فى هذا الوقت الذى يضطرب فيه الفكر فى مصر ويضطرم بحثا عن شخصيتها ودورها الإنسانى والحضارى ... فإننا فى حاجة إلى فهم كامل لوجهنا ووجهتنا , لكياننا ومكانتنا , لإمكانياتنا وملكاتنا ... وأيضا لنقائصنا ونقائضنا , بلا تحرج ولا تحيز أو هروب " ( جمال حمدان)

 منهجية الدراسة :

للإحاطة بسمات الشخصية المصرية والوصول إلى مفاتيحها كان ثمة احتياج إلى منهجية شاملة ومحكمة للوصول إلى رؤية علمية بعيدة – قدر الإمكان – عن التحيزات العاطفية

( الإيجابية أو السلبية ) خاصة فى موضوع يمس الذات الشخصية والوطنية , ويخضع للكثير من وجهات النظر المتباينة والممثلة لزوايا الرؤية أو اتجاهات المصالح أونبضات المشاعر . وقد كانت الرؤى المطروحة نتاجا للعناصر التالية فى البحث والدراسة :

1 –الدراسات العلمية السابقة والحالية التى تعرضت للشخصية المصرية وما حدث فيها من تحولات

2-ملاحظات وآراء المفكرين والعلماء

3–الملاحظة المشاركة للباحث لكونه مواطنا مصريا يعيش الحياة اليومية المصرية ويرصد بعين المتخصص فى العلوم النفسية السمات النفسية للمصريين . وقد ساعد على تحقيق هذا الهدف بشكل أدق كون الباحث قد عايش مجتمعات وشخصيات مختلفة إبان إقامته خارج مصر لمدة تصل إلى تسع سنوات يضاف إليها فترات إضافية أخرى متقطعة , وقد أعطاه هذا فرصة للمقارنة والرؤية من خارج , إضافة إلى رؤيته من الداخل , وهاتان الزاويتان للرؤية جعلا الفوارق تتضح وتغلب على ضياع المعالم الناتج عن الألفة والتعود لمن يعيش طول الوقت فى المجتمع ولم يغادره إلى غيره . والباحث بوصفه ملاحظا مشاركا لديه فرصة القراءة عن قرب من خلال عمله كطبيب نفسى ( يرى الوجه الخفى للناس من خلف الدفاعات المعلنة والأقنعة الساترة والخادعة ) وعضو هيئة تدريس فى الجامعة ( مما يعطيه فرصة للرؤية العامة والدراسة المنهجية الموضوعية بأقل قدر ممكن من التحيز ) .

4 –الرؤية الحالية للشخصية المصرية تشكل أولوية بمعنى أننا فى هذه الدراسة  نهتم أكثر بما هو كائن وليس بما كان , ولو تكلمنا عن شئ فى الماضى فإنما يكون بهدف شرح أو تفسير سمة قائمة وبيان جذورها وتطورها دون الغرق فى سراديب الماضى

5 –الأمثال الشعبية والأقوال الدارجة على ألسنة رجل الشارع تمثل رصيدا معرفيا هاما نستطيع أن نتوصل من خلاله إلى فلسفة حياة البسطاء من الناس وعامتهم , لذلك تم رصدها وتحليلها فى مواضعها لتأكيد الصورة وإيضاحها   

السمات التقليدية للشخصية المصرية :

تميزت الشخصية المصرية على مر عصور طويلة بسمات كانت أقرب إلى الثبات ولذلك يعتبرها العلماء سمات أصيلة وذلك لتمييزها عن سمات فرعية أو ثانوية قابلة للتحريك مع الظروف الطارئة . فالمصرى تميز بكونه : ذكيا , متدينا , طيبا , فنانا , ساخرا , عاشقا للإستقرار ( عزه عزت , 2000 , التحولات فى الشخصية المصرية , كتاب الهلال ). وكان هذا يشكل الخريطة الأساسية للشخصية المصرية فى وعى المصريين ووعى غيرهم , وقد أدى إلى الثبات النسبى لهذه السمات ارتباطها بعوامل جغرافية ومناخية مستقرة نسبيا .

وقد حدثت تحولات نوعية فى بعض السمات وتحولات نسبية فى سمات أخرى , فمثلا استخدم البعض ذكاءه فى الفهلوة , وتعددت صور التدين بعضها أصيل وبعضها غير ذلك , وقلت درجة الطيبة وحل محلها بعض الميول العنيفة أو العدوانية الظاهرة أوالخفية  , وتأثر الجانب الفنى فى الشخصية تحت ضغط التلوث والعشوائيات , وزادت حدة السخرية وأصبحت لاذعة قاسية أكثر من ذى قبل وأحيانا متحدية فجة جارحة , أما عشق المصرى للإستقرار فقد اهتز كثيرا بعدما أصبحت البيئة المصرية طاردة نحو الخارج بحيث أصبح حلم كثير من الشباب السفر إلى أى مكان لتحقيق أهدافه بعد أن أصبح متعذرا تحقيق الآمال والأحلام على أرض الوطن .ستطيع أن نرصد عددا من العوامل الرئيسة التى أدت إلى تلك التغيرات فى السمات الأصلية للشخصية المصرية ومنها :

1-   ثورة يوليو وما صاحبها من تغييرات جذرية ( بعضها ايجابى وهو ما يتصل بالتحرر الوطنى وطرد المستعمر , وأكثرها سلبى وهو ما يتصل بالحكم الإستبدادى البوليسى ) أدت إلى تغيرات فى البناء السياسى والإجتماعى والإقتصادى , وهزت البنية القيمية حيث أشاعت قيما استبدادية قهرية , وأرست قواعد الإعتمادية على النظام ,  والسلبية ,  والفهلوة , وادعاءات البطولة الزائفة , والسير وراء الزعيم بأعين مغمضة وأصوات هاتفة وقلوب مليئة بالحماس الجارف بلا دليل . باختصار أحدثت الثورة ورجالها تناقضات هائلة فى البنية النفسية للشخصية المصرية تحتاج لبحث منفصل لبيان مداها .

