّاع في تلك الحقبة البعيدة، ومن أفضلهم وأكثرهم نفعاً.. ومع كرمه يعمل بيده كثيراً من الأعمال الحرفية التي يحتاج إليها سائر الناس من بدو وحاضرة في تلك الأيام الفارطة ويقوم بقضاء حوائجهم بصدر رحب ونفس مطيعة فكانت القوافل تمر عبر حريملاء آنذاك قادمة من القرى المجاورة، ومن بلدان بعيدة متجهة صوب الرياض لطلب المعيشة وقضاء الحوائج هناك وحينما يصلون حريملاء يتوزعون أو يوزعون.. على عدد من أصحاب الفلاحة والزراعة هم ومطاياهم ودوابهم فيكون لأبي عبد الرحمن النصيب الأوفر في استضافتهم عنده لما يجدونه من رحابة صدر وسماحة بال وإكرام لهم ولمواشيهم التي تنقلهم.. فالضيف دائماً يختار أصحاب الفلاحة في كل بلد يمر بها لوفرة الزاد عندهم وأنواع الأطعمة، والحصول على أعلاف لمواشيهم التي هي بمثابة الوقود لسير مطاياهم ولسائر مراكبهم في تلك الحقبة من الزمن.. فالضيف لا يرتاح حتى تكرم دابته، وهذا الكرم وحسن الوفادة موجود لدى أهالي حريملاء وأمثالهم من سائر القرى والأرياف، فالكثير منهم يؤثر على نفسه لأجل إكرام الوافد إليه، فالشيخ الراحل ـ ابن عمتي ـ من أبر الرجال بخاله والدنا الشيخ عبد الرحمن بن محمد الخريف ـ رحمهما الله جميعاًـ عاصره ولازمه منذ مستهل حياته يتلو عليه القرآن الكريم في فترات فراغه، ويقوم بخدمته عند الحاجة خير قيام وخاصة وقت صغرنا، وفي فترات غيابنا لتلقي مبادئ العلم لدى المشايخ بالرياض وفي أثناء دراستي الأولى بدار التوحيد بالطائف عامي 1371 و 1373هـ بل حتى انتهت الدراسة بكلية اللغة العربية عام 1378هـ.

   واستمرت صحبته وخدمته له حتى أنزله مضجعه في اللحد بمقابر حريملاء عام 1383هـ فودعه :

مُجــاور قــــوم لا تــزاور بـيــنــهم
<!--

 

ومن زارهم في دارهم زار همدا
<!--

   ولئن أخفت الأرض جسم أبي عبد الرحمن فإن ذكره فوقها يظل غضاً طرياً تتناقله الأجيال ملوحة له بالثناء العطر، والدعاء الصادق، والعزاء في ذلك كله أنه قد استوفى حقه من الدنيا كاملاً معموراً بطاعة المولى، وتاركاً ذكراً حسناً، ومخلفاً ذرية صالحة تجدد ذكره بعلمها الخيّر. راجياً من المولى أن يتغمده بواسع رحمته وأن يلهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان ... { إنا لله وإنا إليه راجعـون } .

يقول القاضي التنوخي مثـنيـاً :

كــأنـــك مــن كــل النــفــوس مـركـب
<!--

 

فأنت إلى كل الأنام حبيب
<!--

وفرقتنا الليالي(<!--)

(الشقيقة منيرة بنت عبدالرحمن الخريف رحمها الله)

 

الدهر لاءم بين أُلفتنا

 

وكذاك فرق بيننا الدهر
<!--

إي والله فرق بيننا هادم اللذات , ومفرق الجماعات بعد طول اجتماع وتآلف، ففي مساء يوم الأربعاء ليلة الخميس 10/7/1422هـ دبَّ شعوب على غرة لأخذ أحب الناس إلى قلبي ورفيقة عمري شقيقتي منيرة أم عبد العزيز بن ابراهيم القضيب، وكان لنبأ رحيلها المفاجئ العاجل في نفسي وفي نفوس بنيها المفجوعين, وجميع أفراد أسرتها وقع مؤلم وموجع جداً , ستبقى أثاره في نفوسنا مدى العمر كيف لا وهي شقيقتي وجزء مهم في حياتي , فلقد ترعرعنا وعشنا سويا في أحضان والدينا ـ رحمهما الله ـ حتى كبرنا ثم استقل كل واحد منا في مكان آخر مع استمرار التعاطف والتواصل بيننا. ومن هول المصيبة أحسست كأن الدنيا تدور بي, وتعذرت لغة الكلام في تلك اللحظات فجرت دموع العين حَرى حزناً علي سرعة رحيلها وغيابها عنا...., وكنت قُبيل وفاتها بأيام قلائل قد زرتها في منزلها فرأيت أثار الإعياء والشحوب بادٍ على محياها, فسألتها عن حالها وعن صحتها فأجابتني أنها بخير وهي تحاول إخفاء ما تحس به في داخل نفسها , وكأنها تشعر بأن أيام حياتها قد أوشكت علي النهاية .., ولم أعلم بما في ضمير الغيب وأنها الزيارة الأخيرة ! , وعندما نهضت مودعاً لها ومقبلاً رأسها. لحظتني بعينها لحظة مودع ثم أطرقت برأسها وكأنها تجتر أغلى ذكرياتنا معاً و تقول وداعاً يا أبا محمد وداعا أبديا!ً ولم اشعر بما تعنيه تلك النظرات إلا بعد مغادرتها إلى دار البقاء - رحمها الله - رحمة واسعة. وكنا في عهد الطفولة عهد البراءة نظن انه لا تَفرُق بيننا, وان أيام سعادتنا ستدوم, ولم يدر بخلدي قول الشاعر:

وكل أخ مفارقه أخوه     
<!--

 

لعمر أبيك إلا الفرقدان
<!--

كانت امرأة صالحة محبوبة لدى عشيرتها وجيرانها. حفظت القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية حيث عاشت في بيت علم وأدب في كنف والدنا الشيخ العالم الجليل عبد الرحمن بن محمد الخريف, وبرعاية والدتنا الحنون ـ رحمها الله ـ التي اعتنت بتربيتها مع شقيقتي الأخرى والدة د/ محمد ابن عبدالعزيز العقيلي وتشجيعهما على مواصلة تلاوة القرآن الكريم وحفظه لدى المعلمة طرفه بنت العم محمد بن عبدالله الخريف والدة عبد العزيز الحرقان ـ رحمهم الله جميعاً ومد في عمر أختي أم محمد, ولطف بأختي الكبرى أم صالح بن عبد الله العجاجى التي تعاني من مرض مزمن ألزمها الفراش منذ سنوات والتي لا أنسى عطفها وفضلها عليَ منذ فجر حياتي, فهي أختي الكبرى ومحل التقدير والمحبة في محيطها الأسري ولدى عارفيها فأم صالح معروفة وغنية عن التعريف نرجو لها الشفاء العاجل وحسن الختام لنا ولها.

والعزاء في وفاة شقيقتي منيرة أنها نشأت في طاعة الله محبة الخير للجميع وتاركة أثر حميداً وذكرى طيبة معطرة بالثناء والدعاء لها، و خاتمة حسنة حيث وافاها الآجل المحتوم بانطفاء نبضات قلبها بسهولة بعد ما تهيأت لصلاة المغرب من ليلة الخميس الموافق 10/7/1422هـ مخلفة ذرية صالحة من بنين وبنات، فأبناؤها كلهم مؤهلون بتربية إسلامية و ثقافة عامة، فهم الآن يعملون في حقل التدريس و تربية النشء، ويعلم الله أنني كلما تناولت القلم قُبيل وفاتها لأكتب شيئا عنها مترحما وداعياً لها بالمغفرة أجهش بالبكاء فلم استطع أن أكتب شيئاً من المواساة لأبنائها البررة وزوجها الوفي..، ومما زاد حزني وشجني ما سمعته من أحد أحفادي الصغار (طفل لم يبلغ السابعة من عمره) وهو يوجه هذا السؤال وهذا الاستفهام التقريري لخادمة البيت استغراباً من رحيلها المفاجئ بدون مقدمات..، و الله سبحانه هو المقدر للأعمار وهو أحكم الحاكمين ـ سؤال كله تفجع و تحسر قائلاً:  أماتت عمتي منيرة ؟! أماتت عمتي كررها مرات وكأنه لا يصدق برحيلها، وأنا أسمع ذلك على مقربة منه بدون أن يراني فلزمت الخادمة الصمت ولم تملك سوى مشاركة هذا الطفل الصغير في عمره الكبير في عقله في مصابه فأذنت لعينها أن تفرغ ما بها من دموع مخزونة وظلت تلك الدموع تهمي على خدها، ثم خرج من المطبخ نحو فناء البيت و بداخله ما به من حسرات ولوعات الفراق والحزن، وهو يردد هذا العبارة: ( يا خسارة عمتي ماتت ولن تعود إلى بيتنا أبدا !)، فهي رحمها الله محبوبة لدى الأطفال ولدى عارفيها فهي تنفح الأطفال الصغار بالهدايا وبما يفرحهم ويؤنسهم. وستظل صورة وصوت هذا الطفل الحزين على رحيلها مدوياً في أعماق نفسي لا يتوقف رنينه، وذكراً لها دائماً لأن إحساسه النابع من طوايا نفسه زاد حزننا كثافة وعمقا. ولإن غيبها الثرى عنا فإن ذكراها وخيالها لا يغيب عن خاطري مدى عمري, كما أن المكان الذي اعتادت الجلوس فيه في منزلنا يذكرنا بها كل لحظة عين مستحضرين ومرددين هذا البيت:

يعز علي حين أدير عيني

 

أفتش في مكانك لا أراك
<!--

داعيا المولى أن يسكنها في أعلي الجنان ويلهمنا وذريتها وزوجها ومحبيها الصبر والسلوان{أنا لله وأنا أليه راجعون} وبيت الشعر يقول:

إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت

 

حميمك فاعلم أنها ستعود
<!--

ورحل ذو الرئاسات(<!--)

(الشيخ ناصر بن حمد الراشد رحمه الله)

 

وكل مقيم في الحياة وعيشها

 

فلا شك يوماً أنه سوف يشخص
<!--

جبلت النفوس البشرية منذ القدم على ذكر محاسن من غاب عنها غيابا أبديا إلى الدار الباقية معرضة عما سوى ذلك..، نرى الناس يتسابقون في تأبين موتاهم وخاصة من لهم دور في الحياة يذكر ومكانة بارزه في مجتمعهم..،  نراهم يسكبون غُرر القصائد من عُصارات مهجهم، وفيض مشاعرهم، وتجري أقلام الكتاب محررة كلمات التأبين من نفوس حرّى حزناً وتأسفا على فقد ورحيل غاليهم..، فالرثاء أصدق مقولةً وأبلغ تعبيراً عما تضمره الصدور، وتكنه النفوس، حيث يأذنون لشريط ذكرياتهم معهم باستعراض مآثرهم، ومواقفهم الحسنة وما غرسوه وقدموه من فعل جميل قبل رحيلهم.

فاغرس من الفعل الجميل فضائلا
<!--

 

فإذا رحلت فإنها لا ترحل
<!--

ففي يوم الاثنين 2/10/1422هـ رحل عالم بارز من علمائنا من أبناء محافظة حريملاء ورجل فاضل من رجالات الدولة المخلصين بعد عمر يناهز الثمانين عاما إنه الشيخ الجليل ناصر بن حمد الراشد فمنذ مقتبل عمره وهو يتقلب في مناصب عالية يقفز من قمة إلى قمة، فلقد عينه الملك عبدالعزيز وهو في ريعان شبابه قاضيا في بلدة ( المويه ) إحدى محطات الحجاج التابعة الآن إلى محافظة الطائف وبعد ذلك عين رئيسا لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة ثم انتقل إلى رئاسة القضاء بمكة مساعدا لرئيس القضاء. بعد هذا عين رئيسا لمحاكم منطقة عسير.  وفي عام 1380هـ اختاره مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - ليكون رئيسا لتعليم البنات بعد اعتذاره عن رئاسة محاكم منطقة الرياض حيث أصدر الملك سعود ـ رحمة الله ـ أمره بتعيينه رئيسا لتعليم البنات ثم في عام 1397هـ صدر قرار بتعيينه رئيساَ لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وفي عام 1412 هـ  صدر الأمر الملكي السامي بتعيينه رئيسا لديوان المظالم حتى طلب الإعفاء في الآونة الأخيرة نظراً لظروفه الصحية عام 1421هـ وكان عضوا في هيئة كبار العلماء، وقد تدرج في تلك المناصب العالية بكل جدارة وكفاءة عالية، فسمعته حميدة تبقى معطرة بالثناء علية يتبعه أريجها في جدثه لنزاهته، و إخلاصه، وقوة شخصيته المعروفة بكل ثقة ورزانة، وقد حظي رحمه الله بمكانة سامقة ومنزلة رفيعة لدى ولاة الأمر لما يتصف به من علم ومكانه وهذه سيرة ولاة أمرنا حفظهم الله في تقدير العلماء ومكانتهم ومما دل على ذلك زيارة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد له في مستشفي الملك فيصل التخصصي قبل رحيله بيوم لما له من مكانة عالية لدى ولاة أمور هذه البلاد، فهم يقدرون العلماء أمثال الشيخ ناصر، والرجال المخلصين في خدمة وطنهم..، فله مآثر ومحاسن جمة لا يفرط التاريخ فيها ولا ينساها مدى الأيام.. منها ما تحقق أثناء عمله رئيسا لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي، بدعم قوي لا حدود له من لدن حكومتنا الرشيدة في مجال التوسعة الهائلة الجبارة للحرمين الشريفين.. فلقد أنصت لتوجيهات خادم الحرمين المتضمنة حثه على المتابعة وسرعة التنفيذ في عمل التوسعة، والمشاركة في اختيار أجود أنواع الرخام الممتاز ضد حرارة الشمس وقد قال لي الشيخ ناصر في مناسبة من المناسبات إن الدولة ـ اعزها الله بالطاعة- جادة في جلب رخام ضد حرارة الشمس من جزر البحر الأبيض المتوسط أو قال من اليونان.. لوضعه في المطاف وفي ساحات الحرمين الشريفين، وقد عملت نماذج صغيرة حول الكعبة المشرفة من أنواع الرخام للمقارنة والمفاضلة بين تلك العروض المقدمة من بعض الشركات العالمية، بحضور مسئول رفيع المقام في الدولة ـ ولعله خادم الحرمين الشريفين أمد لله في عمره، وقال الشيخ جئنا قبل صلاة الظهر لنضع أقدامنا حول الكعبة المشرفة على تلك العينات: قدم: على نوع، والأخر على النوع الذي تم اختياره لامتيازه علي سائر العينات، وقد أبدت وأيدت المختبرات صحة ذلك، ويقول أيضاً أن الشركة عليها ضغوط والتزامات في ذلك الحين ، ومع ذلك قدمت الموعد بشهرين تقديراً وتكريماً لخادم الحرمين ولتلك البقاع الطاهرة مما جعل الحجاج والعمار يطوفون ، ويسيرون في راحة تامة واطمئنان في عز الصيف وسطوع الشمس مرتاحين لبرودة البلاط الرخامي ، ولسان حالهم وحال الجميع يرددون الدعوات للمتسببين في ذلك  فجزا الله ولاة أمورنا ، وشيخنا الأجر الوفير عندما يلقون ربهم . و ستلوح وتشهد لهم ساحات وأسطح المسجدين بما خلدوه من مآثر جليلة تبقى على مر الدهور و العصور. فالشيخ ناصر ـ رحمه الله ـ لا يجامل في عمله علي حساب ذمته ومسئولياته والمصالح الشخصية فعملة دائماً يتصف بالأمانة وبالإخلاص والجد، فمن فيض محاسنه عنايته رحمه الله بالحشمة والعفاف للمرأة ذلك ما حرص عليه رحمه الله من إلزام النساء والفتيات بارتداء لباس الحشمة الساتر لمفاتن الفتيات حديثات السن في المسجد الحرام، وخاصة في أيام الأعياد التي يكون فيها بعض التساهل من بعض أولياء أمورهن في تلك الأعياد، وغير ذلك من صفات الانضباط للأطفال ليتم الهدوء والاطمئنان للمصلين في سائر الفروض والأوقات.كما تحقق في ذلك الوقت استبدال الدوارق وأواني الفخار بالترامس الصحية الحالية لماء زمزم المبّرد، وغير ذلك من الترتيبات والتنظيمات. وله في أثناء رئاسة تعليم البنات نشاط منقطع النظير فقد شُيد العديد من المباني العملاقة المدرسية في وقت قياسي، وكثير من المنشات، والتوسع الهائل في افتتاح المدارس الكثيرة، وتأثيثها بالأثاث الفاخر مع تأمين احتياجاتها من المعلمات والمواد الدراسية... الخ، فالدولة - اعزها الله ـ قد أعطته الصلاحية الكاملة فيما يتعلق بتعليم وتثقيف شقائق الرجال، ورغم ما يضطلع به من أعمال جسام فإن كرسي العمل لم يعقه عن الجولات المفاجئة حول أبواب المدارس، وخاصة حينما يعلم عن بعض المعاكسات والمضايقات للطالبات وحراس المدارس التي قد تحدث أمام بعض بوابات المدارس، فهو يأتي متنكرا داخل سيارة عاديه فإذا رأى شيئاً من هذا القبيل وتأكد خلع مشلحه عن منكبية ثم أمسك بالشخص المعاكس بكل شجاعة وقوة فيلقيه أرضاً على مشهد ممن حوله، ثم يسلمه إلى الجهات المختصة لتأديبه وإيداعه السجن ردعاً له ولأمثاله، وغير ذلك من المواقف المشرفة، وقد شهد له مسئول كبير في الدولة بأنه من أقوى الرجال شخصية وصرامة، وثباتاً ومهابةً. فالمجال لا يتسع للاسترسال في عد المزيد من مآثر أبي عبد اللطيف متمثلين بهذين البيتين، ومتأسفين على رحيله:

حجبـت عنا وما ا لدنيا بمظـهرة 
<!--

 

شخصاً وإن جلّ إلا عاد محجوبا
<!--

كذلك الموت لا يبقي على أحد

 

مدى الليالي - من الأحباب محبوباً
<!--

رحمه الله رحمة واسعة، واسكنه فسيح جناته، والهم ذوبه و أبنائه بنين وبنات وزوجاته، وأخيه الأستاذ عبدالله، ومحبيه الصبر والسلوان. (( إنا لله وإنا إليه راجعون))

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

( <!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 17 جماد الأولى 1422 هـ،الموافق 7 أغسطس 2001م. 

( <!--) نشرت في صحيفة الجـزيرة، الأربعاء 18/5/1422هـ، الموافق 8 أغسطس 2001م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 9 جماد الآخرة 1422هـ، الموافق 28 أغسطس 2001م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة يوم الجمعة 17 شعبان 1422هـ، الموافق 2 نوفمبر 2001م.

(<!--) نشرت في صحيفة الرياض، يوم الثلاثاء 10 شوال1422هـ.، الموافق 25 ديسمبر 2001م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 297 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف

mager22
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف **** ولد ونشأ في حريملاء , 80كم شمال غربي مدينة الرياض . درس في حلقات العلم على المشايخ بالرياض . بدأ الدراسة النظامية بدار التوحيد بالطائف 1371 - 1372 هـ . أنهى التعليم الثانوي بالمعهد العلمي بالرياض عام 1374 هـ . كلية اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,357