تستدعي فاجعة الإسكندرية عددا من الأسئلة التي ينبغي أن نفكر في الإجابة عليها، لكي نواجه عواقب ما جرى، فضلا عن أن نفهمه. لكن قبل أي كلام في الموضوع لابد أن نقرر أنه أيا كانت الخلفيات والذرائع. فإن رفض الحدث الإجرامي واستهجانه يظل فرض عين على كل مواطن في مصر، بل على كل عربي خصوصا إذا كان مسلما.
(1)
أدري أن التطرق إلى الموضوع قبل اتضاح معالمه لا يخلو من مغامرة. على الأقل بالنسبة لي. لأن هذا المقال يسلم مساء الأحد أو صباح الاثنين على أبعد الفروض، ولأنني أكتب هذه السطور يوم الأحد، فلم يكن معروفا على وجه الدقة من هم الفاعلون، ولا ما إذا كانت الجريمة قد ارتكبت بواسطة سيارة مفخخة، كما تقول بعض المصادر، أو عن طريق حزام ناسف تمنطق به انتحاري، كما ذكرت بعض المصادر الأمنية.
مع ذلك فالذي لا شك فيه أن هذا الأسلوب في ارتكاب الجرائم جديد على مصر بصورة نسبية. أعني أنه إذا كانت قد جرت في السابق (عام 1993) محاولة اغتيال بواسطة سيارة ملغومة لرئيس الوزراء الأسبق الدكتور عاطف صدقي، فإن تلك المحاولة لم تنجح إلا في قتل طفلة صغيرة (شيماء)، لكن الأمر اختلف تماما هذه المرة. فترتيب الجريمة بدا محكما، وضحاياها كثر، أما مقاصدها فالشر فيها مضاعف. ذلك أن محاولة اغتيال رئيس الوزراء إذا كانت قد استهدفت تصفية بعض الحسابات مع النظام، فإن الجريمة الأخيرة تصب في وعاء شق الوطن.
وفي هذا الصدد ثمة تشابه يخطر على البال، إذا صح أن وراء جريمة الإسكندرية عناصر تنتمي إلى تنظيم القاعدة أو تستخدم أساليبها. ذلك أن محاولة اغتيال الدكتور عاطف صدقي في التسعينيات اتهم فيها تنظيم "طلائع الفتح"، الذي يتبنى فكرا أقرب ما يكون إلى فكر القاعدة، الذي يخاصم الجميع ويعلن الحرب عليهم.
ذلك لا ينفي أن الحادث الذي وقع في مصر جديد واستثنائي، فيه أصداء لما يحدث في العراق بين الفئات المتصارعة، أو ما يحدث في باكستان بين متطرفي الشيعة والسنة، أعني أنه يعبر عن استهانة شديدة بحياة البشر، بقدر ما يعبر عن نزوع إجرامي ليس مألوفا عندنا، وإذا فهمنا أن حادثة الأقصر التي وقعت في عام 1997 وقتل الإرهابيون فيها 59 سائحا أريد بها ضرب السياحة في البلد، فإن ما جرى في الإسكندرية بدا أبعد أثرا، من حيث إنه يفتح الباب واسعا لإشعال حريق في الوطن، إذا تكررت أمثال تلك الحوادث لا قدر الله.
(2)
ثمة محاذير يتعين الانتباه إليها في تناول الموضوع كي لا نقع في الغلط. فنخطئ في تقييم الفاجعة، بما يجعلنا نعالج المنكر فنتورط فيما هو أشد إنكارا. من تلك المحاذير ما يلي:
* إننا ينبغى أن نضع الوطن نصب أعيننا، بحيث لا نتعامل مع ما جرى من منظور طائفي. فاستهداف الأقباط هو بالدرجة الأولى عدوان على الوطن ينبغي أن يرد بمنتهى الحزم والشدة، ذلك أن كل إنسان في هذا البلد له حقوقه وكرامته التي تعد صيانتها من أوجب الواجبات. ليس لأنه قبطي أو مسلم، ولكن لأنه مواطن يتساوى مع غيره من المواطنين في الحقوق والواجبات.
* إننا ينبغي أن نقاوم بكل قوة قسمة البلد إلى مسلمين وأقباط، بحيث تكون ملة المرء أمامه وليست في قلبه. وهو المحظور الذي أصاب العراق فقسمه بين الشيعة والسنة، وضرب لبنان يوما ما حين اقتتل المسلمون والموارنة في الثمانينيات، ثم أطلت الفتنة المذهبية برأسها هناك حتى نجح الدساسون في غرس بذور الشقاق بين السنة والشيعة. ولئن ظللنا نقول إن مصر بلد مختلف في تاريخه وجغرافيته، الأمر الذي صهر المصريين وذوب تبايناتهم في مجرى النيل ودلتاه، فإن الحفاظ على النسيج الواحد ينبغي أن يصبح الشغل الشاغل لكل من يهمه أمر الوطن.
* إننا ينبغي أن نعطي الجريمة حجمها الحقيقي. فهي ليست عدوانا من المسلمين على الأقباط، ولكنها جريمة اتهم فيها نفر من المسلمين. والذين يوجهون الاتهام إلى عموم المسلمين بسبب ما جرى في الإسكندرية، يغذون الفتنة ويؤججون نارها. وهم لا يختلفون كثيرا عن الإدارة الأميركية التي وضعت كل المسلمين في قفص الاتهام بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وكانت النتيجة كما نرى. إذ أعلنت الحرب على الإرهاب فجرى تعميم الإرهاب وانتشرت منظماته. وهو ما يسوغ لنا أن نعمم الإدانة والاستنكار على أولئك النفر من الغاضبين الأقباط، الذين انفعلوا بما جرى فرشقوا مسجدا قريبا وخرجوا في مظاهرات ضد المسلمين في الإسكندرية.
* إننا ينبغي ألا نستدرج للوقوع في فخ الكارهين والمتعصبين، الذين ينتهزون كل فرصة للتنديد بالمسلمين والتحريض على الإسلام. وهم الذين سبق أن استثمروا أجواء ما سمي بالحملة ضد الإرهاب لتحقيق مرادهم ومطاردة التدين في كافة مظاهره ومظانه. ولست أشك في أن الذين ارتكبوا جريمة الإسكندرية وفروا لهؤلاء ذريعة قوية للاستمرار في مسعاهم. وهو الجهد الذي أثبتت التجربة أنه يشوه صورة الإسلام حقا، لكنه يستفز جماهير المتدينين، ويغذي تيارات المتطرفين بما يجعلهم أكثر نقمة على المجتمع وأشد خصومة له.
* إن الغمز في تنامي الظاهرة الدينية بين المسلمين، وتحميلها المسؤولية عن وقوع أمثال الفاجعة التي نحن بصددها، يعد نوعا من الابتزاز الخبيث الذي يدعوهم إلى التخلي عن عقائدهم، وهو ما شاهدناه مؤخرا في تنديد آخرين بمظاهر التدين المنتشرة، وفي الإلحاح على تقديم فكرة الدولة المدنية، بحسبانها نقيضا للتدين، ودعوة إلى الخلاص من تبعاته والتحلل من التزاماته. ذلك أن معالجة الانحراف في التدين أو إساءة استخدام الدين، لا تكون بالانتقاص من التدين أو الطعن في التعاليم، فالانحراف وارد بكل قيمه، وإذا سرنا وراء منطق هؤلاء فسوف ننتهي إلى انهيار منظومة القيم كلها، بما يقودنا إلى جحيم لا قبل لنا به.
(3)
الأسئلة التي تستدعيها الفاجعة بعضها يتعلق بوقائع وتفاصيل الحدث، والبعض الآخر ينصب على المناخ العام الذي وقع فيه الحدث. في الشق الأول نلاحظ أن البيانات الرسمية تحدثت عن دور للخارج في ارتكاب الجريمة، وذلك استنتاج مفهوم نظرا لطبيعتها الاستثنائية، ولتشابهها مع نمط من الجرائم يرتكب في العراق بوجه أخص، لكنه يثير ثلاثة أسئلة، أحدها يتعلق بحجم الدور الذي أسهم به الخارج فيما جرى، وهل هو في حدود استلهام الأفكار أم التمويل والتدريب والتنظيم.
الثاني يتعلق بقابلية الداخل للاختراق والتجاوب مع مخططات الخارج، أما السؤال الثالث فهو حقيقة الجهة الخارجية التي أسهمت في المشهد، وما إذا كانت لتلك الجهة أو الجهات أذرع أو أصابع في مصر. وهل تلك الأصابع مقصورة على الإسكندرية وحدها، أم إنها واصلة إلى مناطق أخرى في داخل البلد.
ثم إننا ينبغي أن نعطي لدور الجهات الخارجية حجمه الحقيقي، ونفرق بين مخططات الاختراق التي تدبر في الخارج، ومدى قابلية الداخل للاختراق، والخارج بعيد عنا وليس في متناول أيدينا, فضلا عن أن سعي البعض لإثارة الفتنة في مصر أمر مفهوم، لكن الذي ينبغي أن نعنى به هو توفير الحصانات الممكنة للداخل لكي يستعصي على الاختراق، وهو ما يثير أسئلة أخرى عديدة حول الجهد الذي يبذل لتوفير تلك الحصانات، وحول هوية الفاعلين، وكيف تشكل إدراكهم؟ وأين؟. وهل أتحنا لهم خيارات وفرصا أفضل، فاختاروا الأسوأ والأتعس، أم أننا أوصدنا الأبواب في وجوههم فانزلقت أقدامهم في ذلك الخيار الأتعس.
من ناحية أخرى، فإن ما جرى في الإسكندرية يذكرنا برسالة إلكترونية وجهها إلى مصر في مستهل شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، من يسمون أنفسهم دولة العراق الإسلامية، ودعت الرسالة إلى إطلاق سراح سيدتين مصريتين تردد أنهما تحولتا إلى الإسلام ثم احتجزتهما الكنيسة في أحد الأديرة، ولم يظهر لهما أثر بعد ذلك. وهددت الرسالة باستهداف المسيحيين في مصر وفي دول أخرى في المنطقة، إذا لم يستجب للطلب خلال ٤٨ ساعة. كانت الرسالة مفاجئة خصوصا أنها الأولى من نوعها، وأعلن في مصر أن الأجهزة الأمنية المعنية سوف تضعها في الاعتبار.