2- نكسة يونيو 1967 , وقد كانت قمة التعبير عن خداع الذات والتسليم لزعامات كاريزمية بعيدة عن التخطيط السليم والموضوعية . حدث بعدها صدمة وتغيرات جذرية أخرى فى الشخصية المصرية حيث راحت تبحث عن هوية دينية بعد فشل الهوية القومية الإشتراكية التى نادى بها زعماء الثورة ومنظروها , ومن هنا بدأت التيارات الدينية المعتدلة والمتطرفة فى مصر وامتدت إلى العالم العربى والإسلامى تحت وطأة المواجهة البوليسية القاسية لتلك التيارات

3-معاهدة السلام مع إسرائيل وما تبعها من تغيرات سريعة ومفاجئة لكثير من المفاهيم حول إسرائيل كعدو أساسى والإرتماء بعد ذلك فى الحضن الأمريكى وماتبعه من تغيرات ثقافية واجتماعية بناءا على التفاعل مع ثقافات غريبة تستقبلها الشخصية المصرية بمشاعر متناقضة وبشكل أسرع من طريقتها وطبيعتها فى استيعاب وهضم وتمصير الثقافات الأخرى .

4-  الإنفتاح الإقتصادى المنفلت , وما تبعه من تنامى القيم الإستهلاكية , والرغبة فى الثراء السريع دون جهد حقيقى , وشيوع قيم الخفة والفهلوة وانتهاز الفرص .

5-السفر إلى بلاد الخليج وغيرها من الدول العربية , وما تبع ذلك من تغير الأنماط الإستهلاكية والثقافية والدينية تبعا للنموذج الخليجى , مما أدى إلى تعتعة استقرار النماذج القائمة والمستقرة منذ قرون لصالح النموذج السلفى من ناحية أو النموذج المستغرب من ناحية أخرى .

6-  العولمة وما أدت إليه من فتح السماوات للقنوات الفضائية والإنترنت , وفتح الأسواق لكل ماهو جديد , وفتح شهية المتلقى للمزيد من الجديد والغريب والمثير .

7-قانون الطوارئ الذى امتد العمل به لمدة 25 سنة ( وما زال حتى كتابة هذه السطور عام 2005 م , 1425 ه – ولا يدرى أحد متى يتوقف العمل به ) , بحيث أدى إلى شيوع حالة من القهر والخوف , وانعدام الثقة بين السلطة والشعب , وأطلق يد السلطة الأمنية فى كل صغيرة وكبيرة فى حياة الناس ( تعيينات الوظائف على كل المستويات , والترقيات , واختيار الوظائف القيادية , والإنتخابات , والبعثات , وكل شئ ) , وأطفأ النبض الحقيقى على المستويات السياسية والفكرية والدينية والإجتماعية , وأتاح الفرصة لتغلغل الفساد المحتمى بالسلطة ووصول عناصر تفتقر إلى الكفاءة والضمير إلى مراكز عليا تحت سقف الطاعة والولاء , فى نفس الوقت الذى ابتعدت فيه ( أو استبعدت ) العناصر الموهوبة والمتميزة عن مراكز التأثير والتوجيه , أما بقية الناس فقد تحولوا إلى أغلبية صامتة تسعى إلى أن تحصل على لقمة عيشها وعيش أبنائها , ولكى تتقى سطوة السلطة المطلقة تحت مظلة قانون الطوارئ لجأت إلى تعلم مهارات الفهلوة والتحايل والكذب والإلتواء والتخفى والتنازل عن أشياء كان يعتز بها المصريون مثل الكرامة والضمير والصدق والشهامة , واستبدل كل هذا بحالة من الخنوع والخداع والنفاق والتحايل ومد اليد تسولا أو رشوة أو سرقة .

ورغم التحولات الحادثة فى السمات الست للشخصية المصرية إلا أن الشخصية المصرية تعتبر نسبيا أكثر ثباتا خاصة فى مواجهة تغيرات العولمة , حيث نجد أن مجتمعات عربية أخرى قد ذابت تماما أو تكاد فى النظام العالمى الجديد بكل سلبياته وإيجابياته , وربما يعود ذلك الثبات النسبى للشخصية المصرية إلى تراكم سماتها فى طبقات حضارية عبر عصور طويلة وتأكد هذه السمات مع الزمن رغم التغيرات الطارئة , كما أن المصرى لديه ميل قوى للإبقاء على الأوضاع القائمة يعود لتأثره بالطبيعة الجغرافية والمناخية التى يعيشها كما سنذكر ذلك لاحقا .    

 الطبيعة والشخصية المصرية :

للطبيعة أثر كبير على الشخصية لدرجة أن علماء النفس والإجتماع استطاعوا أن يضعوا صفات مميزة لسكان المناطق الريفية تميزهم عن سكان سواحل البحار , وتميز هؤلاء وهؤلاء عن سكان الجبال والصحارى .

يقول جوستاف لوبون فى كتابه " الحضارة المصرية القديمة "  : " إذا كان المصرى قد شعر بالسأم من سهوله الوضاءة المشرقة , فإنه قد جهل الآلام المفزعة والتى تنشأ على شواطئ البحار الموحشة , وفى خلال الشفق الأحمر تحت السماء المتقلبة الغادرة ".

فإذا نظرنا إلى الطبيعة المصرية وجدنا النيل يتمايل فى هدوء بين جنبات الوادى السهل المنبسط , ووجدنا سجادة من الخضرة الجميلة والمريحة منبسطة على ضفتيه تدعو للراحة والإسترخاء , وخرير المياه فى القنوات والترع , وأنين السواقى وهى تروى عطش الأرض , ووفرة الغذاء الناتج عن الأرض الخصبة المعطاءة , والسماء الصافية معظم فصول السنة , والشمس المشرقة على مدار العام , والمناخ المعتدل صيفا وشتاءا والذى يخلو من التقلبات الحادة والعنيفة والمهددة . هذه هى الطبيعة التقليدية التى عاش فيها المصرى على ضفتى النيل وتركت بصماتها على شخصيته فى صورة ميل إلى الوداعة والطمأنينة والهدوء وطول البال والدعابة والمرح والتفاؤل والوسطية وحب الحياة . هذه السمات لاندركها بوضوح إلا إذا قارناها بسمات من يعيشون فى بيئات مهددة مليئة بالعواصف والنوّات على سواحل البحار والمحيطات الهائجة , أو من يعيشون فى بيئة صحراوية أو جبلية شديدة القسوة والفقر والجفاف , أو من يعيشون فى غابات مليئة بالحيوانات المفترسة يتوقعون الخطر فى كل لحظة , أو من يعيشون فى القطبين تحت العواصف الثلجية ويلبسون ثيابا ثقيلة تحد من حركتهم وتلقائيتهم وتخنقهم تحت ثقلها .

