بسم الله الرحمن الرحيم
لله وصايا في سورة عظيمة وجليلة، جعل الله تبارك وتعالى فيها علاج لكل مشاكل الإنس والجن، في بنود حكيمة وهي دستور السماء لأهل الأرض، على اختلاف أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم…
ولكنه سبحانه وتعالى جعلها لمن يريد أن يعلو ويسمو بنفسه وأسرته ومجتمعه، فأمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أمرا واجب النفاذ فقال تبارك وتعالى:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(سورة الأنعام)
واليوم بإذن الله نحن أمام النداء السادس من السميع العليم لعباده المؤمنين، نداءا هو يجعلنا نعيش ونطبق كل تلك الوصايا في ود وانسجام، ومحبة ووئام، وسعادة وراحة بال، والنداء من الله فهو حكم واجب النفاذ، من لبى فقد عصم نفسه من الله، ومن تجاهله فقد وقع في بؤرة الشقاء والتعاسة.
الآن سأترككم مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، ليشرح لنا خصوصية النداء، فتابعونا رحمكم الله …
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾
والكلام هنا لفضيلة الدكتور النابلسي:
أيها الأخوة المؤمنون... مع الدرس السبعين من دروس سورة البقرة ومع الآية الثامنة بعد المئتين، وهي قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾
أيها الأخوة الكرام: يخاطب الله الذين آمنوا به، آمنوا بكماله ووحدانيته، وآمنوا بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، وبعلمه، وحكمته، وقدرته، ورحمته " ادخلوا في السلم كافة"، فالأصل أن تؤمن بالله، فإن أمنت به الآن اتبع أمره، ما هو أمره؟ ادخلوا في السلم .
السلم هو الإسلام، لمَ سمي هنا السلم؟
لأنك إن أطعت الله عز وجل كنت في سلام مع الله، لا تنتظر من الله إلا كل إكرام، فيجعل الله لك نعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة...
وإذا كنت مطيعاً لله فأنت معه في سلام، لأن المعاصي والآثام هي سبب كل المصائب والآلام، فإذا كنت مع الله في سلام، فأنت في حصنٍ حصين، وأنت في سلام...
إن أطعته فأنت في سلام، وإن أطعت الله عز وجل كنت في سلام مع نفسك، والسلم هنا هو السلام أي أنت في سلام مع نفسك، لأن النفس جبلت على طاعة الله والقرب منه، إن أطعت الله عز وجل ارتاحت نفسك وأراحتك، وإن عصيت الله أتعبتها وأتعبتك، أكثر الأمراض النفسية والعقد هي بسبب خروج الإنسان عن فطرته.
الآن سنعيش مع النداء والوصايا في كل بند منها على حدى، لتتيقن نفوسنا وعقولنا أنه لا غنى لنا عن وصايا ربنا:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
وفي النداء يأمرنا ربنا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
فنحن لن نستطيع أن نعلوا ونرقى بأنفسنا إلا إذا تعالينا عن المعاصي، وعن الإسفاف الفكري والنفسي، وبالدخول في السلم كافة وبعدم اتباع خطوات الشيطان.
الآن الوصية الأولى والتى هي القاعدة العريضة القوية التى ننطلق منها إلى الإخلاص لله رب العالمين، أي التوحيد الذي هو غاية كل ذي عقل وقلب ولب.
أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
ونربط الوصية مع النداء:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
وفي هذا يقول فضيلة الدكتور النابلسي :
يخاطب الله الذين آمنوا به، آمنوا بكماله ووحدانيته، وآمنوا بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، وبعلمه، وحكمته، وقدرته، ورحمته " ادخلوا في السلم كافة"، فالأصل أن تؤمن بالله، فإن أمنت به الآن اتبع أمره، ما هو أمره؟ ادخلوا في السلم .
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ " . |
والله إن دقة التعبير القرآني لتجعل كل ذي قلب يخفق أن يسجد لله أحتراما وتقديرا وتعظيما.
