المقدمة مختصر تاريخ مصر "حول الحضارة المصرية القديمة و مبهراتها، نشأة الحضارة المصرية القديمة ، و مبهراتها ، وخفوتها، التحولات الكبرى (تحولات فى صميم الهوية) فى التاريخ المصرى .. تغيير اللغة والدين" الحضارة المصرية القديمة واحدة من أعظم حضارات الإنسانية قاطبة، وهى إن لم تكن أقدمها على الإطلاق فهى واحدة من أقدم الحضارات الإنسانية، بل إنها واحدة من ثلاث حضارات "مبدعة" فى تاريخ الإنسان، بمعنى أنها واحدة من ثلاث حضارات بدأت من البدايات الأولى غير مستندة إلى منجزات حضارات سابقة، حيث لم تكن هناك حضارات سابقة يمكن النقل عنها، و قد أضافت العزلة الجغرافية التى تمتعت بها مصر إلى هذه الأصالة وهذا التفرد قلة التأثر بالحضارات المحيطة بها لفترات طويلة فى تاريخها الألفى الحافل. إضافة إلى أصالة الحضارة المصرية وتفردها فإنها قد بهرت العالم قديما وحديثا بالعديد من المبهرات التى أذهلت العالم، من ضخامة المنشآت ودقتها متمثلة فى الأهرام الشاهقة والمعابد الضخمة ذات الأعمدة والصروح المهيبة، إلى المقابر ذات الألوان الزاهية، إلى المومياوات الباقية إلى عصرنا هذا وقد عاش أصحابها منذ آلاف السنين، إلى العديد من التفاصيل الدقيقة فى مختلف الصناعات والتى تبهر الناظرين فى المشغولات الدقيقة من مختلف المواد كالأحجار والأخشاب والجلود والمعادن والزجاج إلخ . وبتجاوز الماديات، ينبهر العالم بما تتضمنه فنونهم من غرائب وقيم ناتجة عن عقائد منفصلة عن عقائد الإنسان فى عصرنا، وإن كانت بعض عقائدهم يمكن ربطها ببعض عقائد الأديان السماوية، ولكن زحام الآلهة، وكثرة التصورات عن العالم الآخر قد أكسبت عقائدهم الكثير من الغموض والغرابة. ومع كل ذلك، فقد كان المصريون القدماء شعبا ككل شعوب الأرض، أكسبته ظروفه الخاصة خصائص فريدة، وذلك ككل شعب من الشعوب، تشترك مجموعة من العوامل فى تشكيل خصائص شخصيته العامة، ولعل أهم هذه العوامل هى البيئة التى يعيش فيها وتتأثر بها شخصيته أفرادا وجماعات، وتأخذنا البيئة إلى الجغرافيا التى تحكم عزلته أو انخراطه فى مجموع الحضارات الإنسانية المحيطة، وإذا كانت الجغرافيا تمثل المكان فإن التاريخ يمثل الزمان حيث تؤثر حوادثه فى الشخصية الجماعية لشعب من الشعوب، خلال هذه العوامل المختلفة يأتى دور الإنسان، وخاصة أولئك المتميزون الذين يرسمون خطوات الشعب، والذين يبتكرون الإبتكارات المختلفة فى كافة مجالات الحضارة والذين يصوغون ويوجهون العقائد، جميعهم مؤثرين ومتأثرين فى نفس الوقت بخصائص الشعب الذى ينتمون إليه ومتأثرين بالعوامل السابقة المؤثرة فيه. هذا الشعب أنتج حضارة مبدعة، أصيلة، تبهر منجزاتها العالم قديما وحديثا، وقد تعلَمَتْ منها وأخذت عنها الحضارات التالية لها، ولا يستطيع أحد أن يشكك فى أصالة هذه الحضارة أو فى نسبتها إلى المصريين القدماء إلا عندما يتخلى عن المنهج العلمى وعن المنطق السليم فى الاستدلال والقياس. الحضارة المصرية القديمة: من النشأة إلى الخفوت. بدأت الحضارة المصرية بداية متواضعة ككل شئ يولد صغيرا ضعيفا ثم ينمو ويقوى ويزدهر، ثم يأخذ فى الضعف تدريجيا حتى يموت، وقد أراد الله لمصر بصفة خاصة أن تتعدد حيواتها وأن يكون الموت