وإذا كانت الطبيعة السمحة البسيطة المعطاءة قد أعطت صفاتا إيجابية فإن لها أيضا جانبا سلبيا ,  حيث منحت المصرى شعورا زائدا بالطمأنينة والسكينة وصل به فى بعض الأحيان إلى حالة من الكسل والتواكل والسلبية والتسليم للأمر الواقع والميل إلى الإستقرار الذى يصل أحيانا إلى حالة من الجمود . فالشخصية المصرية مثل الطبيعة المصرية لاتتغير بسهولة ولا تتغير بسرعة , بل تميل إلى الإستقرار والوداعة والمهادنة وتثبيت الوضع القائم كلما أمكن والتصادق معه وقبوله . وهذه الصفات قد خدمت إلى حد كبير كل من حكموا مصر على مدار التاريخ حيث كان ميل المصرى للوداعة والطمأنينة والإستقرار يفوق ميله للثورة والتغيير , وربما يكمن هذا العامل وراء الحالة المزمنة من الحكم الإستبدادى على مدار التاريخ المصرى , فقد كان الحاكم يبدأ بسيطا متواضعا ثم بطول المدة واستقرار الأوضاع تتمدد ذاته على أرض الوادى الخصيب وسط أناس طيبين مسالمين وادعين , وشيئا فشيئا تتوحش هذه الذات الحاكمة وتحكم قبضتها على رقاب الشعب , والحاكم يعرف دائما أن الشعب المصرى لا يميل إلى  الثورة خاصة فى أشكالها العنيفة . فخلو الطبيعة المصرية – نسبيا - من الزلازل والبراكين  والنوّات والأعاصير الجارفة يقابله ميل شعبى لاستمرار الإستقرار واستقرار الإستمرار , وهذا شعار يرفعه كل حاكم استبد بحكم مصر واستغل هذه الرغبة الدفينة لدى المصريين فى الإستقرار والوداعة وراحة البال . وذكر ابن خلدون فى مقدمته : " أن أهل مصر يميلون إلى الفرح والمرح ,  والخفة ,  والغفلة عن العواقب " . وربما يفسر هذا كون المصريين كانوا يحكمون بواسطة حكام أجانب معظم مراحل تاريخهم , وكانوا يقبلون ذلك سماحة أو طيبة أو غفلة أو تهاونا أو رغبة فى الراحة والإستقرار . وحين كانت تشتد بهم الخطوب نتيجة عسف الحاكم الأجنبى المستبد والمستغل كانوا يستعينون بالنكات اللاذعة والسخرية لتخفيف إحساسهم بالمرارة مما يعانون , وكان سلاح السخرية يؤجل الثورة وربما يجهضها لأنه يعمل على تنفيث الغضب الكامن

والمصرى يتحرك ويثور فى حالات قليلة ومحددة وهى : 1- حين تنتهك قدسية عقيدته الدينية المتراكمة عبر عصور طويلة . 2- حين تجرح كرامته الوطنية بشكل مهين . 3 – حين تهدد لقمة عيشه بشكل خطر .

والطغاة والمستبدون كانوا يعرفون حدود هذه الأشياء فيحفظون له الحد الأدنى منها حتى يضمنوا استمرار ولائه , أو يحاولون خداعه حتى لا يصل إلى حالة الشعور بالمهانة أو العوز المحرض على الثورة .

ولا شك أنه قد حدثت تغيرات شملت الطبيعة المصرية وامتد تأثيرها إلى الشخصية المصرية , فقد أدى الزحام الشديد فى المدن والقرى إلى الإحساس بالضيق والإختناق والحرارة الزائدة خاصة فى الصيف , إضافة إلى ارتفاع معدلات التلوث السمعى والبصرى , كل ذلك أدى إلى تنامى حالة من العصبية وسرعة الإستثارة والعدوان لدى المصريين بشكل لم يكن معهودا من قبل . وعرف المصريون الزلازل فى السنوات الأخيرة فاهتز الإحساس بالإستقرار بعض الشئ . ولم تعد خيرات الأرض تكفى المصرى أو تطمئنه لذلك لم يعد مطمئنا كما كان واضطر للسفر إلى شرق الأرض وغربها باحثا عن لقمة العيش له ولأسرته , ثم عاد بعد سنوات وهو يحمل أفكارا وتوجهات تنتمى إلى بيئات وثقافات أخرى , وضعف لديه الإنتماء بدرجات متفاوتة عن ذى قبل لأن البيئة المصرية لم تعد معطاءة كما كانت ولم تعد مستقرة كعهده بها ولم تعد وديعة مطمئنة كما عرفها . وقد أدى هذا إلى بعض التغيرات نذكر منها : 1- توجهات دينية استقطابية لا تعترف بالآخر المختلف وتميل إلى تكفيره أو استبعاده .2 – جماعات تميل إلى التعامل بعنف مع السلطة والمجتمع ,  ولكن هذه الجماعات لا تشكل حتى الآن تيارا عاما , حيث بقى عموم الناس متأثرين بالطبيعة القديمة للشخصية المصرية نوعا ما , وإن كان هذا قابل للتغير فى السنوات القليلة القادمة فى حالة استمرار الضغوط السياسية والإجتماعية والإقتصادية القائمة. 3- رغبة فى الهجرة إلى أى مكان فى الأرض بعيدا عن الأحوال المعيشية الصعبة التى تخلو من الأمل والحلم خاصة للشباب . 4 – حالة عامة من الإحباط والقلق والضيق , ولكنها لا تتشكل – حتى الآن -  فى صورة فعل يهدف إلى التغيير.4- شراهة استهلاكية لدى الجميع – رغم الفقر – وخاصة الفئات التى أثرت ثراءا طفيليا سريعا .

 إذن فقد تغيرت الطبيعة فى بعض جوانبها وتغيرت تبعا لذلك الشخصية المصرية فى بعض سماتها .  

 تعددية أم تناقض :

حين شرعت فى الكتابة عن الشخصية المصرية شعرت بحيرة شديدة حيث وجدتنى أمام كم هائل من الصفات والجوانب المتعددة والمتناقضة فى نفس الوقت بحيث تجعل الصورة أشبه بمناطقنا العشوائية المنتشرة فى طول البلاد وعرضها ففيها الفقر المدقع والغنى الفاحش , وفيها الظلم وفيها العدل , وفيها القسوة فى أشد صورها( تعذيب حتى الموت ) وفيها الرحمة فى أجمل صورها ( جمعيات خيرية وتكافل اجتماعى ) وفيها العلم والعلماء ( أربعة جوائز نوبل فى بلد صغير نسبيا وفى فترة زمنية قصيرة ) وفيها الجهل المطبق على غالبية سكانها , وفيها الإستبداد السياسى وفيها فى ذات الوقت صحفا مستقلة وحزبية تتحدث بكامل الحرية وأحيانا تتجاوز كل الخطوط الحمراء , وفيها الأزهر والحسين والسيدة نفيسة والكاتدرائية المرقسية والجماعات الإسلامية والمسيحية , وفيها شارع الهرم واستديوهات إنتاج الفيديوكليب , فيها الطيبة والقسوة , فيها الشهامة والنذالة , فيها السماحة والتعصب , فيها الفن الجميل والقبح الفاحش , فيها ...... وفيها , وفيها ......