إن أول نتيجة حتمية عندما ندخل في السلم، قال سبحانه وتعالى أدخلو في السلم، أن يكون السلم هو حالنا من الداخل والخارج، يظهر في كلامنا وتعاملتنا وفي وجوهنا وفي جميع تصرفاتنا، وأول مراحل السلم ونتائجه الحتمية نراها في معاملتنا لوالدينا.
الوصية الثالثة:
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
وعلاقة النداء بهذه الوصية واضح وضوح الشمس في كبد السماء، فإذا ما دخلنا في السلم فأول من سينعم بهذا السلام هم فلذة أكبادنا، وكل المسلمين.
الوصية الرابعة:
وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
من أوثق عرى الإيمان ومن أهم شروط الإسلام، ومن أكثر الأشياء فاعلية في حياتنا أن يسلم الناس من بوائقنا، فلا نقترف الفواحش ما ظهر منها وما بطن، لأن كل فاحشة نرتكبها سيتأثر بها الناس لأنها من سوء الأخلاق، فتخرجنا من السلام مع أنفسنا ومع الله ومع الناس، والفاحشة هي أكبر دليل على اتباع خطوات الشيطان، وهوى النفس.
الوصية الخامسة:
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
وهكذا نرى أن السلم يتصاعد حتى يصل إلى كل من يعيش على وجه الأرض بغض النظر عن ديانته ولونه وجنسيته…
إنه السلام الذي يبحث عنه العقلاء، والذي يحاول إضغامه السفهاء، فلينجو كل منا بنفسه ولا يتبع خطوات الشيطان ويدخل مع الله في سلام كامل بكل كياننا، وشامل يشمل كل من يعيش معنا أو حولنا.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
إن فعلنا هذا فقد حصلنا على شهادة عليا من العلي العظيم أننا عقلاء، فإن كان هناك خلل فسوف يظهر جليا وواضحا في معاملتنا وتحركاتنا وعدم انسجامنا مع الناس خاصة ومع الحياة عامة.
ثم يظهر أثر السلم في كل ما بقى من بنود الوصايا العشر:
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
أخي في الله هل تتصور تطبيق الوصايا بغير أن ندخل في السلم كافة؟ لا وألف لا، فلا يمكن أبدا أن نتعامل مع مخلوقات الله بغير تعليمات وتوجيهات الله فهو خالقنا وهو رازقنا وبيده سبحانه كل أمورنا، فكن مع الله في استسلام تعيش في سلام.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
وهكذا يختم الله تبارك وتعالى هذا الجزء من الوصايا بشهادة رفيعة المستوى، عظيمة الفائدة، جليلة في السماء قبل الأرض، وهي أن نكون من المتذكرين الذاكرين والمذكرين، وهذا في حد ذاته حسب علماء علم النفس والطبيعة معناه توافق وانسجام بين عقولنا وقلوبنا وأفكارنا ومشاعرنا…
الوصية العاشرة:
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
وهنا لدينا سؤال، هل يمكن أن تستقيم لنا الحياة إن لم ندخل في السلم كافة؟
هل يمكن أن نعيش في سلام بغير اتباع وصايا ربنا وتلبية نداءاته؟
ثم هل ممكن أن نحظى ونحصل على تقوى الله بغير أن نستسلم لله رب العالمين وبغير أن نلبي نداءاته ونعمل بوصاياه ثم نوصي بها من بعدنا؟
الإجابة على كل تلك الأسئلة نجدها في أول سورة البقرة:
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
كما إننا سنجد في فاتحة الكتاب كل ما قرأناه عن الوصايا والنداء.
وقبل أن أختم أدعو الله لكم بأن يتقبل منكم صيامكم وقيامكم وأن يجعلكم من المعتوقين من النار في هذا الشهر الكريم بفضله وكرمه ورحمته فهو سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (4) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (6) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
ساحة النقاش