جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
طلقات
تتابع الطلقات ،الأولى" لا نعرف لماذا نطلق النار، الثانية" لنأخذ بالثأر"، الطلقة الثالثة" من أجل السلام"
لم يكن الوقت متأخرا،والجو حار، وما زاد الطين بله،أن كل شيء مسجل ومنسوب إليها، لكن الشيء الأهم لا أحد غيرها يعرفه.
هناك وراء الباب وهو في بزته العسكرية، وبينما كانت أمه تستعد لوداعه،أحسّ أنها المخلوقة الوحيدة،التي يشرق من وجهها حزن لا نهائي الهبوط، كانت تودعه، وكانت ظلال الأسى تتناوب بين عينين توحي بالخوف والرجاء، قالت له متماسكة مانعة انهيارها في البكاء:
" كن شجاعا ...لا تخف...لا أحد يموت إلا من خلص عمره"
قبلته وعابثت شعره،ثم لمست وجهه بفيض من الحب العاصر للقلب،و بهمس مثقل بالرهافة،أوصته
" عد لي ...البيت من غيرك صامت"
قبل يدها وعابث حزنها بشيء من المزاح الشجي:
" أنت أفضل أم تهدئ ابنها"
حمل حقيبته بيده ، وهي حملت فيض من التأثر والفراق،وبينما تساعده على الصعود إلى السيارة ،التي ستحمله إلى حيث شاء الله،بدا وجهها شاحبا ،لوح لها بيده فبدت التفاتها أكثر وحشة تقف بها على حافة الانهيار.
همست له مستسلمة لنزيف طاعتها للحياة أن تكون هي الأم وهو الابن الذاهب إلى الحرب:
" يا الله..ارجع ابني لي"
أجهشت في البكاء لسوء حظها ، ولقلة حيلتها ، هي واثقة أن ما تبقى من عمرها سيكون الحزن فيه كثير والفرح قليل ، ما ذنب الأمهات !! مشت بخطوات متثاقلة نحو النافذة ، ونظرت بعينين حزينتين إلى القمر ، كان ضوءه شاحبا ، لكنه عنيدا ، يرسل ضوءه القرمزي من بين فراغات الغيوم كلما سنحت له الفرصة ،استدارت نحو صورة ابنها ، وتأملت ابتسامته الرقيقة ،المتنافرة مع قسوة لباسه العسكري وتمنت لو انه حاضر معها، كم كانت الأمور سعيدة بحضوره ، شحب وجهها أكثر وهي متسمرة أمام الصورة ، فأخذت تصلي قائلة
"يا لله ارجع لي ابني "
تلاحمت دموعها مع اسمنت أنفاس تلاشت منذ سنين ،كل ما تمني به نفسها أن يعود حيا ، التفكير دون جدوى عمل متعب لانهاية له ،ولم يكن لها من الشجاعة ما يمكنها من النطق بكلمة ، كل شيء ضبابيا ، هذه الحرب ترمز لنهاية كل شيء بالنسبة لها.
- أنا من يتحمل الشقاء
راحت تنتحب من جديد ، و تقهقر إلى سمعها نواح يفتت الأكباد ، كانت نسوة القرية بلباسهن الأسود وشعرهن المنفوش يتجمعن حولها، وقد شمرت بيجامتها إلى فوق الركبة ، وراحت تلطم وجهها دائخة حتى ازرقت وجناتها ، وتشد شعرها ، صارخة، باكية، مولولة وكن يتوقفن عن النواح فجأة ، وما أن تبدأ أحداهن بالبكاء حتى تنتقل النساء إلى حالة العويل وكأنهن يحطمن شيئا مقدسا ، أما الأب فقد جلس في الغرفة يذرف الدمع فمن المعيب أن يبكي الرجل بحضرة الآخرين ، لقد أيقن أن كثرة البكاء في زمن الحرب هو انهيار مفزع ، كما كان يود أن يبدو شجاعاً في عيون جميع المعزين ، ولهذا السبب نزل خارجاً إلى ساحة القرية ، يصافح الرجال غير مبد لخيبة الأمل ، ولا للحزن بطريقة جافة .
ابتلعت حيرتها وحدقت في الصورة ،توجس وأمل ويأس ،لو أن لحظة هدوء تنسلخ من فوضى هذا الكون ، لكانت كافية أن تحسم أمرها ،لكنها منكسرة ،الصورة ساكتة ، الاستمرار في الحزن زيف هذا ما قاله لها زوجها بعد أن بالغت في أظهار الحزن على فراق ولدها، تذكرت هذه العبارة ألاف المرات لتخرج نفسها من حدادها ، دون جدوى ، لم تستطع أن تتحمل الذكريات ، ففاجعة بحجم فقد الابن لا يستطيع قلب صغير أن يتحمله،ارتسمت على وجهها ابتسامة مشابهة لابتسامته في الصورة فضمتها إلى صدرها وبكت بكاء مراْ لدرجة أدمعت عيني ابنها في الصورة.
الزمن ينقرض على ظل وجهها،كأنها اكتشفت التساقط في العدم،إنها تلعب لعبة اللاشيء، أصبحت كائنا يسرد الكلام،تنسج شبكة من التخيلات المتشابكة بغير انتظام، إن قلبها مرهق بكرب مفرط ، لا يمكن بعد اليوم أن يبسط جناحيه ويحلق في الفضاء ، صامتة تفكر بهذا كله ،هدها الضعف، رجفة من مرارة اليأس تعتصر روحها ،صفير مثل أزيز الجراد تحدثه الذكريات ، تخيلت وقتئذ إن جثته مقطعة الأوصال وإن رأسه مفصول عن جسده ، وهنا وهناك يتردد إن جمجمته كانت مشوهة ، محجرين بلا عيون وفم بلا لسان ، لهذا السبب قال لها الضابط :
-ممنوع فتح التابوت ؟؟
كان التابوت مغطى بالعلم السوري ، ومغلق بالمسامير بأحكام شديد ، يحمله ثمانية رجال، طلبت منهم فتح الصندوق لتلقي عليه النظرة الأخيرة فمنعها الضابط بكلمات مواسية ، فارتمت عليه وهي تضاعف عويلها المؤثر ، تم نهضت كي تعود لتسقط برخاوة على الأرض ، لم يكن بالمستطاع رؤية الجثة ، كان ثمة فاصل بين بشاعة المنظر ورغبتها أن تلقي نظرة الوداع.
هنالك في الصحراء جثة جندي بزته باهتة كئيبة بعضها ممزق وبعضها سليم، يرعى الذباب الأزرق جلدة الفتي.شفتاه ممعوستان،وأسنانه المكسرة بدت بارزة،ورأسه المنفصل عن جسده بشيء من النبل،ومحجرين بلا عينين،لقد نجحوا الملاعين في إخراج الجمال الكامن فيه بشكل بليغ.
فؤاد حسن محمد- جبلة- سوريا
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية