جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
***النُزْهَةُ الأخيرة***
كان يوما من ٱخر أيام الصيف.نسمات باردة تنعش القلوب الصدئة و تبلل الجدران المتٱكلة بماء الحياة .اغلب الناس خرجت من براكينها تودع الشمس التي استعبدتها طيلة أشهر الحر...
لم تكن "حبيبة" لتخرج في ذلك المساء لو لا إلحاح جارتها "سارة" عليها تلك المرأة التي لا يشغلها شيء أما "حبيبة" فلها ابنتها "سلوى" ذات الربيعين جعلتها تعتزل الدنيا و ما فيها .
خرجتا تمنيان النفس بنزهة رائقة تنفض عنهما غبار الأرق و الضغط اليومي رافقتهما "سلوى"التي ما إن رأت الشارع و الناس حتى اخذها صخب الحياة للهو و المرح غير عابئة بزجر امها لها ...
امتد بهما الطريق حتى وصلا إلى تلك الحديقة التي كانت مقصد الكثير في مثل هذه الاوقات جلست "حبيبة "تلهث من جراء ما عانته من حمل ابنتها و هرجها الذي كانت تتوقعه و اندفعت" سارة"تدافع عن الصغيرة و تفتكها من حضن أمها قائلة لها :
_"اتركيها تلعب فالمكان ٱمن "
الأمان عند الأم لا يكون إلا في حضنها حتى و لو كان كل جند العالم في حراستها ...
تركتها تلعب و هي تسترق النظر إليها تراقبها دون كلل رغم أن صديقتها لم تترك لها الفرصة بحديثها الذي لا ينتهي ...
ازدانت الحديقة بالاضواء بعد أن أسدل الليل ستاره و زادت النسمات العليلة الجو ألفة سرت في القلوب و نفثت الروح ما بها من كٱبة. تخدرت الصديقتان بحقنة المرح و طفقتا في الضحك و الدعابة بعد أن افترشتا العشب المبلل و بجانبهما تلك الصغيرة .مرت اللحظات ممتعةو هادئة حتى رن هاتف "سارة" نظرت في الشاشة و انطلقت مبتعدة عن صديقتها .لم تغب طويلا و سرعان ما رجعت و قد ارتسمت على شفتيها ابتسامة عريضة استفسرت منها "حبيبة" فأخبرتها ان زوجها سيتأخر بداعي العمل. مرت المكالمة مرور الكرام و انشغلت الام بابنتها تزيل عنها ما علق من شوائب في شعرها بينما سرحت الجارة بعينيها تراقب الموجودين و هي تداعب بذور اللُّبِ الأسود ...
بعد مرور اكثر من نصف ساعة بدأ بعض المتنزهين في المغادرة انتبهت "حبيبة" لذلك فأسرَّت لجارتها رغبتها في العودة و لكن "سارة" طلبت منها أن يمكثا قليلا .استجابت الام على مضض و استسلمت لها و بينما هما كذلك حتى وقف أمامهما متسول يطلب معروفا نهرته "سارة" و قد طلبت منه المغادرة غير أن "حبيبة"رق قلبها لحاله خاصة و أن منظره و هيأته توحيان بالعدم و الخصاصة انشغلت الأم بذلك المتسول تبحث له عن بعض القطع النقدية في محفظتها بينما ابتعدت تلك الصغيرة عن المكان قليلا .أخذ ذلك المتسول ما جادت به "حبيبة" عليه من مال فانهال عليها بوابل من الدعاء الفياض حتى غادر و اختفى بين الأشجار ...افاقت المسكينة من سعادتها على صوت "سارة"و هي تنادي على "سلوى " ارتعدت فرائسها و هي ترى صديقتها تبحث عن ابنتها هرولت لا تعرف اين تضع قدمها تنادي و تبحث و قد اصفر وجهها نادت بأعلى صوتها حتى انتبه بعض الموجودين فانضموا إليهما يبحثون في كل مكان طال البحث دون جدوى اختفت الصغيرة في لمح البصر .ذرعوا الحديقة طولا و عرضا فلم يجدوها و انهالت "حبيبة"على خدها تلطمه و تبكي بكاء مرا. ضمتها "سارة" تواسيها و تهدأ من روعها مطمئنة إياها بأنها ستجدها بينما واصل الحاضرون البحث مجموعات مجموعات حتى فقدوا الأمل في العثور عليها.
