أهمية التدخل المبكر
-------------
مبررات ضرورة التدخل المبكر :
يوجد العديد من المبررات التي تدعو إلى ضرورة تقديم برامج التدخل المبكر لمساعدة الأطفال المعاقين أو في خطر على النمو بطريقة أقرب ما تكون إلى العادية بالرغم من القيود المفروضة عليهم . وهذه المبررات ليست نابعة من مصادر عاطفية تجاه هؤلاء الأطفال ، كالعطف أو الشفقة أو حتى الحب ، ولكنها تعتمد على نظريات النمو الإنساني التي تحدد العوامل التي تيسر أو تعوق نمو الأطفال ، وعلى البحوث الميدانية في مجالات مختلفة ، مثل خصائص هؤلاء الأطفال ، وتأثير الحرمان المبكر من الاستثارة ، أو الفوائد المباشرة لبرامج التدخل المبكر على الطفل والأسرة والمجتمع ، وغير ذلك من بحوث تؤكد أهمية السنوات الأولى من العمر . ونظراً لتعدد هذه المبررات فسيتم استعراض أهم ثمانية منها كما وردت في التراث المنشور (Hanson & Lynch , 1995 , & Peterson , 1987) .
1] التعلم المبكر أساس التعلم اللاحق تؤكد معظم نظريات النمو على العلاقة الوثيقة بين السنوات الأولى والنمو والتعلم اللاحق . فالوقت الذي يمر بين ميلاد الطفل والتحاقه بالمدرسة له دلالة خاصة في متصل النمو الإنساني حيث تتشكل أنماط التعلم والسلوك الأساسية التي تضع الأساس لكل مجالات النمو اللاحق . عندما لا يكتسب الطفل تماماً العادات والمهارات والأبنية المعرفية التي تعتبر متطلبات سابقة للتعلم الجديد ، فإن هذا التعلم سيتأخر ويكون غير فعال وغير كامل ، وفي بعض الحالات يستحيل تحقيقه . أن التعلم ينبني على التعلم ، ومن ثم فإن الضعف في أي مرحلة يؤدي إلى ضعف أكبر في المراحل التالية ، أي أن الآثار السلبية تصبح تراكمية. فإذا تأخر الطفل بدرجة دالة على أقرانه في بعض مجالات النمو ، فمعنى ذلك أنه لكي يلتحق في مرحلة تالية يجب تسريع التعلم بسرعة أعلى من السرعة العادية ، أي من خلال البدء فورا في برنامج للتدخل المبكر .
2] مفهوم الفترات الحرجة : تشير نتائج الدراسات إلى وجود فترات حرجة أو حساسة للتعلم ، وتعتبر السنوات الأولى أهم مرحلة توجد بها الفترات الحرجة . والفترة الحرجة هي الوقت الذي يجب أن تقدم فيه مثيرات معينة أو تحدث خبرات خاصة لكي يظهر نمط معين من الاستجابات . وأثناء هذا الوقت يكون الطفل أكثر قابلية واستجابية لخبرات التعلم ، وتكون المثيرات البيئية أكثر قوة في استدعاء استجابات معينة أو في إنتاج أنماط تعلم معينة، وبالتالي يحدث التعلم بشكل أكثر سرعة وسهولة .
وفي ضوء مفهوم الفترات الحرجة فإن غياب الخبرات أو الاستثارة المناسبة خلال فترات النمو المهمة ، بغض النظر عن أسباب ذلك ، سيؤدي إلى فشل الطفل في تعلم الاستجابة واحتمال خسارة القدرة على اكتسابها فيما بعد ، أو التأخر في اكتساب الاستجابة في وقت تال ، حيث قد تكون المهارة من الممكن اكتسابها ولكن بكفاية وتلقائية أقل . وبالرغم من أن التعلم قد يمكن حدوثه بعد الفترة الحرجة المناسبة لاكتساب المهارات المقصودة ، إلا أن الاستثارة المطلوبة لتحقيق نفس الإنجاز يجب أن تكون أكثر عمقاً وأطول زمنا . السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : ما هي احتمالات أن تقدم البيئة العادية مثل هذه النوعية من الاستثارة لطفل يبدو كبيرا على هذه المهارة أو الاستجابة ؟
طالما أن الفترة الحرجة مرت دون تحقيق التعلم المنشود ، فإن ذلك يدل على عدم ملائمة أو عدم كفاية المثيرات البيئية المتوفرة للطفل . بعبارة أخرى فإن اكتساب الطفل وإتقانه للمهارات النمائية اللازمة لن يحدث دون برنامج إثرائي خاص يتوفر من خلال التدخل المبكر .
