جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
كَفَنُ الحَريرِ الهِنديّ ... قصَّةٌ قصيرةٌ.
مديح الصادق...
بأطراف أنامله الرقيقة كالزبدة الطرية، برقَّةٍ مسح شاربَيه المصبوغين صبغة رأسه المفروق، مدَّ الأخرى ليُشعل سيكاراً طويلاً، ثم تفحَّص المُسدَّس المُسجى أمامه على طاولة فاخرة، رست عليه مزايدتها في استعراض استفزاري أغاض به بعض الخصوم، اطمأنَّ على أنَّه محشوٌّ بلا أمان، جاهز للإطلاق، أسند الرأس على كرسيِّه الدوَّار مُحرِّكا إيَّاه في كل الاتجاهات، إنها نشوة مشوبة بقلق مُفتَعل، فغداً حفل افتتاح هذا القصر، قلعة خصَّ بها نصف الثروة تلك التي هبطت عليه من السماء، كما يُردِّد دائماً: مصائبُ قوم ٍعند قومٍ فوائدُ، وكل ما يُكسَب من غزو حلال، وإن كان المغزُو جاراً، لم يحسب لغدر جاره أدنى حساب.
لقد راعى في تصميم قصره وتأثيثه كل الأذواق والاتجاهات؛ فقاعة الاستقبال الأولى تتصدرها صورته على امتداد الجدار، مُرتديا الزيَّ الشعبي، شاهراً سيفا مُطعَّماً غمده بفاخر الأحجار، شاخصاً برأسه قليلا إلى الخلف، في الجانب الآخر مثلها لوالده بالعقال المُقصَّب الأميري، والعباءة المُذهَّبة الحواشي، تلاصِقُه أمُّه كاشفة خواتمها الثمينة، واضعة كفَّاً على كفٍّ بشكل مقصود، استدار قليلاً نحو الجدار الآخر، أمعن النظر طويلاً في صور ودَّعها أصحابُها منذ عقود، أحاطتها أكاليل زهور، وعبارات تحكي أنَّهم شهداء القضية والنضال من أجل المبادئ، إنَّهم أبناء عمومته الذين اتهمهم بالغباء لأنهم لم يساوموا فقالوا : لا للسفاح؛ وغادروا تاركين له ميراث التشدق بالمآثر والبطولات عند استضافته للسياسيين رفاقهم، أو لبعضٍ من وسائل إعلام يلتقي بها بالسر.
القاعة الثانية أعدَّها لاستقبال رجال الدين، فهو بحاجة لدعمهم باستمرار، على جدرانها لوحات تناسب أجواء الدين، في الزاوية اليمنى رفٌّ مُغطَّى بقماش فاخر استقر عليه كتاب مُقدَّس ديني، وفي مواجهة الداخل للقاعة مكتبة من خشب الساج الراقي، رُتِّبت على رفوفها كتب توزعت عناوينها في الدين، والتأريخ، والأنساب، والسياسة التي يكرهها مثل كرهه لأي مثقف أو عالم أو فنان، وعلى الشمَّاعة علَّق الثوب الأبيض، وبعض مستلزمات طقوس بها يُوهم الزائر أنه عابد ناسك، في عبادته يوصل الليل بالنهار، كسوة رجال الدين جاهزة، والهدايا مُحضرَة لكلِّ عيد؛ كي يُكثِروا له بالشكر والدعاء أنَّى يرحلون.
حسنا كان الصنيع إذ أفرد باب القاعة الثالثة من ممر خلفي؛ فهي مُستودع الأسرار، فيها البار بما لذَّ وطاب، والمسرح الصغير المُعدُّ لهز الخصور، واستعراض لأجساد نحيفة، أجبرها خوى البطون على بيع أثمن ما يملك الإنسان، والضيوف - طبعاً - هم أمثاله ممَّن يُسمِّيهم علية القوم، لعقد الممنوع والمسموح من الصفقات، تلك التي أدرجها في باب ذكاء رجال الأعمال، واستياء الزوجة قابل للمساومة، فهي مثله تعشق المال؛ من أي مصدر جاء، وليُطلِق عنانها بالسياحة والسفر، أو اقتناء نوادر الجواهر والأطيان.
