بقلم ا - بدرالدين ناجي
استيقظ كعادته كل صباح. غسل وجهه و يديه. ثم اقترب من المرآة ليصفف شعره كما كان دأبه في الايام السابقة. تأمل وجهه وبياض شعرات في رأسه.فبهت من منظره الذي ظهر له غريبا. ظل مندهشا لعدة لحظات من شدة هول ما رأه. راحت أنامله تتحسس التجاعيد التي رسمتها الايام على محياه. تمتم بكلمات غير مفهومة. لقد افزعه المنظر. لم. يحتمله .فانهار جالسا على أقرب كرسي منه. امتلأ قلبه أسا و حزنا. دمعت عيناه وانفرجت شفتاه عن بعض الكلمات التي تفهم بصعوبة و مشقة كأنه يكلم نفسه. و أخذ يساءلها. كيف لم ينتبه طوال هذه السنين الماضية لهذه التجاعيد و لهذه الخطوط المرسومة على وجهه؟. وكيف لم يلحظ من قبل هذه الاثار العريضة التي تشبه آثار محراث يجره ثور عجوز. كيف لم ينتبه لهذا الشعر الأبيض الذي غزى رأسه و يعلمه بوجوده بمرور الزمن. أعاد الأسئلة بينه و بين نفسه مرارا و تكرارا يبحث عن جواب شاف يخرجه من دوامة الأفكار السوداء الغريبة التي سيطرت على عقله في هذا الصباح و جعلته يعيش في حيرة لم يعش مثلها في سابق عمره. و عبثا حاول ايجاد جواب يريحه وينتشله من توهانه و يعيده من غربته. من جديد مد يده يتحسس وجهه. لكنه شعر بقشعريرة تسري قي جسمه من اللمسة الاولى. قشعريرة أثنته عن لمس وجهه و تفحص معالمه مرة أخرى. فأعاد يده من حيث جاءت وأغمض عينيه و أخذ يتذكر كيف كان يقضي اوقاته و يمضي لياليه و ايامه. تذكر كيف كان يسعى لاهثا خلف ملذات و شهوات الدنيا. لقد غره شبابه و ماله و ربما جاهه ومكانته. فلقد كان الابن المدلل لعائلة ثرية و نافذة في المجتمع. فأقبل على الحياة وانغمس فيها لهوا و لعبا و افسادا. لقد كان من الذين جعلوا الدنيا في قلوبهم و يشترونها بمال جيوبهم. لم يخطر في باله و عقله يوما أن هذا الشباب الذي يتمتع به ويسخره في نزواته و ملذاته سوف يزول و سيغادره مهما طال الزمن أو قصر. لقد كان دائما يخدع نفسه و يوهمها بأن النساء يجرين. خلفه و يعشقنه و يطلبن مقابلته و الحديث معه و الأنس بقربه. لأنه رجل وسيم و جنتل مان متحرر من كل قيود المجتمع و يريد العيش بكل حرية دون التقيد بعادات المجتمع السخيفة. لقد شعر في تلك اللحظة كم كان غبيا و مغرورا. و شعر بأنه كان انسانا تافها لا قيمة له. لكنه رغم كل هذا الاسى و الحزن الذى لف قليه انفرجت شفتاه عن ابتسامة مبطنة ساخرة. ما لبثت أن توارت و أختفت تحت وقع ذاك الحزن الشديد. و تركته في حيرة قاتلة مدمرة قذفت به في بحر لجي متلاطمة امواجه متقلبة مياهه. أصابه قلق شديد و أخذت أفكاره تتزاحم بشدة و عنف. أحس أن رأسه يكاد ينفجر. لم يألف من قبل هذا القلق و هذه الأفكار التي أربكته و شوشت ذهنه. تكلم بصوت منخفض مهموس: ماذا أصابني؟. لم أشعر من قبل بهذا الوهن و هذا الضعف و هذا الضياع الذي يعتريني و يحبس أنفاسي بين أضلعي؟. أمعن النظر مرارا و تكرارا في قسمات وجهه من خلال المرآة المستديرة الموجودة في الحمام و التي وضعت قبل يومين فقط بعد استبدال المرآة القديمة. إرتفع صوته هذه المرة بكلمات مسموعة أخرجها بصعوبة من قلبه قبل أن يخرجها من بين شفتيه. كيف امتدت يد الزمان لوجهي و رسمت هذه التجاعيد و هذه الخطوط عليه؟. كيف امتدت الى شعري و غيرت لونه من السواد الى البياض. كيف لم انتبه. لقد كنت منشغلا باللهو و اللعب و لم انتبه لسنوات عمري و هي تمضي فارغة و تضيع هكذا بلا فائدة. نهض متثاقلا و خطى بعض الخطوات خارج الحمام و رفع بصره نحو السماء و قال: ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين. و في هذا الوقت جاء ابن أخيه عماد و أخبره أن جده عاد من السفر.
ساحة النقاش