بالنسبة لها إغفاءةً تعاود بعدها اليقظة والنهوض وبداية حياة جديدة، وليس الكلام السابق إطراءً على الذات وتمجيد لها أو شوفينية مَقيتة ولكنه مجرد تلخيص لتاريخ مصر منذ بداياته المبكرة وحتى الآن. بدأت مصر تكوُّنها منذ بضعة آلاف من السنين، فى صورة جماعات متفرقة تناثرت على أرضها، كان لكل جماعة خصائص مميزة، فقد كانت لكل جماعة عاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم، كما أبدعت كل جماعة صناعاتها وفنونها، ومن المؤكد وجود تأثيرات متبادلة بين هذه الجماعات من خلال المعاملات المتنوعة سلمية كانت أو حربية. ومن هذه الجماعات فى العصر الحجرى الحديث نجد مرمدة بنى سلامة فى الدلتا، كذلك حضارة دير تاسا فى الصعيد، ثم فى العصر النحاسى نجد حضارة البدارى فى الصعيد وفيها يبدأ استخدام النحاس فى مصر، يلى ذلك عصر حضارة نقادة وأمثلتها منتشرة فى مساحات كبيرة من أرض مصر. هذه الحضارات التى مثلت تجمعات بشرية محدودة، بعضها أشبه بالقرى البدائية الصغيرة وبعضها أكبر بدرجات متفاوتة، هذه جميعها مثلت فى مصر عصر ما قبل الأسرات، فقد كانت سابقة على مصر التى نعرفها كدولة واحدة. وكطبيعة الأشياء وبوسائل متنوعة سلمية وحربية أخذت هذه التجمعات يتحد بعضها ببعض مكونةً جماعات وممالك أكبر حجما وأقل عددا، حتى وصل الأمر إلى مملكتين كبيرتين، إحداهما شمالية فى الوجه البحرى والثانية جنوبية فى الوجه القبلى، وكان لكل مملكة خصائصها المميزة ورموزها. وقد تعاقبت محاولات تحقيق الوحدة بين هاتين المملكتين حتى كانت المحاولة الأخيرة التى تمتْ على يدّى الملك نعرمر (مينا) حوالى 0032 ق.م. عند هذه المرحلة يبدأ الحديث عن مصر كدولة واحدة موحَّدة تحت حاكم واحد، لكن جذور عقائد مصر وفنونها وعاداتها تضرب بجذورها إلى ما قبل الوحدة إلى إنجازات هذه الحضارات أو التجمعات البشرية، فمنذ هذه العصور كانت هناك محاولات لتفسير نشأة الوجود وظهرت نظريات متعددة فى عين شمس ومنف والأشمونين إلخ. ومنذ هذه العصور كانت عقائد البعث موجودة وفى ومخيلة وقلب المصرى القديم ومن المؤكد أنها كانت مصحوبة بتصورات وعقائد عن الحساب والجزاء والخلود. كذلك شهدت هذه العصور السابقة للوحدة النهائية 3200 ق.م. نشأة الفنون المصرية القديمة التى تطورت إلى صورتها التى ينبهر بها العالم الآن، فقد ظهرت جذورها منذ هذه العصور، كذلك محاولات ابتكار وسيلة لتسجيل لغتهم المنطوقة وهى الكتابة، كذلك محاولات تطوير صناعات متعددة منها الفخار، السلال، النسيج، تشغيل الأخشاب، المعادن، إلخ. بالاختصار مثلت هذه العصور السابقة على الوحدة الجذور للحضارة المصرية كما نعرفها. عصر الأسرات المبكر: مثلت الوحدة، التى تحققت بعد كفاح طويل، تحولا
ما هى هوية مصر: هل هى فرعونية أم إسلامية أم ماذا؟
هوية مصر
الحضارة المصرية بين الحضارة المصرية القديمة "الفرعونية"
وبين الحضارة الإسلامية
الحضارة الفرعونية من منظور إسلامي
حول العنوان :
يُقرأ الكتاب من عنوانه، وحتى تكون القراءة سليمة صحيحة، يجب أن يكون العنوان واضحا محددا، لا لبس فيه ولا غموض. وقد تعاقبت على هذا البحث عناوين متعددة، حتى استقر الرأى على العنوان الذى صدر به الكتاب أخيرا.
وقد تضمنت العناوين المختلفة للكتاب مجموعة من المفردات الأساسية، التى سيكون تناولها فى هذه المرحلة مناسبا سواء بقيت هذه المفردات فى العنوان أم اختفت منه، فهى على كل حال مرتبطة به لازمة عنه.
وقد تضمنت هذه العناوين المفردات الأساسية التالية: "الحضارة، الحضارة الفرعونية، الحضارة الإسلامية، والمنظور الإسلامي، الهوية"، وكان من الضرورى تناول هذه المفردات لبيان المقصود منها ولتوضيح مسار الكتاب عند هذه النقطة المبكرة.
الحضارة :
هي مجموع الخصائص القِيمِية والإنجازات المادية التى ينجزها ويراكمها شعب من الشعوب.
وهي تشمل شقا قِيمِيا غير مادى، يشمل الدين واللغة والفنون على اختلافها وطرق المعاملات والعلاقات الإجتماعية بين أفراد الجماعة البشرية.
كما تشمل شِقا ماديا يظهر ويتجلى فى الإنجازات المادية من أدوات الاستخدام اليومى وحتى المنشآت المعمارية الضخمة
ويضع دارسوا الحضارات الدين ضمن مكونات الثقافة لشعب من الشعوب، حيث تمثل الثقافة الشق القِيمِى، ويمتزج الشقان: المادى والقيمى فى تجليات الفنون وأوضح تجليات التزاوج بين المادى والقيمى هو فن العمارة، الذى يمثل عملا ماديا يتبلور فيه التقدم التقنى والعلمى وهو فى نفس الوقت محمَّل ويمثل تجسدا للقيم المعنوية التى تمنحه جزء من تفرده بين إبداعات الحضارات المختلفة. وفى حالة مصر بصفة خاصة فإن الدين يمثل المكون الأول لشخصيتها، والدافع الأساسى لإنجازاتها القِيمِية والمادية. ومن المنظور الإسلامي فإن الدين يمثل المرجعية الأساسية لكل مظاهر الحضارة والثقافة، كذلك فإنه الملهم لكثير من تجلياتها، سواء المادية أو القِيمِية، ويمثل ذلك إلتقاء وتوافقا عجيبا بين الشخصية المصرية وبين الإسلام، وبالتالى بين الحضارة المصرية (على امتدادها الزمنى) وبين الحضارة الإسلامية (على اتساعها الجغرافى) أنتج حضارة مصر الإسلامية، أو الحضارة الإسلامية فى مصر.
فقد كان الدين هو الدافع الأكثر بروزا وراء الغالبية العظمى من إنجازات الحضارة المصرية القديمة، والتي يعد الكثير مما وصلنا من منجزاتها شديد الصلة بالدين، فالمومياوات نتاج عقيدة البعث والحساب والخلود، وكذلك بطبيعة الحال المقابر على اختلاف أشكالها وأضخمها الأهرامات كذلك المعابد، والتصوير الجدارى على جدران المعابد والمقابر، كذلك المشغولات العديدة وثيقة الصلة بالأثاث الجنائزي كالتمائم وتماثيل الأوشابتى والأواني الكانوبية والتوابيت .. إلخ، جميعها إنجازات حضارية وثيقة الصلة بالدين.
حضارات الأمم والحضارة الإنسانية العامة:
وسوف يتم تناول الحضارة فى هذا الكتاب وفق فهم يمكن تلخيصه بأن للحضارة مستويان:
أولهما: الحضارة الخاصة بشعب أو أمة، كالشعب المصرى أو الأمة المصرية، أو أمة كبيرة تشمل مجموعة من الشعوب، كالحضارة الإسلامية، أو الحضارة الغربية.
ثانيهما: الحضارة الإنسانية العامة، وهى حضارة الإنسانية جميعها، وهى تمثل مجموع الإنجازات القِمِية والمادية لشعوب العالم، وهى تتحدد من خلال إسهامات شعوب العالم وتحمل شعلتها فى كل عصر وتجر قاطرتها أمة من أمم الأرض تكون فى ذروة دورتها الحضارية. وإن كان الأمر بالنسبة للحضارة الإنسانية العامة كثير التعقيد، فالأمة الحاملة لشعلة الحضارة الإنسانية العامة قد تفرض قيما خاصة بها قد تمثل ارتقاء لقيم الحضارة الإنسانية أو تدهورا لهذه القيم، ولأن الحضارة تشمل شقا قيميا وآخر ماديا فإن التطور قد يزيد فى جانب على حساب الآخر، وقد يسمح بارتقاء القيم الإنسانية العامة وقد يؤدى إلى تدهورها وإعاقة الارتقاء الإنسانى.
وعادة ما يكون الارتقاء فى الجانب المادى أكثر ثباتا، فالاكتشافات والمخترعات والتطبيقات المادية عادة ما تتحرك فى اتجاه واحد قد يبطؤ أو يسرع لكنه فى الغالب لا يتراجع إلا إلى حين.
أما التطور القيمى فأمره يختلف بعض الشئ، فعلى الرغم من أن إرساء قيم معينة راقية يرتقى بالإنسانية، إلا أن الأخذ بهذه القيمة قد يتراجع، وقد تظل القيمة السامية هدفا مطلوبا، لكنها قد تتحول لأداة لتحقيق أهداف قد تتناقض مع هذه القيمة نفسها.
وقد أشار القرآن إلى تفاعل الحضارات الإنسانية ودوره فى ارتقاء الحضارة الإنسانية العامة إشارة معجزة فى الآية الكريمة:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
[ سورة الحجرات، الآية: 19]
فالتعارف المذكور هو الذى يصنع الحضارة الإنسانية العامة.
كذلك فإن الحضارة الإنسانية فى عصر من العصور هى نتاج للخطوات والإبداعات التى قامت بها الحضارات التى سبقت لها الريادة وحمل شعلة التطور والارتقاء الإنسانى، مضافا إليها الإسهامات التى تُقدمها الحضارة الرائدة ذاتها فى العصر المقصود، حيث تقوم كل أمة بجهدها خلال عصور ازدهارها حتى تستنفذ طاقاتها ولا يتبقى لديها ما تضيفه وتعيش على ما حققته فى ماضيها، فتدور دورتها الحضارية ويخبو نجمها، وتقوم أمة أخرى فى بداية دورتها الحضارية وبعزمات جديدة واندفاعة منطلقة بتقديم اسهاماتها وفق خصائصها وشخصيتها المختلفة عن خصائص وشخصيات الأمم الأخرى، فيحدث الثراء الحضارى الإنسانى.
فحضارة اليوم يدخل ضمن مكوناتها إسهامات الإنسان الأول إنسان العصور الحجرية، كما يدخل فيها ابتكار المصرى القديم للكتابة، وتشريعات حمورابى فى العراق، .. حتى نصل لإسهامات الحضارة الإسلامية، القِيمِية والمادية، ولا يمكن تصور المستوى الحضار الإنسانى العام فى عصرنا هذا دون إسهامات الشعوب والأمم فى الماضى.
الحضارة الفرعونية "المصرية القديمة":
تمثل الحضارة الفرعونية واحدة من أعظم الحضارات في التاريخ الإنساني وقد آثرتُ فى العنوان إستخدام لفظ "الفرعونية" لشيوعه وانتشاره وإن كان الأكثر دقة تسميتها بـ "الحضارة المصرية القديمة" كذلك فإن لفظ "الفرعونية" يلقى بظلال على مواضع هامة في نظرة الإسلام إلى هذه الحضارة من خلال تفرقة القرآن بين لفظى "الملك" و"الفرعون" فى قصة يوسف، ومن خلال أوصاف فرعون السيئة فى قصة موسى.
وقد اختار الباحث موضوع هذا الكتاب، الذي يتسم بأهمية خاصة من وجهة نظره، لأنه يتناول الحضارة المصرية القديمة التي تمثل جذورنا الضاربة في القدم والتي شئنا أم أبينا مازالت تصبغ خصائصنا كشعب بصبغات جيدة أحيانا وسيئة أحيانا أخرى. كما يتناول الحضارة الإسلامية التي نعيش في كنفها منذ ما يزيد على ألف وربعمائة عام.
ويزيد من أهمية الموضوع من وجهة نظر الباحث الخلاف الشديد فى الرأي بين معسكرين متضادين أحدهما يقدس الحضارة الفرعونية تقديسا، وينزهها عن كل نقيصة ويفترض لها مالم يكن فيها، على وفرة ما امتلكته من دواعى الفخر.
ومعسكر آخر يناصبها العداء دون مبرر حقيقي، وربما (من جانب) لما
هوية مصر، شخصية مصر، نظرات فى الشخصية المصرية،
كنت قد بدأت منذ سنوات قليلة الكتابةَ فى موضوع : "هوية مصر"، وهو موضوع معقد ومتشابك، وكنت قد انتهيت من معظمه قبل شهر رمضان قبل الماضى، وكان هذا من فضل الله ونعمته، حيث أن المتبقى من هذا الكتاب كان قليلاً، فتمكنت من إتمامه على الرغم من ظروف وضغوط العمل ومشاكله التى لم تقِل ولم تخفتْ منذ ذلك الحين.
كنت أشعر بتضاؤل فرص الفراغ فى هذه الظروف، فسارعتُ لإنهاء كتاب الهوية المصرية، وكانت سعادتى أننى فى عملى كنت أشارك فى تأسيس شئ لمصر، شئ عظيم، كانت الطموحات عظيمة، وكانت رؤيتى واضحة، كانت أن يصبح المكان الذى نؤسسه نداً لنظرائه، وأن نكون كمالكٍ لأكبر وأعظم تراث إنسانى، أن نكون الأقدر على دراسته والقيام بواجبات حفظه، ولم يكن ذلك مجرد أحلام ولكن برامج عمل تنتظر لحظة الانطلاق التى لم تأت، ولذلك فإنه من المناسب القيام بالزراعة فى أرض واعدة عن استمرار الحرث فى البحر.
إن للبناء والعمل أناساً، ولقطف وخطف الثمار آخرين، وبين الاثنين لا تبيد مصر ولا تتقدم.
مصر بلد كثيف السكان، ممتاز الموقع، لا تنقصه الموارد، ذو تاريخ مديد، ومع ذلك فهى فى حالة من "التوقف الحضارى" الذى يجعلها لا تتقدم فتنال مكانة مرموقة بين دول العالم، وفى نفس الوقت لا تفنى أو تندثر أو تبيد كحضارات كثيرة سادت ثم بادت.
إن جزء من تفسير هذه الحالة التى تعانيها مصر من الاستقرار تحت خط التقدم، يرجع إلى خاصية قاتلة فى الشخصية المصرية، فمصر بكثافتها البشرية والتفوق البشرى أيضاً تمتلك مقومات الإنجاز الحضارى الراقى، فمن بين الأعداد الهائلة من المصريين يمكن إفراز أعداد كبيرة من الكفاءات القادرة على تحقيق النهضة والرقى.
لكن هذه الأعداد لا تُستدعى لتعطى مما عندها إلا وقت الكوارث والأزمات، أو على الأقل وقت تحمل الأعباء والمسئوليات، هؤلاء هم أهل الكفاءة أو أهل الخبرة كما كان يطلق عليهم، وهم رصيد مصر الباقى الذى قيضه الله لبقائها.
أما عندما يتخطى الفريق السابق الأزمات أو الكوارث أو الصعوبات، فيأتى دور أهل القربى والمودة، أو الذين كان يطلق عليهم أهل الثقة، فيستمتعون باستقرار الأحوال، وثم
مقياس التقدم
يقول العقاد: "إن الشخصية الإنسانية ترتقى فى الجمال الأخلاقى، كلما ارتقت فى الاستعداد "للتبعة" ومحاسبة النفس على حدود الأخلاق.
وليس للتفاوت فى جمال الخلق مقياس أصدق من هذا المقياس، ولا أعم منه فى جميع الحالات، وفى جميع المقابلات بين الخصال المحمودة، أو بين أصحاب تلك الخصال.
….."إن مقاييس التقدم كثيرة، يقع فيها الاختلاف والاختلال . . فإذا قسنا التقدم بالسعادة فقد تتاح السعادة للحقير، ويحرمها العظيم. وإذا قسناه بالغنى، فقد يغنى الجاهل، ويفتقر العالم. وإذا قسناه بالعلم فقد تعلم الأمم المضمحلة الشائخة، وتجهل الأمم الوثيقة الفتية. إلا مقياساً واحداً، لا يقع فيه الاختلاف والاختلال، وهو مقياس المسئولية واحتمال التبعة. فإنك لا تضاهى بين رجلين، أو أمتين إلا وجدت أن الأفضل منهما هو صاحب النصيب الأوفى من المسئولية. وصاحب القدرة الراجحة على النهوض بتبعاته، والاضطلاع بحقوقه وواجباته ولا اختلاف فى هذا المقياس كلما قست به الفارق بين الطفل القاصر، وا
يإن المأمول من مصر أضخم من المأمول من غيرها، وعظمة مصر تجعلنا نؤمل فيها الخير، وعظمة الإسلام تجعلنا نؤمل الإستفادة القصوى من مكامن الخير فيه.
آلهة مصر المعاصرة
تسريبات من الماضى البعيد:
أخل المصرى المعاصر بالعقيدة الإلهية التى جاء بها الإسلام، وذلك دون أن يدرى، فانتقص منها حينما قصر الألوهية علىى أغراضه النفعية وبالتالى قصر الدين الذى أنزله الله على العبادة والدعاء والزكوات والصدقات طلباً لحياة مُنعَّمة أفضل فى الآخرة، ودفعاً لمصائب الدنيا.
فكما كان المصرى القديم محباً للحياة فى الدنيا وفى العالم الآخر، فكذلك خلفه المعاصر، وهو أمرٌ ليس عليه غبار فى حد ذاته. أما أن يتم قصر الدين على بعض ما أمر به الله الذى أخبرنا أنه لا يستوى لديه من يعلم ومن لا يعلم، ومن يعمل ومن لا يعمل(وسيلى بيان ذلك).
وقد كان المصرى القديم يدفع مصائب الدنيا بالعبادة والدعاء والتمائم والتعاويذ، وهذا هو سلوك المصرى المعاصر، إلا من رحم ربى، ونشهد آية ذلك فى أن الكتاب الذى أنزله الله (القرآن) متضمناً الأمر بالتفكير والعلم والعمل، قد تحول إلى تميمة وتعويذة عند الكثيرين الذين يحتفظون به فى دورهم وسياراتهم وهم ربما لا يعرفون القراءة التى جاء الأمر بها فيه.
إن نظرة سريعة للآيات والعبارات فى دلايات القلائد والمعلقات على جدران البيوت من الداخل والخارج تجعلنا ندرك هذه الحقيقة فلا نكاد نرى آية :"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" إلا فى إعلانات الشركات التى غالباً ما تكون شركات خاسرة، ونادرة أو منعدمة هى الحالات التى يعلق فيها أحدٌ الحديث الذى يخبرنا أن الله يحب إذا عمل أحدنا عملاً ان يتقنه.
وما سبق يدل على انتقائية تعبر عن أننا اخترنا من الدين ما نحب ونحتاج، لا ما يُرضى الله، وبالتالى فقد ضبطن
آلهة مصر المعاصرة
مكمن الخلل فى التدين المصرى
عندما يكون الشعب "متدينا"، والدين دافعاً للنهضة، وتكون النتيجة رغم ذلك هى التخلف، فلا بد من وجود خلل، ووضع اليد على مكمن الخلل يجعل العمل من أجل التغيير إلى الأفضل ممكناً عند توفر الإرادة، حيث أن الإرادة دون فهم تطول معها المدة فى الوصول إلى النجاح إذا وصلت إليه أصلاً.
يرجع جزء كبيرمن المشكلة إلى تدين الشعب المصرى، فمع أن الله واحد أحد إلا أن العموم لهم أكثر من إله، هذا إضافةً لمن جعل إلهه هواه، وهم كثيرون، واتخاذ الهوى إلهاً هو الباب الأوسع للخروج عن الموضوعية والزيغ عن الحق، ولكن آلهة مصر الآن أكثر من مجرد الهوى.
ساحة النقاش