غادر الكرسيَّ مُطلِقا زفرة طويلة، أمسك فردة الشباك المفتوح، استدار إلى الخلف، لابدَّ أنَّ أمراً مُقلِقاً قد أثار لديه رغبة في التجول مرة أخرى في ثنايا القصر، ارتقى السلالم المفروشة بالثمين، أطلَّ من الشرفات وقد بدا عليه أنه قد وجد الحل المُناسب لما أقلقه، زيارة أبناء العشيرة، ثِقال الدم المُتزمِّتين القادمين من مدن الجنوب ترافقهم زنابيلهم، بتمرِها، والدهن الحرِّ، والسمك المُجفَّف، أوطحين الرز، فهم لا يأكلون إلا الساخن، ولا يملُّون من أحاديث الغابرين، والروايات، وهذا سهل؛ فلهم أفرد غرفة خارج القصر، يجاورها حوض ماء، وبعض الطيور الداجنة، وابن عمه صيهود الثرثار جاهز لاستضافتهم نيابة عن ابن عمه الكريم، عبُّود.
ركل قضبان الشرفة واستدار ليقطع السلالم مثنى وثلاثَ، لاشكَّ أنَّ الأمر تلك المرة أخطر من كل الأمور؛كيف لا وانتخابات مجلس العشيرة على الأبواب، ومنصب رئاستها غير جائز أن يغادره إلى أي من أولئك الموظفين الذين يُعلِّقون شهاداتهم على الجدران القديمة الصدِئة؛ وأطفالهم لايطالون حتى خبز الحصة الأسمر المخلوط بنوى التمر، وما تعفَّن من الشعير المخزون، وأشياء أخرى، يُرقِّعون ثيابهم نفسها كل موسم أو عيد؛ تلك ليست مشكلة فهذا مقدور عليه؛ العيد قادم، بضعة من الذبائح تُنحر ليُطعِم منها الجائعين أوغير الجائعين، يُرسل الهدايا لبعض أرامل العشيرة - خصوصاً منهن الجميلات - وقد يوظِّف بعض السماسرة للضغط على من لا تلينُ رؤوسهم من المُنافسين، وآخر الحلول الكيُّ؛ فهذا صديقه النقيب طارق، ضابط المخابرات، عبقريته جاهزة لتلفيق ما يختار من تُهمٍ يكيد بها الخصوم، وحبل المشنقة ملفوف لامحالة على عنق من يدعي أنه - جهراً أو سرَّاً - قد شتم القائد الفذّ.
أشعل سيجاراً ثانياً وهو يُراقب البُستاني الموثوق به، نعمان، المُؤتمَن على أخطر الأسرار، ذلك الذي استعان به لحفر سرداب داخل غرفة النوم، ما اكتنزه العمر كلَّه أودعه فيه، وما كسبت يداه، حلالاً كان أم حراماً، ونعمان هذا مُتديِّن، فلساً فلساً يجمع النقود كي يحجَّ البيت؛ رغم أنه يعلم بالمخفي والمستور من أعمال صاحبه، وولي نعمته، عبُّود، لكنه مُطمَئِنٌّ فقد استشار مُشرِّعاً دينياً أجاز له - عند الضرورة - بلع اللسان؛ فالحصار والحرب كافران لا يرحمان، والله - كما قال لنا - غفور رحيم.
نفض السيجار من يده ولم يُكمله بعد، الظاهر أنه تخلَّص من كلِّ الهموم إذ لكلِّ مُعضلة أوجد حلاًّ، أطال النظر في المرآة مُعيداً ترتيب شعره وشاربيه، اطمأن على أنَّه عالي المعنويات، أزاح برجله المُسدَّس، قدَّم اليد اليمنى إلى رزمة أوصلها إليه أمس ساعي البريد، هديَّة ثمينة من صديق مُقيم بالهند، كَفَنٌ من الحرير الطبيعي، يحمي جلده الرقيق من خشونة التراب؛ بعد عمر طويل.
أزاح الكفن عنه ولام نفسه بقسوة لأنها طاوعته ففكر بالموت وهو عنه بعيد كما قال البارحة مازحاً طبيبُه الخاص: أنت عال العال، بإمكانك الاقتران بأربع من النساء، والخير وافر والحمد لله، والسمعة أحياناً تُشترى بالمال، نم قرير العين ولا تقلق، يا عبُّود، أزاح حذاءه عن قدميه، مدَّدهما على الكرسي المقابل، استرخى قليلا إلى الوراء، لم يأبه لوقع خطوات رتيبة قادمة من الصالة المجاورة، فليس في الدار سوى نعمان، وهو مثل نفسه؛ وهل يخشى من نفسه الإنسان ؟ أغمض الجفنين، غطَّ بنوم عميق؛ لكنَّه مُختلِف هذه المرة؛ إنه بلا شخير.
المصدر: واحة التجديد