 *****

وربما يقول قائل : وما الغرابة فى ذلك أليست مصر مثل كل المجتمعات البشرية , والبشر فيهم كل هذا ؟ ..... وهذا تساؤل مشروع ومنطقى ولكن فى الشخصية المصرية وفى الحياة المصرية عموما تجد هذه التعددية وهذه المتناقضات صارخة إلى الدرجة التى جعلت عالما مثل موريس هيندوس ( Maurice Hindus 1949) يردد أن مصر أرض المتناقضات ( Land of paradox )   ربما – كما يقول جمال حمدان – تحت تأثير التباين الشديد بين الفروق الإجتماعية الصارخة من ناحية , أو من ناحية أخرى بين خلود الآثار القديمة وتفاهة المسكن القروى , أو بين الوادى والصحراء  حيث يتجاوران جنبا إلى جنب , ولكن كما تتجاور الحياة والموت  .

 

ولذلك سوف نجد أنفسنا أمام سمات قد تبدو متباعدة أحيانا ومتناقضة أحيانا أخرى , وهذا يستدعى منا الكثير من الصبر وسعة الصدر والإحتمال لما سنعرضه عن هذه الشخصية المثيرة للإعجاب فى لقطات والمثيرة للغضب والإستهجان فى لقطات أخرى .

 

وقد وضع الدكتور ميلاد حنا كتابه  " الأعمدة السبعة للشخصية المصرية " ليوضح فيه روافد تعددية وثراء وأحيانا تناقض سمات هذه الشخصية .

ووضع أيضا جمال حمدان فصلا فى كتابه شخصية مصر تحدث فيه عن تعدد الأبعاد والجوانب ( شخصية مصر , كتاب الهلال , عدد 509 , 1993 ) وخلص إلى أن الأمة المصرية أمة متعددة الجوانب , متعددة الأبعاد والآفاق , مما يثرى الشخصية الإقليمية والتاريخية ... فلها بعد آسيوى وبعد إفريقى وبعد نيلى وبعد متوسطى , وكل بعد من هذه الأبعاد يترك بصمته على الشخصية المصرية بشكل أو بآخر .

الشخصية المصرية بين التكيف والتشوه :

سألنى يوما أحد أصدقائى الأجانب : كيف يعيش المصريون بمرتباتهم الهزيلة وكيف يدبرون حياتهم ونصفهم تحت خط الفقر دون أن يثوروا أو تنتشر بينهم الجريمة ؟ !!!......

وكان ردى وقتها أن المصريين لديهم قدرة هائلة على التكيف مع الظروف , ويبدو أن هذه القدرة اكتسبوها من تاريخهم الطويل فى التعامل مع أنماط متعددة من الحكام والحكومات , وتغير الظروف والأحوال التى يعيشون تحت وطأتها , فلديهم مرونة كبيرة فى التعامل , ولديهم قدرة على قبول الأمر الواقع والتكيف معه أيا كان هذا الأمر , ولديهم صبر طويل على الظروف الضاغطة والقاصمة , ولديهم أمل فى رحيل من يظلمهم بشكل قدرى لا دخل لهم فيه ( اصبر على جارك السو , يا يرحل يا تجيله داهية تاخده ) , فهم يراهنون دائما على الزمن يحل لهم المشكلات , أو تتحلل معه ( المشكلات وعزائمهم ) .

 

وعلى الرغم من بريق هذه القدرة العالية على التكيف فى الظاهر إلا أن عين الباحث الموضوعى يرى أنها ربما تكون عيبا كبيرا فى كثير من الأحوال , فالمصرى كثيرا ما يقبل الأمر الواقع ويغير فى نفسه وفى شخصيته وفى ظروف معيشته لكى يلائم هذا الواقع , وبالتالى لا يفكر كثيرا أو جديا فى تغيير الواقع بل يميل غالبا للإستسلام له والتسليم به إلى درجة الخضوع المذل , ولهذا عرف عن المصريين ميلهم للإستقرار وعدم التغيير , وخوفهم من الجديد , وابتعادهم عن المغامرة أو المخاطرة , ورضاهم بما هو كائن , وصبرهم السلبى على ظروف تستحق المواجهة أو التغيير أو الثورة . ويبدو أن هذه السمات مرتبطة بالطبيعة الزراعية التى ترى أن دورها فى الإنتاج الزراعى محدود ببذر البذرة وانتظار نموها دون تدخلات جذرية فى هذا النمو سوى الرعاية والإنتظار , وهذا يختلف عن المجتمع الصناعى الذى يشعر فيه الفرد ( والمجتمع ) بقدرته الكبيرة على التغيير والتوجيه والنمو .

 

وقد أدت محاولات التكيف المتكررة أو المستمرة مع ظروف ضاغطة وسيئة فى فترات متعاقبة إلى حدوث تشوهات فى سمات الشخصية لم ينج منها إلا قليل من الناس كانوا على وعى بهذا الأمر , أو قرروا الإمتناع عن التكيف المشوه مع ظروف مشوهة . وهذه القلة من الناس تعانى ظروفا صعبة حين تتعامل مع مجتمع وافق غالبيته على قبول الأمر الواقع – دون محاولة صادقة أو جادة لتغييره – وهذا الأمر يضع تلك الأقلية فى حالة غربة واغتراب وصعوبات حياتية كثيرة . وإذا أخذنا مثلا لذلك موضوع الرشوة , فقد انتشرت بشكل وبائى فى المجتمع المصرى حتى أصبحت من القواعد الأساسية للتعامل مع موظفى الحكومة , ويقابلها البقشيش أو الإكرامية أو الدخان فى القطاع الخاص , فإذا وجدنا شخصا شريفا يرفض هذا الأمر من منطلق أخلاقى , فإننا يمكن أن نتوقع كم الصعوبات التى سيواجهها فى حياته اليومية مع أناس تعودوا لدرجة الإدمان على الرشوة بكافة صورها . وقس على هذا الأمر كثير من الأمور . ومع هذا فقد بقى فى المصريين نماذج مشرفة فى كل مجال وفى كل مكان يقاومون هذا الإنحراف العام ويعطون الأمل بإمكانية تصحيحه يوما ما فى ظروف تصل فيه هذه النماذج إلى مراكز التأثير ( كيف ؟ ..... لا ندرى ؟ ...... حيث الرموز والقوى الداعمة والراعية للفساد أو الساكتة عنه والمتساهلة فيه مازالت متشبسة بمواقعها ) .

 

 *****

والشعب المصرى ليس شعبا ثوريا , لذلك تمر سنوات طويلة على أى ظروف غير مواتية يعيشها , وغالبا يتحرك بعوامل خارجية نحو التغيير تضغط عليه فلا يجد مناصا من الحركة , أما لو ترك لذاته فهو يميل إلى استقرار الأوضاع إلى درجة الجمود أحيانا طمعا فى الأمن وبقاء لقمة العيش حتى ولو كان أمنا ذليلا أو لقمة مرة .

ولكى يتمكن المصرى من مواصلة التكيف وتحمل ثقل الأمر الواقع ( الذى لا يسعى جديا لتغييره ) فإنه يستخدم النكتة والقفشة والسخرية سلاحا يواجه به من فرض عليه هذه الظروف , وهذه الوسائل تقوم بتفريغ طاقة الغضب , إن كان ثمة غضب , وتؤدى بالتالى إلى استقرار الأمور , أو بالأحرى إلى بقاء الوضع على ماهو عليه , رغم قسوته وضغطه وتشوهه . ولهذا نجد الحكام , أو على الأقل بعضهم , لا يضيقون بما يصدره الشعب من نكات سياسية تمسهم , لأنهم يعرفون أن فى ذلك تفريغ لطاقة الغضب الشعبى , وتأجيل لأى محاولة للتغيير .

 

مفتاح الشخصية المصرية : " الفهلوه "

منذ سنوات عديدة وبالتحديد فى عام 1983 كنت أؤدى امتحان الجزء الأول من الماجستير فى الطب النفسى وتعرضت فى كلامى لتصنيف للشعوب المختلفة يعطى كل شعب سماتا مشتركة وأحيانا نمطا شخصيا عاما , ولكننى وجدت الممتحن (وهوأستاذ مصرى كبير و شهير فى الطب النفسى ) تظهر عليه علامات القلق والرفض  , وحذرنى وقتها من الوقوع فى خطأ التعميم على  الشعوب حيث أن كل فرد فى أى مجتمع له سماته الخاصة ونمط شخصيته , وأن هناك تفاوتات هائلة داخل كل مجتمع فيما يخص السمات والأنماط الشخصية , ولقد احترمت رؤيته واستجبت لتحذيره لعدة سنوات , ولكن مع التعامل مع مجتمعات متعددة وجنسيات مختلفة بشكل أكثر عمقا عاودنى هذا الخاطر مرة أخرى واكتشفت أن هناك الكثيرون يتفقون على أن للشعوب أنماطا وسمات مشتركة تميزها بشكل عام على الرغم من الإختلافات الفردية الكثيرة لأفرادها , وأن عوامل الجغرافية والتاريخ والسياسة والإقتصاد والدين , كل ذلك يشكل الشخصية العامة لمجتمع بعينه , وقد كتب عالمنا العظيم جمال حمدان عن " شخصية مصر " وكأن مصر نفسها ( وليس فقط المصريين ) كيان معنوى له سمات مميزة تفرقها عن أقطار أخرى لابد وأن لها هى الأخرى سماتها المختلفة .

وإذا كان هناك من علماء الإجتماع من ينكر وجود نمط سائد للشخصية فى مجتمع ما أو فى عصر ما إلا أن عالما مثل الدكتور حامد عمار قدم دراسة مستفيضة رجع فيها إلى العصور القديمة والمجتمعات البدائية وما كتب عنها من دراسات تؤيد أن كل مجتمع يسود فيه نمط معين للشخصية يغلب على أفراده ويظهر على السطح ويحظى بالفرض  والأسبقية , وقد ضرب أمثلة لذلك من المجتمعات القديمة والحديثة نكتفى منها بذكر نماذج لمجتمعات حديثة لعلها تكون أقرب للر ؤية من غيرها , فإذا أخذنا المجتمع الإنجليزى وجدنا أن المثل الأعلى للشخصية الإنجليزيةهو نمط " الجنتلمان " , ومن أهم سمات هذا النمط : ضبط النفس وعدم المبالغة أو الإسراف فى التعبير , والتحفظ الشديد فى السلوك أو إظهار المشاعر , والتمسك بالشكليات , والميل إلى التلميح أكثر من التصريح , والحرص على أن تكون هناك مسافة بين الفرد والآخرين , والإحتفاظ بخط الرجعة فى كل علاقة أو صداقة , والتوفيق بين الآراء , والحرص على إظهار الإستعداد للخسارة والتنازل فى الوقت الذى يكون قد حسب حساباته جيدا وتأكد أنه الرابح , ويحرص ال" جنتلمان " أيضا على مراعاة القانون والتقاليد الإجتماعية . أما النمط الأمريكى فهو – على العكس – يمجد الرجل العادى , ويرى أن المساواة تسبق الحرية , وهو متفائل دائما ويرى أن الغد سيكون أفضل من اليوم , ولديه نزعة إلى الظهور , والنفوذ , والقوة , والعنف , والسيطرة , ويسعى دائما إلى النجاح , ويقبل التحدى والمنافسة والصراع , ويعتمد على جهده الفردى ليشق طريقه . والشخصية الأمريكية - كما هو معروف - لا تميل إلى التعمق فى التفكير والتحليل , وتفضل الطابع العملى , والسلوك والسعى إلى كل ما يحقق منفعة , وهذا هو جوهر الفلسفة " البراجماتية " التى تمثل جوهر الشخصية الأمريكية

( عن كتاب المصريون فى المرآة , رجب البنا , مكتبة الأسرة 2000 ) .

 

 *****

إذن نستطيع القول – بدرجة معقولة من الصحة – أن مفتاح الشخصية الإنجليزية هو ال

" جنتلمان " فى حين أن مفتاح الشخصية الأمريكية هو " البراجماتى " , وهذه المفاتيح هى بمثابة الشفرة التى من خلالها نستطيع قراءة الكثير من أفكار وسلوكيات كل شخصية , وهى أيضا فلسفة حياة تكونت عبر ظروف جغرافية وتاريخية عميقة , فالشخصية الإنجليزية – على سبيل المثال – قد تأثرت بأخلاق طبقة الفرسان والنبلاء فى العصور الوسطى وتاثرت بطريقة حكم الملكة إليزابيث الأولى التى كانت تنتهج طريقة فى الحكم لاتتسامح فيها مع أى خطأ وتعلى من قيمة أخلاق طبقة النبلاء , وتأثرت أيضا بعصور الإستعمار وما يلزمها من حرص وحذر وتحفظ ودقة فى التعامل مع الآخر, أما الشخصية الأمريكية فقد تشكلت من مجموعة من المغامرين والمهاجرين وأحيانا المنبوذين من مجتمعاتهم التقليدية , وهؤلاء جميعا يجمعهم حلم التفوق والثروة والنجاح والنفوذ والسيطرة , وهم فى سبيل ذلك مستعدون للتضحية بأى قيمة , خاصة أن القيم فى نظرهم تنتمى إلى أخلاقيات المجتمعات التقليدية التى هجروها أو نبذتهم هى , وكأن بينهم وبين القيم التقليدية عداء خفى , وبهذا تصبح المنفعة عندهم هى الدين الأساسى وهى القيمة العليا التى تتشكل حولها كل تفصيلات السلوك وكل سمات الشخصية , ويشجعهم على ذلك ما حققته هذه الفلسفة البراجماتية من تفوق تكنولوجى ومن ثروة طائلة ومن نفوذ عالمى بصرف النظر ( نظرهم هم ) عن أى اعتبارات دينية أو أخلاقية أو قانونية .

 

إذن فمن المشروع أن نحاول اكتشاف مفتاح ( أومفاتيح) للشخصية المصرية يسهل علينا قراءتها وفهمها والتنبؤ بردود أفعالها , وطريقة التعامل معها وأخيرا – وهو الأهم – إصلاحها إن كان ثمة ضرورة ونية لذلك .

ومسألة مفتاح الشخصية قد استخدمها العقاد بنجاح فى عبقرياته لكى يوضح بها محور الشخصية الأساسى الذى تدور حوله ,أو تنبثق منه بقية عناصر الشخصية وتوجهاتها .

 

 *****

وقد رأى المستشرق الفرنسى " جاك باركن " أن الفهلوة هى السلوك المميز للشخصية المصرية , وهو يرى " أن هذا السلوك مكن مصر من ألا تضيع أبدا لكنه جعلها تخسر كثيرا "

( حماده حسين , روزاليوسف 30/3/2001 -3798 ) . ويصدق دكتور حامد عمار عميد التربويين المصريين على مقولة المستشرق الفر نسى محاولا قطع شوط طويل فى المسافة الشائكة بين كون الفهلوة سلوكا أنقذ مصر على طول تاريخها من الضياع , والخسارة التى ما زالت مصر تتكبدها بسبب الفهلوة , ووصل دكتور عمار فى رحلته إلى عمق رأى فيه أن الفهلوة قد توحشت وأصيبت بالسعار .

يقول دكتور عمار : " عصور طويلة مرت لكل عصر منها سماته المميزة , وخصائصه الفريدة وألوانه الخاصة فى تلوين ملامح الفهلوة دون المساس بالأصل ... والحقيقة أنه لم يكن هناك متسع من الوقت والجهد لأن يتغير الأساس ... إذا كانت الفهلوة الوسيلة المثالية لبناء جسد يتجاوز به المصرى المسافة الفاصلة بين قدرته اللامتناهية على الطاعة والقبول بأقل القليل .. وبين إحساسه بالبرودة والغربة تجاه السلطة فهو مثلا يخاف منها ويطيعها .. رهبته منها تمحو قدرته على الفعل والمشاركة .. يخادعها .. يتنكر لها .. ينتقدها سواء فى نكتة أو " قعدة فرفشة" , وغالبا ما يصل نقده إلى حد السخرية اللاذعة والتجريح . وطبقا لذلك فقد كونت خفة الظل والحداقة والشطارة والقدرة على المراوغة كوكتيل سعادة أعطى المصرى القدرة الفائقة على طى سنوات طويلة سكنها السواد والحزن .. ربما يكون هذا هو الجانب المشرق للفهلوة الذى قصده المستشرق الفرنسى " .

أما الخسائر كما يقول حامد عمار فتبدو فى أن المصرى البسيط لم يشارك فى بناء بلده المشاركة الحقيقية وإنما ترك المهمة لفئة واحدة اختارت نوع الحضارة والعمران وبلورة القيم والأعراف , وهذا لا شك خلق نوعا من الإذعان والإستسلام مخلوطا بالمخادعة والتملق المبالغ فيه , إضافة لشئ أخطر هو أن نهمه الشديد للكلام قد فجّر طاقات لسانه " عمّال على بطّال " بينما أصيبت رغبته فى الفعل وبذل الجهد والعرق بالشلل شبه التام " . " تنزل من بيتك فى الصباح فتسمع هذا الشخص ويبدو من صوته وعباراته أنه يبيع الهواء فى زجاجة .. ولديه قدرات خاصة تمكنه من لف الفيل فى منديل .. وسحق عظام من يقف فى وجهه .. بينما هو لا يعرف ماذا يبيع .. أو من أين سيأتى بالفيل إذا كان فى جيبه منديل .. ويخاف من العتمة .. تقول فى نفسك أنه فهلوى .. وهذا حقيقى لأنه يعتمد على إحداث أكبر قدر من الضجيج والتشويش وجذب الإنتباه بتضخيم الذات لتفادى مواجهة الواقع بمشاكله المعقدة وخيوطه المتشابكة التى يتطلب حل عقدها الإجتهاد والجهد والفعل" .

 

وشخصية الفهلوى تراها وأنت تركن سيارتك بجانب أى رصيف أو تخرج بها فتفاجأ بأن الأرض انشقت وخرج منها شخص يقف وراءك أو أمامك ليقول لك " تعالى .. تعالى " ويتصرف وكأنه ينظم حركة دخولك أو خروجك , وفى الحقيقة هو يعوق حركة السيارة بوقوفه المستفز أمامها أو خلفها . وترى الفهلوى يقابلك فى الشارع أو فى أى مصلحة حكومية فيبادرك بالسلام ( وكأنك تعرفه من زمن ) ويقول لك بشكل سمج وثقيل " كل سنه وانت طيب يابيه " , أو يقول لك وأنت عائد من المطار " حمدالله على السلامه يابيه " , ومن كثرة ما ترددت هذه الكلمات فى مثل هذه الظروف وبهذه الكيفية من هؤلاء الأشخاص أصبحت ذات مدلول سلبى يجعلك تكره سماعها .

 

 *****

والفهلوى المصرى تراه عند شبابيك تجديد رخص السيارات فى إدارات المرور يعرض خدماته عليك , وكثيرا ما يفرض نفسه عليك بتقديم مشورة لم تطلبها , والتلويح لك بقدرته على إنهاء الأوراق بسهولة وسرعة , وحمايتك من كل أنواع الروتين والبيروقراطية , وترى أخاه الفهلوى الآخر يعمل ساعيا أو عامل بوفيه فى أى مصلحة حكومية يقابلك فى مدخل المصلحة ويرى الحيرة والإرتباك على وجهك فيصطادك ويعرض عليك تخليص أو تسهيل المهمة . والنظام البيروقراطى , والتعقيدات المكتبية وشيوع الرشوة والوساطة , كل ذلك أدى إلى تنامى دور الفهلوى حتى أصبح من مكونات المنظومة الإجتماعية المصرية المعاصرة .

 

ولا تتوقف الفهلوة عند هذه المستويات الدنيا بل تتسلل إلى المراكز الوظيفية العليا حين يتلاعب رؤساء مجالس إدارات الشركات بالأرقام ويحولون خسائرهم إلى مكاسب ويوهمون الآخرين وربما أنفسهم بتحقيق إنجازات عظيمة , ويتصورون أن للكلام تأثير يساوى الفعل فيضعون هذا محل ذاك , وحين تتكشف الأمور ويحدث الإنهيار يلجأون للتبرير والتهرب من المسئولية والبحث عن كبش فداء من صغار الموظفين .

 

والفهلوى تراه فى مسئول كبير فى وزارة الصحة يؤكد أننا فى مصر قضينا تماما على شلل الأطفال ولم تسجل فى مصر حالة واحدة منذ عدة سنوات , ثم تكتشف أن هناك عدد ليس بالقليل من الحالات مسجلة بالإسم والعنوان لدى المنظمات العالمية المهتمة بالصحة والطفولة.

 

والفهلوة تراها فى طبل وزمر حول قدرة مصر على تنظيم أكبر مونديال للكرة العالمية وأن مصر فيها قوة جذب لا تقاوم للسائح الأجنبى ثم يتمخض الأمر عن صفر كبير تلقيه الهيئات الدولية فى وجه الفهلوى المصرى .

 

والفهلوى تراه يتحدث عن إمكانات مصر السياحية التى لا تبارى من وجود 40% من آثار العالم فى مصر , ومن شمس ساطعة إلى جو معتدل , ويعلن أن  عدد السائحين قد وصل رقما قياسيا وهو 6 مليون سائح , ولكنك للأسف تكتشف فيما بعد أن فرنسا وأسبانيا يزور كل منها حوالى 40 مليون سائح سنويا على الرغم من افتقارهما لهذا الكم الهائل من الآثار الذى نمتلكه.

 

والفهلوى يعلن أن الإرهاب انتهى فى مصر إلى غير رجعة وأن الأمور أصبحت كلها تحت السيطرة , وأنه تم القبض على فلول الإرهابيين ثم تفاجأ بعدها بأيام بحدث إ رهابى مروع تتلوه حوادث أكثر ترويعا .

 

 *****

وتظهر الفهلوة واللف والدوران بشكل صريح وفج فى فترة الإنتخابات حيث تجد الإعلانات المليئة بالأكاذيب والنفاق والوعود البراقة , وإعلانات التأييد والمبايعة التى يشارك فيها الأجنة وهم بعد فى بطون أمهاتهم ويشارك فيها الأموات الذين أفضوا إلى ربهم , وكأن سلوك الفهلوة لدى الشخصية المصرية سلوكا أبديا يسبق الميلاد ويستمر حتى بعد الوفاة . وتخلو الدعايات الإنتخابية عندنا من البرامج الموضوعية التفصيلية الجادة , وتلجأ بديلا عن ذلك إلى شعارات عاطفية أو دينية أو تاريخية يتم من خلالها خداع الناخب , ولو لم تنجح هذه الوسائل فالتزوير ومنع الناخبين من الوصول إلى اللجان الإنتخابية وسيلة سهلة لتحقيق المطلوب .

 

وتصل الفهلوة إلى بعض الدعاة والأدعياء حيث يميلون إما إلى تملق السلطة ( بالفتاوى الميسرة والمبررة للإستبداد والفساد ) أو تملق الجماهير ( بالروشنة الدعوية والمظهر النجومى وفتاوى التيك أواى وتسطيح الدين بما يتناسب مع ذوق مشاهد الفضائيات الذى لايحتمل ذوقه إلا نوع من التدين الخفيف الممزوج بالمتبلات والمسبوق بالسلطات والمخللات).

 

والإعلام فى أى بلد يفترض أنه كاشف للحقيقة وموقظ للوعى ومحرض على التغيير نحو الأفضل والأجمل والأصلح , ولكن سلوك الفهلوة حين غزا الإعلام شوه هذه الصورة حين سوق لخطاب إعلامى مزدوج ومزيف , يروج للأكاذيب , ويمدح ويهلل لكل صاحب سلطة ويمجد فيه وربما يقدسه , ويلمع أنصاف الموهوبين ويفرضهم على الناس , ويصنع نجوما وقيادات من ورق ويسوقها للجماهير المخدوعة بالبريق الإعلامى والإلحاح المتكرر , وبهذا يصبح الإعلام أداة ترويج وتدعيم لوباء الفهلوة , بل إنه يعطى لسلوك الفهلوة شرعية واحتراما على أنه سلوك مقبول وأنه ينم عن ذكاء وحسن تصرف , وتقدير للأمور , ومراعاة للظروف . والإعلام المزيف يعطى للناس دروسا عملية ومهارات فى لبس الأقنعة والتزييف , وتصبح الأصوات الصادقة والأصيلة والأمينة نشازا فى هذا الوجه أو يصبح صوتها خافتا ضعيفا وسط جوقة التهليل والتزييف .

