دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

الصلصال 
على القبر تألق الرخام بضوء الشمس الشفقي .
اختفى الشبح الذي نحبه تحت بياضه ، لكنه لم يرحل. لم نعد نلمح ظله على الجدار، و لكننا نشعر بحضوره .الحضور الذي لا يمكن التعبير عنه ،حضور الأرواح الخيرة التي توهج أعيننا الدامعة.
وبدون معجزة رفع حسن نظره إلى الأعلى ، المعجزات التي لم تعد تنزل من سماء جبلة المقدسة، فمنذ ملايين السنين ربما هبطت أكبر معجزة . أدم وحواء .ومن يومها مازال الصراخ والعويل وسيول الدمع توجه الدعوات لوقف نزيف الدم.
على مسافة ليست بعيدة عن القبر وجه حسن أعظم دعوة إلى الله أن يعيد له والده ، وبخلاف معظم الأطفال ، لو ألقيت لمحة إلى عينيه السوداوين الواسعتين لبدتا أنهما تمتلكان القدرة عاى عبور الحجب . كان حسن يشعر أن بإمكانه أن يعيد والده من المقبرة ،لكنه لم يكن يعلم أنه في تمام الساعة العاشرة وخمسة ثواني سيقبض على روحه ، وسيغمض عينيه الواسعتين إلى الآبد .
" يا الله.... لا تجفف دمعي ولا تكبت تنهيدتي "في هذا الدعاء يقبع حزن يجلب الدموع إلى عيني حسن ،و من وراء غلالة دموعه ،يتماوج القبر إلى ظل قاتم ،فيهبط خياله غربا ،وتبدأ سبابته ترسم خطوطا على الزجاج المغبش بالبخار ،كانت نظرة القبر مظلمة تحشد روح بلغت روحا أخرى ،لقد كان يتمنى رؤية وجه والده بطريقة ما ولو مرة واحدة ،لكنه كان يخشى عند لقاءه هذا الوجه أن يكون متآكلا ، وصل أخيرا إلى خداع نفسه ،لدرجة أنه أعتقد خطأُ أن عودة الميت شيء ممكن .
ولّدَ الوهم في قلبه الأمل ،الآن لأول مرة تسحر عقله أضغاث الأحلام ،لقد أصبح شوقه يأخذ شكل هلوسات حسية ، كان ينظر مرة بعد أخرى إلى القبر من وراء النافذة ،إن ما يرسمه في خياله ليس مجرد جسد ،ولا شبح لظل ، بل جوهر روح ينتظر أن تقوم من القبر .وبقدر ما كان حلم ميئوس منه بقدر ما كان يزدد تمسكه به .
غمر حسن التعب من جراء التفكير المؤلم الذي أثقله ،لكنه وجد فيه شيء من الراحة ،فواصل العبث بالسر، سر الخلق . 
- سأصنع له تمثال من الصلصال ....وأنفخ فيه من روحي .
التفت يمينا ويسارا ً لم يجد أحدا غيره ،وقبل أن يكمل رغبته في الارتفاع عاليا ، تدحرج إليه صوت ماء يغور في الأرض :
- من تنتظر ؟؟؟
-أنتظر رجوع أبي !!!!
- أين أبوك ؟؟
- نسيته في القبر
- تعال معي . 
لمس الصوت يده بهدوء ،لا حنان يرخي يده كحنان والده ، فقط كانت هناك رائحة حنونة ،سحبه وهو يحكم قبضته عليه ،قال له حسن :
- انتظر من أنت 
مسد شعره برفق :
- أنا لست أحدا 
هز حسن رأسه ولم يعرف ماذا يقول ،استشعر وهو يمشي ملمس جرة الماء ، وشرب من ماءها ، أخذته ذاكرته إلى رائحة التراب ،وظل يتبع هادئا وراء الصوت الغائر في شق الأرض أمامه ،مأخوذا في صلاة روحية ، تخلع على الموت طيفا من الهيبة ، ويملأها بالقدرة على الابتعاث من حنين المجهول .
لم يكن الصوت كالشيء الرقيق الهادئ ،إنما هو أقرب إلى العنف متدفقا بوسوسة وادعة،فخالجه شيء من الإحساس المبعثر ،والخوف من وجود قوى خفية شريرة ، تتحكم بعدد بدقات قلبه .
تتصاعد الأصوات في رأس حسن ، تتحدث إليه ،تخبرة ماذا يجب أن يفعل ، تقول " أخرج إلى المقبرة " تأمره أن يفعل شيئا مجنونا " أصنع تمثالا من الطين على هيئة والدك " ،تتلاشى تلك الأصوات بسرعة لتعود بسرعة " تم أنفخ فيه من روحك " ، هذه ليست أصوات إنها كابوس حي ، صرخ وصرخ و صرخ في قلبه لكنه لم يصدر عنه أي صوت " لا أقدر " ،تهدأ الأصوات لكن تصبح حالته أسوء " أذا لن ترى والدك " يعذبه الجواب ،قرر أن يسكت تلك الأصوات ،لكن الأصوات تعالت في ضجيجها " سيتمثل الصلصال أبا سويا "
خرج حسن من الغرفة، كانت السماء تمطر فوق القبر ،جمع كومة من الطين ،بدأ يعجنه ،استمتع بوشوشة الطين تمرق من بين أصابعه ، مر وقت طويل قبل أن تخبره الأصوات ماذا عليه أن يفعل ،وإذ أدار رأسه أبصر الصوت يستحيل شابا جميلا ،وكان وهو في مكانه يصدر همهمات آتية من رأسه ،وقف حسن يتأمل هذا الجمال ، كان يبتسم له وهو يأمره " إصنع دمية من الطين " ، الساعة تقترب من العاشرة صباحا ، صنع ماتهيأ له دمية ، قال له الشاب :
- أنفخ فيه 
نفخ حسن نفخة طويلة أخرجت روحه من فمه ، كانت الساعة قد أكملت العاشرة وخمس ثوان .
فؤاد حسن محمد- جبلة- سوريا

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 190 مشاهدة
نشرت فى 21 سبتمبر 2017 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

562,420