ورغم أن الاحتياطات الأمنية لا تحول بالضرورة دون ارتكاب الجرائم أو القيام بعمليات إرهابية، فإن ثمة تساؤلا عن مدى توفر تلك الاحتياطات في احتفالات عيد الميلاد بوجه أخص، وهذا التساؤل يثيره خبر مفصل نشرته جريدة "الشروق" في عدد أول يناير/كانون الثاني تحدث عن "استعدادات مكثفة لتأمين احتفالات عيد الميلاد".
وفي الخبر تفاصيل عن قيام الأجهزة الأمنية بتكثيف استعداداتها في منطقتين أساسيتين، هما محافظات الصعيد التي تعاني من التوتر بين الأقباط والمسلمين، والمناطق السياحية في جنوب سيناء. ولا ذكر لأي استعدادات مماثلة في الإسكندرية، التي لها تاريخ في التوتر الطائفي، ثم إنها تعد أحد معاقل الحركة السلفية في مصر. ناهيك عن أنها ظلت تشهد خلال الأسابيع الأخيرة مظاهرات بعد صلاة الجمعة، رفعت خلالها شعارات ونداءات بخصوص السيدتين المذكورتين.
إذا صح خبر جريدة "الشروق"، فهو يعنى أن ثغرة أمنية تخللت ترتيبات تأمين احتفالات عيد الميلاد في الإسكندرية، الأمر الذي يثير السؤال التالي: هل كان يمكن أن يختلف الأمر لو تم تداركها؟، لقد قرأت أن عشرة آلاف جندي استنفروا لتأمين احتفال اليهود الإسرائيليين بما يعتبرونه مولد "أبو حصيرة" في محافظة البحيرة بدلتا مصر، الأمر الذي يستدعي السؤال ذاته مجددا.
(4)
ما الذي سلّح أولئك القتلة بالجرأة التي جعلتهم يقدمون على جريمتهم البشعة في مصر؟ يلح علي هذا السؤال طول الوقت، ضمن أسئلة "المناخ" الذي وقعت فيه الواقعة. هل كان يمكن أن يفعلوها لو أنهم وجدوا المجتمع المصري عفيا ومتماسكا ومستنفرا طاقاته وقواه لبناء حاضره ومستقبله. أم إنهم رأوه مفككا ومغيبا وفاقدا الأمل في الحاضر والمستقبل؟.
طوال الأشهر الماضية كان بوسع الراصد أن يرى كيف كان الوطن مغيبا في إدراك النخبة، في حين ظل المجتمع مغيبا عن الوطن. كان همُّ القائمين على الأمر منصبا على كيفية الاستئثار بالسلطة وإقصاء الناقدين والمعارضين، والانتصار عليهم في حرب أهلية عبثية كان الوطن هو المهزوم الأول فيها.
نجح الحزب الوطني في إقصاء الآخر من مجلسيْ الشعب والشورى، ونجحت السلطة في تأديب الإعلاميين وتخويف المراسلين وغواية وتدجين المثقفين، ونجحت الشرطة في قمع المعارضة وملاحقة المدونين. وفقد الناس ما تبقى لهم من ثقة في الأحزاب التي عانى بعضها من الاحتراب الداخلي، كما حدث مع التجمع والناصري، وأصاب رذاذه الوفد والإخوان المسلمين، ولم تسلم من الداء الحركة الوطنية للتغيير.
أضف إلى ذلك عوامل أخرى، مثل العبث بالدستور وإهدار قيمة القانون، وتبني السلطة للتزوير، وتحول "البلطجة" إلى قيمة اجتماعية معترف بها عمليا، ثم الجرأة على الدولة من جانب بعض الرموز إلى حد الجهر بتحديها وابتزازها.
وحين يعاني البلد من الفراغ السياسي الذي يصادر مشاركة المواطن في المجال العام. كما يعاني من فراع فكري وثقافي تهان في ظله الثوابت الوطنية والدينية، وحين تتقطع القواسم المشتركة بين الناس بحيث يضيق صدر الوطن بأهله الذين يفتقدون الأمل في إصلاح الحاضر، ولا يرون فيما بينهم حلما مشتركا يتطلعون إليه. حين يحدث ذلك كله فهل يمكن اعتباره مناخا جاذبا ومغريا للمغامرين من دعاة الفتنة وأمراء الدم؟.
لست ضد التعبير عن مشاعر الحزن والتضامن والمواساة، لكن ينبغي أن يكون واضحا في أذهان الجميع أن الجرح أكبر من الجريح، وأن الذي يحتاج إلى حماية وإنقاذ حقا هو الوطن الذي أصابه الوهن، بعدما انفرط عقده وفقد عافيته ففقد معها حلمه ودوره