 

وفى عالم المال والإقتصاد يظهر الفهلوى فى صورة مستثمر  يقترض أموال البنوك أو يجمع أموال الناس تحت أى شعار , ويعطى ضمانات وهمية ويؤسس شركات ورقية , وينشر ميزانيات خادعة , وفى لحظة الموا جهة أو الإنكشاف يهرب إلى الخارج وقد سبقته الأموال عبر البنوك لكى ينعم بها هناك , ومن هنا تقلصت وضعفت قيم العمل الجاد الدؤب , وحل محلها قيم الكسب السريع بدون جهد وفى أقصر وقت ممكن وبأى وسيلة , وشعار هؤلاء " خذ الفلوس واجرى " , وهناك من يمكنهم من أخذ الفلوس ثم يمكنهم بعد ذلك من الجرى طالما هو سيأخذ عمولته ويكون فى الخلفية بعيدا عن المحاسبة .

 

وتصل الفهلوة إلى ذروتها حين تصل لمسئولين كبار يدغدغون المشاعر الوطنية والقومية بشعارات الريادة والسبق الحضارى ( أننا أبناء حضارة خمسة أو سبعة آلاف سنة وأننا رواد العالم العربى والإسلامى وأن العالم يتعلم منا ومن قادتنا الحكمة ) , ويغطون التخلف والجمود على كل المستويات بأرقام خادعة تعكس إنجازات وهمية , ويبررون الهزائم والنكسات والإنكسارات ويحولونها إلى انتصارات تاريخية تستوجب أجازات رسمية للإحتفال بها , وتمتلئ الخطب والتصريحات بالمغالطات والمبالغات والتهويلات , ويكتفى بالكلام والشعارات الرنانة بعيدا عن التخطيط العلمى والعمل الدؤب والفعل الجاد والإنجاز النوعى المتراكم .

 

فنحن بلد له دستور مكتوب ومع هذا تسير الحياة فى واد والدستور فى واد آخر , فالدستور اشتراكى والحياة اليومية الوالقعية والرسمية ر أسمالية , ولدينا أشكال ديموقراطية ( انتخابات نيابية ورئاسية ) ولكن الواقع ليس ديموقراطيا بالمرة ,  وإنما يكتفى بإطلاق صراخ وصياح وسباب فى صحف معارضة أو مستقلة دون أن يكون لذلك صدى , كأنما يكتفى بالكلام والصراخ بديلا للفعل والتغيير.

 

 *****

وحين ينتشر الإرهاب فى العالم ويكتشف الآخرون أن غياب الديموقراطية وانتشار الفساد فى مصر والعالم العربى وراء هذه الظاهرة المهددة للعالم كله , وحين تشتد المطالبة بإصلاحات سياسية , تظهر الفهلوة المصرية فى الإلتفاف والمراوغة والتحايل , وعمل بعض التغييرات الشكلية , وإطلاق التصريحات اللفظية , وعقد بعض الندوات والمؤتمرات بهدف امتصاص الضغط الخارجى , وإبقاء الحال ( المائل ) على ما هو عليه .

 

والفهلوى يهتم بالشكل دون المضمون ويهتم بالكلام بديلا عن الفعل , ويمارس حالة من الإذدواجية تمكنه أن يقول مالايفعل ويفعل مالا يقول , ويمارس حالة من الخداع لغيره  تنقلب بعد فترة إلى الخداع لنفسه , وبالتالى تغيب الحقيقة عن الجميع وتغيب البصيرة اللازمة للتغيير , إذا افترضنا وجود نية للتغيير , وهذا أخطر مافى سلوك الفهلوة من الناحية النفسية والإجتماعية .

 

وهكذا نجد أن الفهلوة لم تصبح سلوكا فرديا لدى البائعين الجائلين أو منادى السيارات على الأر صفة أو المسهلاتيه أو المشهلاتيه من السعاة وعمال البوفيه فى المصالح الحكومية , وإنما أصبح سلوكا عاما لم ينج منه أحد على أى مستوى مهما علا أو نزل , وأصبح وباءا عاما لم تخل منه طبقة من الطبقات .

 

والفهلوى فى التوصيف النفسى هو شخص لديه سمات  سيكوباتية , وليس بالضرورة أن يكون سيكوباتيا بالمعنى الإصطلاحى المعروف , وهذا يعطيه قدرة على الخداع والمناورة , فهو كثيرا ما يبدو خفيف الظل , خفيف الحركة , يغرى بالقدرة على تخليص الأمور الصعبة والمعقدة , ويغرى بالرغبة فى المساعدة فى حل المشكلات العويصة , فكل عقدة عند الفهلوى لها ألف حل , وكل شخص عنده وله مفتاح وثمن , والفهلوى لايحل المشكلات بالطرق المعهودة من العمل والمثابرة والتفكير والتخطيط وإنما يتخطى كل ذلك ويتجاوزه ويلجأ إلى الطرق الخلفية والخفية والسريعة بصرف النظر عن مشروعيتها . والفهلوى بهذه السمات السيكوباتية يميل لأن يبدو مهذبا , وهناك تعبير " السيكوباتى المهذب " والذى تراه فى مستويات وظيفية أو قيادية أو سياسية عالية يتحدث بهدوء وأدب , ويعطيك شكل الأشياء دون جوهرها لأنه يعرف حرص الناس على الشكل فهو لا يصدمهم بانتزاع الشكل , فيحافظ على الظاهر قانونيا أو أخلاقيا مع الإحتفاظ بحقه فى العبث بالجوهر أو انتزاعه تماما بما يحقق مصلحته . والمحافظة على الشكل تحمى الفهلوى من المساء لة والإنتقاد وتجعله قادرا على المناورة والدفاع عن نفسه إذا حاول أحد كشفه أو محاسبته , وهذا مما يرسخ لسلوك الفهلوة ويحبط كل محاولات الإصلاح الجادة , حيث تصطدم كل هذه المحاولات بأن كل شئ تمام على مستوى الشكل , ولا تستطيع أن تثبت غياب المضمون أوتشوهه لأن الفهلوى ( أو السيكوباتى المهذب ) لديه القدرة عل المناورة والجدال , تلك القدرة التى ربما يفتقدها دعاة الإصلاح بحكم طبيعتهم المستقيمة والبريئة .

margin: 0pt 5px; text-alig

hany2012

شذرات مُتجدده مُجدده http://kenanaonline.com/hany2012/

  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 253 مشاهدة
نشرت فى 29 فبراير 2012 بواسطة hany2012

ساحة النقاش

هـانى

hany2012
موقعنـا موقع علمى إجتماعى و أيضاً ثقافـى . موقع متميز لرعاية كل أبنـاء مصر الأوفيـاء، لذا فأنت عالم/ مخترع/مبتكر على الطريق. لا تنس"بلدك مصر في حاجة إلى مزيد من المبدعين". »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,656,181