بسم الله الرحمن الرحيم
الآن وفي هذه الأيام المباركة الجليلة من شهر الخير والبركات سنعيش مع النداء السابع في سورة البقرة…
نداء يعد بابا كبيرا لتحقيق الذات، وللرقي بمهارتنا وملكاتنا ومواهبنا، نداء به نحقق ذاتنا، ونكتشف قدراتنا الحقيقية الكامنة بداخلنا، لكي نصنع مستقبل أفضل لنا ولأولادنا ولمجتمعاتنا.
يقول الله تبارك وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
الآن سنرى العلاقة الوثيقة بين هذا النداء وبين الوصايا العشر:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ:
-
أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
عدم الشرك بالله يتطلب منا أن نخلص لله تبارك وتعالى، أي أن ننفق مما لدينا من إخلاص فنوجهه لله تبارك وتعالى.
[ وهنا ندرك صفة الإخلاص ونحققها ونفعلها بتوجيهها إلى الله العلي الكبير فتنمو وتكبر ونصبح بفضلها مخلصين بإذن الله تعالى ] وهذه صفة يحبها كل البشر حتى الملائكة تستبشر وتبشرنا بها.
-
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
عندما نحسن لوالدينا فهذا معناه أننا قد عرفنا الله، وأحببناه وأطعناه سبحانه في صورة الإحسان بالوالدين. فالإحسان دليل الإيمان، لأننه نعبد الله وكأننا نراه، فإن لم نكن نراه فإنه يرانا. وهو أجمل ما يمكن أن نعطيه للآخرين.
-
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ
هنا يأمرنا الله بالرضا بالقليل، ويوحي إلينا ويبين لنا أننا نملك ما هو أعظم من المال، نملك القدرة على العطاء مما لدينا من قيم ومبادئ وأخلاق أولها الصبر والرضا، فهما قرينان إن غاب أحدهما غاب الآخر[ مقولة لحكيم ].
-
وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
هنا نكتشف أن لدينا إرادة، ولدنا بها، ولكي نعرفها جيدا أنظر إلى الطفل في مراحل نموه، كيف إنه يحبو أولا ثم يسحف ثم يمشى بغير توازن ثم يتماسك في مشيته ثم ينطلق مسرعا، ثم يجرى، وقد يسقط عشرات المرات ولكنه دائما يحاول حتى ينجح.[ إنها الإرادة التى نكتشفها عندما نجتنب ولا نقترب من الفواحش ظاهرها وباطنها.
وهي من فضيلة الأخلاق وهي عند الله كبيرة جدا حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْسَنُكُمْ أَخْلاقًا "
-
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
وعدم قتل النفس، يحتاج منا لضوابط إيمانية، لأن الله حرم قتل النفس، وهذه الضوابط الإيمانية تعتبر إنفاق مما لدينا من أيمان وأخلاق ابتغاء مرضاة الله وطاعة لأوامره ونهيه سبحانه.
-
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
عندما نطبق هذه الوصية بحذافيرها سنتكتشف في أنفسنا فضيلة العفة والعفاف، فننميها وننفق منها في حياتنا العامة والخاصة، فتتعود أنفسنا وتتدرب عقولنا على العفاف، فلا نرتشي ولا نسرق ولا نسلب أحدا حقه.فنصبح بواصايا ربنا أقوياء محترمين من الناس ومن أنفسنا.
-
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
مزيدا من مجالات الرقي والسمو الأخلاقي، فالوفاء في الكيل والميزان يحتاج لإمانة وعفة وشرف ورجولة، وكل ذلك قد اكتسبناه من إيماننا بالله العلي العظيم والآن منه ننفق لنحظى بحب الناس واحترامهم وتنمو فينا كل قدراتنا المدفونة بداخلنا، فنصبح أعضاءا عاملين في مجتمع يرفع راية الإسلام.
-
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
والعدل سمة كبيرة وصفة حميدة تدل على سمو أخلاق صاحبه، وعندما نقول الحق ولو على أنفسنا هذا معناه أننا أصبحنا أمناء عند الله وبين الناس، وهنا تنمو فينا وتكبر صفة الأمانة والعدل والصدق، ومن كل ذلك ننفق ونتعامل مع الناس.
ويختم المولى عز وجل هذا الجزء من الوصايا قائلا:
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
يقول الدكتور إبراهيم الفقي رحمه الله أن العقل البشري يعمل حسب آخر تجربة، بمعنى أن لو آخر تجربة لدينا في الحياة هي تطبيق الوصايا فإن عقلنا سيخزن تلك الوصايا في ذاكرتنا، ويستخرجها لنا مع كل ما يلزمها من ملفات عندما نحتاج إليها….
وهذه هي مهمة العقل في حياتنا، وهو يعمل تلقائيا في الإيجابيات والسلبيات بنفس القوة، فالإنسان الذي ينفق في سبيل الله تجد عقله يجهز له كل ملفات الإنفاق، التى استوعبها من خلال الآيات القرآنية، وكل ذلك في أقل من ثانية عندما يرى من يستحق الإنفاق عليه سواء ماديا أو معنويا.
وكذلك الإنسان الذي تعود البخل فتجد عقله يجهز له كل ملفات البخل ويقدمها له في كل مرة يبخل فيها عن الإنفاق، حتى إنني سمعت ذات مرة مقولة قوية جدا عن البخل، لن أقولها حتى لا أساهم في نشرها.
الآن نأتي للوصية العاشرة والأخيرة:
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(سورة الأنعام)
إذا هي التقوى، فتقوى الله تجعلنا ننفق مما رزقنا، من كل ما رزقنا، تلبية لنداءه وتنفيذا لأمره سبحانه وتعالى وتطبيقا للمنهج واتباعا لخطوات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الآن سأترككم مع النداء ومع أعظم آية في كتاب الله والتى جاءت بعد النداء مباشرة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
جعل الله آية الإنفاق تسبق آية أعظم آية في كتاب الله، ربما لأهمية الإنفاق في سبيل الله، وربما ليكون الله ورسوله أحب إلينا مما لدينا ومما سواهما، وربما لنرقى بأنفسنا ونكتشف أن ما عند الله خير وأبقى…
ولكن مما لا شك فيه أن الإنفاق المادي والمعنوي يجعلنا سعداء، أقوياء، رحماء ومحبوبين من الله وملائكته ومن الناس.
لو قدر الله لي مزيدا من رحمته وفضله سنتحدث عن آيات الإنفاق، لنعرف عظمته وعظيم شأنه، فالإنفاق في كتاب الله دائما يأتي مع أجمل الصفات الإيمانية والأخلاق الربانية، ومصاحب بكل فئات المجتمع القريبة والبعيدة.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا من المعتوقين من النار في رمضان واجعلنا اللهم برحمتك وفضلك وكرمك من عبادك الصالحين التوابين المتطهرين واجمعنا بحبيبنا وقائدنا ومعلمنا وشفيعنا الذي آمنا به واتبعناه ولم نراه صلى الله عليه وسلم .
آمين آمين آمين والحمد لله رب العالمين
ساحة النقاش