3] مرونة الذكاء والسمات الإنسانية الأخرى : إن الذكاء وباقي الإمكانات الإنسانية الأخرى ليست ثابتة عند الميلاد ، ولكنها تتشكل إلى حد كبير بالمؤثرات البيئية ومن خلال عملية التعلم . فالعوامل البيئية هي قوى فاعلة في تشكيل طبيعة كل إنسان ، وهي تضم الرعاية الجسمية والتغذية ، أساليب تربية الطفل ، نوعية وكمية الاستثارة الموجودة ، المناخ الانفعالي في المنزل ، الفرص التربوية المتاحة لتعلم الطفل . وإذا كان هناك من يؤمن أن الذكاء غير قابل للتغيير ، وإن السمات الإنسانية ثابتة للأبد منذ الميلاد ، فإن كان جهود التدخل المبكر تصبح غير ذات جدوى. ولكن لحسن الحظ يوجد المئات من الدراسات الميدانية التتبعية حول الذكاء أساسا وسمات أخرى ترجح حدوث التغير ، سواء بالزيادة أو النقصان ، نتيجة لعوامل بيئية . من أهم هذه العوامل فيما يتعلق بالذكاء على سبيل المثال : مستوى تعليم الوالدين ، ومدى تشجيع التحصيل الدراسي ، توفير الخبرات التربوية داخل المنزل وخارجه ، البيئة المعرفية في الأسرة . إلى جانب ذلك توجد أيضاً تلك الدراسات التجريبية التي قامت بنقل بعض الأطفال من البيئة الأسرية المحرومة ثقافياً ووضعهم في بيئة توفر الاستثارة الكافية ، أو تحسين الظروف البيئية من خلال برامج تربوية . نتائج هذه الدراسات التجريبية بشكل عام ترجح إمكانية تغير ذكاء الطفل إلى الأفضل نتيجة للمتغيرات التجريبية المستخدمة .
4] تأثير الظروف المعوقة أو الخطرة على الطفل : إن الظروف المعوقة أو الخطرة المؤثرة على الطفل الصغير يمكن أن تعوق النمو والتعلم إلى الدرجة التي قد يصبح فيها العجز الأصلي أكثر شدة ، أو قد تظهر لدى الطفل إعاقات ثانوية . فالعجز يمكن أن يعرقل عمليات التعلم العادية عن طريق إعاقة بعض الأساليب المألوفة للتفاعل مع البيئة . وإذا تركنا الأمر للفرص التربوية العادية المتاحة للأطفال غير المعاقين ، فإن الأطفال المعاقين يزيد احتمال أن يكون تعلمهم أقل كفاية من أقرانهم . وإذا كان عليهم الاشتراك في خبرات الحياة والاستفادة منها من أجل اكتساب المهارات الأساسية ، فإن ذلك يتطلب بالضرورة بعض أشكال التدخل والمساعدة الخاصة .
أما بالنسبة للأطفال ذوي الإعاقة المحددة التي تم تشخصيها فإن العجز واضح وظاهر ( مثل الشلل الدماغي أو الإعاقة البصرية ) ، وبعض آثار هذه الظروف المعوقة لا يمكن تجنبها ، مثل الإعاقة السمعية التي تقلل قدرة الطفل على التعلم من خلال الأسلوب السمعي . هذه الإعاقات المكتشفة تخلق حاجة ملحة وعاجلة للتدخل المبكر حيث أن تأثيراتها على السلوك والتعلم تكون واضحة ويمكن ملاحظتها .
أما بالنسبة للأطفال الذين ينشأون تحت ظروف بيولوجي و/ أو بيئي يخشى عليهم من الوقوع في إعاقة مستقبلية ، أو أنهم سيواجهون مشكلات في النمو عندما يكبرون ، فإنه لا يجوز الانتظار حتى يكبر هؤلاء الأطفال لنرى ما سوف يحدث ثم نتدخل إذا لزم الأمر . المشكلة هنا أن القصور البسيط في النمو قد يتراكم ويتحول إلى إعاقة ، وعندما تصبح مشكلات الطفل حادة ويمكن تشخيصها وتسميتها فإن الطفل يكون قد عاني فعلاً من آثارها السلبية. السؤال هنا : هل نستطيع المخاطرة بترك نمو الطفل تحت ظروف خطرة لنرى ما إذا كانت ستظهر مشكلة خطيرة ، أم يجب علينا التدخل مبكرا لمنع حدوث ذلك قدر الإمكان ؟
5] تأثير البيئة والخبرات الأولية على النمو : إن نوعية بيئة الطفل ونوعية خبراته الأولية لهما تأثير كبير على النمو والتعلم ، وعلى قدرة الطفل على تحقيق واستغلال كل إمكانات وقدراته . تتحدد نوعية البيئة والخبرات بمدى توافر الاستثارة المتنوعة والمواقف المتجددة ، وهي عامل يحتل أهمية خاصة لدى الأطفال المعاقين ، لأنها تساعد في تحديد إلى أي مدى سيتحول العجز إلى إعاقة ، وإلى أي مدى سيعطل عمليات النمو العادي ، وإلى أي مدى يستطيع هؤلاء الأطفال الحصول على وسائل للقيام بالأنشطة التعليمية التي تتوافر عادة لأقرانهم العاديين .
تشير الدراسات أن البيئة الأفضل للطفل هي التي توفر له :
أ ] ثلاثة أنواع من الاستثارة الحسية والوجدانية والاجتماعية ، (ب) استثارة تدعم وتطور النمو اللفظي ، (هـ) تشجيعاً لمهارة حل المشكلات والقدرة على الاستكشاف ، (د) آثار ونتائج إيجابية لما يقوم به من استدلال لفظي (Peterson . 1987) . كذلك كشفت نتائج العديد من الدراسات أن البيئات العقيمة والمحرومة تؤدي إلى سلوكيات شاذة وتأخر في النمو بين أطفالها ، وإذا حدث انتقال لهؤلاء الأطفال إلى بيئة تتوافر فيها الاستثارة المبكرة والعميقة فإن ذلك يمكن أن يغير أنماط السلوك الشاذ . ومن أشهر تلك الدراسات سلسلة دراسات سبيتز (Spitz) وجولدفارب ( Goldfard) في الأربعينات والخمسينات من هذا القرن والتي أجريت على الأطفال الرضع الذين تربوا في مؤسسات إيوائية .
6] نتائج التدخل المبكر : تستطيع برامج التدخل المبكر أن تحدث فرقا دالا في التطور النمائي للأطفال الصغار ، وهي تفعل ذلك بدرجة أسرع من جهود العلاج المتأخر الذي يبدأ مع التحاق الطفل بالمدرسة . كما أنها تقلل من احتمالات ظهور إعاقات ثانوية عند الطفل ، وأن تزيد من فرص اكتساب المهارات النمائية التي تتأخر أو لا يتعلمها الطفل .
توجد مجموعة من البحوث التقييمية حول الآثار بعيدة المدى لبرامج التدخل المبكر ، وهي تنقسم إلى ثلاثة أنواع ، وهي : (أ) البحوث التاريخية المبكرة التي تم فيها تحويل أطفال متخلفين عقليا أو متأخرين نمائياً من بيئتهم المحرومة إلى بيئة أكثر استثارة ، أو تم تقديم أشكال إضافية من الاستثارة في بيئتهم الطبيعية ، (ب) بحوث حول برامج التعليم المبكر للإثراء أو برامج للتدخل العلاجي مع أطفال من اسر ذات دخل منخفض أو يعيشون في بيئات غير ملاءمة ، (ج) دراسات تقييمية مباشرة لنتائج برامج التدخل المبكر للأطفال المعاقين .
7] احتياجات خاصة لأسرة الطفل المعاق : تتساوى أهمية التدخل المبكر للطفل المعاق مع أهميته للآباء وكل أعضاء الأسرة . لأن العلاقة بين سلوك الطفل الصغير وسلوك آبائه هي علاقة دائرية . فعندما يصبح الطفل عبئا ، وفي المقابل عندما تكون الأم / الأب أكثر استجابية وأكثر مهارة كمعلم ومربي ، يزداد احتمال اكتساب الطفل للمهارات النمائية والتكيفية ، إن لدى آباء الأطفال المعاقين العديد من الاحتياجات الخاصة التي يمكن لبرامج التدخل المبكر تلبيتها ، ومنها : (أ) تقديم دعم للآباء خلال الفترة التي تكون مشاعرهم ومداعاتهم حول عجز الطفل في أقصى درجاتها . فأثناء هذه المرحلة الأولية تتشكل اتجاهاتهم والأنماط الجديدة للتفاعل مع الطفل . (ب)مساعدة الآباء في اكتساب المهارات اللازمة للتعامل مع الاحتياجات العادية المتوقعة لطفلهم المعاق . فالآباء قد لا يستطيعون القيام بشكل مناسب بوظيفة تربية الطفل بسبب الجهل ، أو لوقوعهم تحت ضغوط كبيرة نتيجة الأعباء الكثيرة التي تتطلبها تربية الطفل المعاق ، أو لافتقارهم نظم الدعم والمساعدة الضرورية .
8] الفوائد الاقتصادية - الاجتماعية للتدخل المبكر : درهم وقاية خير من قنطار علاج ، حكمة قديمة ثبت صحتها على مر التاريخ . وإذا كان التدخل المبكر يمكن أن يقلل أعداد الأطفال الذين يحتاجون إلى خدمات التربية الخاصة في المدارس ، أو يقلل كثافة هذه الخدمات ، وإذا كان اتخاذ الإجراءات الوقائية يمكن أن يقلل عدد الأشخاص الذين يحتاجون لرعاية كاملة في مؤسسات الإيواء نتيجة تقليل درجة اعتمادهم على الآخرين ، إذا كان ذلك صحيحاً فإن التدخل المبكر يستطيع إذن توفير مبالغ طائلة يمكن استخدامها لتقديم المزيد من خدمات التربية الخاصة إلى المزيد من الأشخاص في المجتمع .
ولقد قامت وود Wood ( In : Peterson , 1987 ) بتحليل الفوائد الاقتصادية للتدخل المبكر في عدد من الدراسات التقييمية . قامت بحساب مجموع تكاليف التربية الخاصة حتى وصول الطفل إلى عمر 18 سنة وقارنت بين هذه التكاليف في حال بدء خدمات التربية الخاصة عند الميلاد ، وفي عمر سنتين ، وفي عمر ست سنوات . اتضح أن وسيط التكلفة السنوية 2021 دولارا إذا بدأت الخدمات منذ الميلاد ، و2310 دولارا إذا بدأت في عمر سنتين ، و4445 دولارا إذا بدأت في المدرسة . ومن ثم يبلغ مجموع الخدمات في عمر 6 سنوات تصل إلى 46.816 دولارا إذا كان التلميذ يعود أحياناً إلى الفصل ، أو 53.340 دولارا إذا ظل في فصل خاص حتى عمر 18سنة . أي أن خدمات التدخل المبكر يمكنها توفير حوالي 16.00 دولارا لكل تلميذ معاق طوال سنواته الدراسة .
ساحة النقاش