فقدت المسكينة وعيها و بدأت تهذي و تنادي على ابنتها بصوت متقطع أثر في الموجودين طعنة قاتلة أردتها مجنونة. طلب منها اغلب الحاضرين التوجه لأقرب مركز للشرطة فانصاعت لذلك تحملها "سارة "و تجرها جرا
في مكتب التحقيقات لم تكن بأحسن حال و زاد هياجانها و هذيانها و توسلت للضابط المسؤول ان يجد لها وحيدتها قرة عينها الي فقدتها بينما هاتفت "سارة" زوج "حبيبة" و كذلك أستدعت زوجها فحضرا الإثنان...
تواصلت الأبحاث و التحقيقات و انتشر رجال الشرطة في كل شبر من المدينة يبحثون و يوقفون كل أصحاب السوابق مرت ثلاثة ايام بلياليها و "حبيبة" لا تعرف للنوم طعما و لم تتوقف عن البكاء و في كل مرة تحاول أن تتذكر ما حدث في تلك النزهة غيمة سوداء لا تعرف متى تنجلي ... كانت متأكدة في قرارة نفسها أن ذلك المتسول وراء اختفاء صغيرتها و لكن كيف ستجده و كيف السبيل إليه
أعادت على نفسها شريط الذكرى المشؤومة. قبل ان يحضر ذلك المتسول كانت "سلوى"بجانبها تلعب و تلهو و مع قدومه التفتت إلى حقيبتها أعادت رسم وجه ذلك الشحاذ كان وجها بائسا يغطيه شعر لحيته المجعد يرتدي برنسا مرقعا. أغمضت عينها المتورمة تحاول رسم عينيه. وميضهما رغم بؤسه مازال عالقا في تلابيب ذاكرتها و صوته الذي سمعته من دعائه لها مازال يرن في أذنيها تأكدت بما لا يدع مجالا للشك أنه هو الفاعل اخبرت زوجها بما توصلت إليه فأخبرا الضابط بذلك .عادة ما يكون لدى الشرطة أسماء المتسولين و صورهم عرضوا عليها كل المتسولين فلم تجده بينهم .طلبوا منها أن تمدهم باوصافه حتى يتمكنوا من رسم صورة له تساعدهم على الإمساك به ...كم ندمت على ذلك الخير ماذا لو تركته يذهب لحال سبيله و احتضنت ابنتها فعل انساني كلفها اختفاء مهجة قلبها ونزهة حلفت بكل الأيمان انها ستكون النزهة الأخيرة ...
مازالت تلك الذكرى الكئيبة عالقة في ذهنها رغم مرور اكثر من عام عليها تذكرتهاو هي تسرح شعر "سلوى" وجه تلك الجارة و وجه زوجها انطبعا في مخيلتها للأبد لقد كان ذلك المتسول زوج "سارة" اللعينة التي خططت لعملية الإختطاف تنكر بشكل محكم و اتفقا على الموعد في تلك المكالمة.شيطان في جسد إمرأة استسلمت لغيرتها و حقدها الذي طمس عنها الحب و لوعة الأم التي لا تعرفها ...
في تلك الليلة عندما انشغلت "حبيبة" بالمتسول أبعدت "سارة" الصغيرة عن المكان بحيلة شيطانية دون ان تتفطن لها أمها لقد طلبت منها أن تقطف وردة وراء شجرة تخفيها عن الأنظار و بقيت تنتظر مغادرة "زوجها" و تمكنه من إخفاء الصغيرة في برنسه بعد أن يضع على انفها قطعة قماش بها مادة مخدرة ثم يختفي عن الأنظار ثم تتظاهر بالمناداة على "سلوى" حيلة محكمة انطلت على المسكينة و لولا ذلك الإصبع المقطوع في يد زوجها لكانت "سلوى "إلى الٱن في عداد المفقودين ...
تذكرته و هو يمد يده ليأخذ النقود منها و بعد أن طال البحث و فقدت الأمل ...
نسي ذلك الغبي أن يخفي ذلك التشوه خصوصا و ان كل سكان الحي يعرفون أن إصبع سبابته مقطوع ...
هما الٱن في السجن و "حبيبة" فقدت الثقة في كل شيء و تمنت على الله أن تُرزق كل إمرأة بمولود حتى لا يكبر في نفس_ كل من حُرِمت من الإنجاب_ الحقد و الكره الذي يتحول إلى كتلة من النقمة العمياء ...
و كانت تلك ٱخر نزهة لها .....
سفيان مرزوقي
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية