جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الحشيّةُ في غرفة الاستقبالِ أو إشارات مُرمّزة
اعلموا أنّني أمقتُ حزنكمْ.. إنّه لا يخصّني و لو كان عليّ..
على حشيّةٍ في غرفة الاستقبالِ، كانَ مُسَجًّى.. يُمناهُ إلى جنبِهِ الأيمن موازيةٌ، و كذلك يسراهُ إلى جنبِه الأيسرِ..عيناه مُسبلتان، لا تطرَفُ أجفانهما بيُسْرٍ.. لم تكنْ الأنفاسُ تتصاعدُ من الصّدرِ بجلاءٍ.. لكنّه لم يمُتْ بعدُ.. ربّما سَكْرةٌ أو سكرتانِ هو ما يسبِقُ انخلاعَ الرّوحِ.. كانتْ الرّوحُ ما تزالُ تتشبّثُ بجسدِها.. و كان الجسدُ ما يزالُ يجذبها إلى الطّين.. كانا قدْ تآلفاَ طويلاً.. تلك هي اللحظة هي التي يُمْتَحَنُ فيها وفاءُ كليْهما للثّاني.. لحظة الانفصالِ الخِتاميّ عن الإلْـْـفِ، عظيمةٌ هي تمامًا كمخاضِ القُدوم.. ثمّة شهقاتٌ متقطّعةٌ.. غُصّة بعد غُصّتيْن. هدْأة قبلَ هدْجة. ثمّ هجْعةٌ كاذبة إلى حين الهدجاتِ الحاسماتِ..
لـمّا تأتِ..
ما الاحتضارُ سوى شبَقِ الموتِ، أوارِهِ المتجلّي.. حين ننزَعُ يكونُ الموتُ مسكونًا بلذائذِهِ الفَـظّةِ المنتفضة.. الموتُ لا شيءَ، إنْ لم يعِـشْ مُتعة اغتصابِنا.. إنّ متعة الموتِ الشبقيّةَ هي تلك اللحظة التي يتنافرُ فيها الجسدُ و الرّوحُ، و قد كانا تعالقا متعانقيْن...
إذا كان الاغتصابُ كَسْرًا لهيْبةِ الجسد، فالجسَدُ في لحظةِ النّزْعِ مُنْتهَكُ الهيبةِ و الوقارِ والحضور. و الموْتُ في اللحظةِ ذاتِها، فاجِرٌ فَـَـجٌّ.. أمّا الرّوحُ فخائرةٌ خائنةٌ، سواءٌ في قوّتِها أو ضعفِها، هي خائنة. أوَ لا تكونُ كذلك حين تتركُ مأواها الذي استوطنتْه زمانًا، و تنْسَلُّ إلى عُــلاها !؟ !
كان الجسدُ ساكنًا، لكنَّ الحُشاشاتِ المتبقّيات توهِمُ باستمرارِه.. كان الحلْقُ يَشْرَقُ و الصدْرُ يهـْـتزُّ.. عند السكَراتِ الخفيفاتِ ، تجلّتْ أربعون خريفًا أو أكثرُ أو دون ذلك. أربعون خريفًا و ربيعًا و صيفًا وشتاءً.. هكذا متداخلة هيَ، غير متتابعة.. داخل كلِّ فصلٍ، آلافُ الساعاتِ، آلافُ الدّقائقِ و ملايينُ الثّواني، كلّها تتناثرُ..
ثمّة مِذراةٌ تعملُ آنئذٍ في الرّمادِ..
كانتْ الأحلامُ التي أينعتْ في الفصول و السنواتِ و اختبأتْ في الأيّامِ، أشبهَ ما تكونُ بكيسٍ، دَبَّ فيه سـُوسٌ ضروسٌ، فَـخرّبَ حَبَّهُ.. منْ ثُقوبِ الكيسِ ، كانتْ تنزلِقُ قشورٌ مُشوّهةُ القَضْمِ، و كان دقيقُها غَثٌّا.. و كان السّوسُ يطيرُ عاليًا بِصمتٍ.. ثمّ يلحقُهُ الغُبارُ سُـفـْـليًّا.. و الغناءُ ! كان ثمّة غناءٌ.. أين الغناءُ الذي كان يُصاحبُ الأحلامَ و يـَيْـنعُ معها عبر السنواتِ؟ كان الغناءُ يندسُّ مع كلّ حلمٍ.. و كان لكلِّ حلمٍ معزوفةٌ مميّزة تتلوّى معهُ و فيه. تُغنّيه و تُغنّي لهُ.. كذلك كان الحلمُ يُـشرِقُ بالنّشيدِ أحيانًا، و أحيانًا يثمَلُ بموسيقى البُكاءِ..
حين انفصلَ عن الجسدِ المُسَجّى جـَسدٌ ثانٍ ،و جلسَ بجوارِه إلى الكنبة،و قد تركهُ على هيئتِه فوق الحَشيّةِ، كانتْ إيقاعاتُ الغناءِ تَذْوي ،و عِطْرُه اللألاءُ ينشُفُ.. ثمّ تراهُ مُصفرًّا، ثمّ يطيرُ مع السّوس.. كان الجسدُ المنفصِلُ يرْقُبُ الجسدَ المُسجّى على حشيّتِه في منتصفِ الغرفة.. كانتْ زوجةُ الجسدِ المحتضِرِ المُسجّى، قدْ جعلتْ تخرجُ تدريجيًّا مِن نوبةِ النّحيبِ الأعنفِ.. كانتْ وهي تنظرُ آنئذٍ، إلى جسدٍ تخونُهُ روحُهُ ويَخبو عنه النّشيدُ، تُهَـرِّبُ وجهها عن الاصطدامِ تناظرًا، بوجهِ المُحتضر..
خُيِّلَ إلى الجسدِ المراقِبِ مِنْ على كنبتِه أنّها تقولُ سِرًّا:
" انطفئي أيتها الشّرارةُ المتبقّية.. أمَا آن لك أنْ تنْخمدي بعدُ؟ إنّكِ إنْ تخمدي، و أنْـهِ حدادي، أخطِفْ أبنائي و أقلِعْ في غيرِ تردّدٍ للرّجوع.. قبلتنا السّواحلُ حينَها، حيثُ الحياةُ أكثرُ رطوبةً في الصّيفِ و أقلُّ صقيعًا في الشّتاءِ.. إنّك حالما تنسلّين ، أيتها الفراشةُ المنعتقة من جسدٍ مَهينٍ ستكونُ فرصُ الخلاصِ من الوحشةِ مبذولةً متاحةً .. أمَا ينتهي أوارُكَ أيّها الموتُ المُرفرِفُ شهوةً فوقَ روحٍ هزيل ، و الرّاقِصُ شبقًا فوق جسدٍ هتيكِ الجلالِ؟ "
كانتِ السكراتُ و الهدجاتُ ما تزالُ تَرَدّدُ في الذّهابِ وفي الحضورِ.. أوَ كانتْ تلك الرّوحُ شرّيرةً فاستطالُ علوقُها؟ أم تراها كانتْ وفيّةً لمأواها الأصيلِ، فلبدتْ في الصّدرِ أو في أحدِ مسالكِ ارتفاعِها؟
كان الجسدُ المنفصِلُ يُراقِبُ ما يجري عند أولئك الذين يَحُـفّون بالجسدِ المُحتضِر المُسَجّى.. لم يكنْ الأبناءُ يبكون حين أمرتهمْ والدتهمْ بالكَفِّ عن البُكاء:
ـ كفى.. كفى بُكاءً.. اطلبوا له المغفرة. و ادعوا له بالرّحمةِ.. كذلك يُخَفَّفُ عنه العذابُ بلا بُكاءٍ.. لقد رحمتنا السّماءُ بأنْ خفّفتْ ألمَهُ و عجّلتْ سفرَه. لقد رحمتْهُ.. لا تحزنوا. إنّه يصعدُ بهدوءٍ و انتصارٍ..
___________
سيف الدّين العلوي
شيء من رواية
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية