في تأمّل التجربة النقديّة: العيوب والمزايا
فراس حج محمد/ فلسطين
أعتقد أنّ على النقاد أن يتقاعدوا الآن، فلم يعد لهم وظيفة مُقتنع بها، فالكتاب يريدون مُدّاحا ولا يريدون نقاداً، كثير من الكتاب يعتبون عليّ إما لأنني لم أكتب في كتبهم مقالة، أو لأنني انتقدت ما كتبوه، أو لأنني وجدتهم بلا موهبة، ونصحتهم ألا ينشروا كتبهم.
الكتاب بشكل عام- إلا من رحم ربي- نرجسيون جداً، ويظنون أنهم يكتبون ما لا يستطيع فكرنا النقدي أن يقع عليه ليستخرجه من كتاباتهم فنحن قاصرون، وغير موضوعيين، ومنحازون وعديمو الموهبة، أنا لا أدري إلى الآن لماذا الكتّاب هم على هذه الصورة من التقكير السطحي.
الناقد منحاز لقناعاته الشخصية، ولذائقته الأدبية، فالناقد متذوق أدبي شاء الأدباء ذلك أو أبَوْا، يحبون عملا ويكرهون آخر، ورأيهم غير نزيه. هذا مؤكّد، ولكن ما يحركهم للكتابة ليست الأمور الشخصية، كرههم أو حبهم للكتّاب، بل ما يحركهم للكتابة تلك العلاقة التي تنشأ عن قراءة العمل الأدبي؛ حبا أو كرها، نعم، قد تكتب في كتاب لأنك أحببت ما فيه، وأيضا قد تكتب في كتاب كرهته أيضا، لم تكره الكاتب ولم تعاده، ولكنك كرهت الكتابة؛ الأسلوب، طرح الأفكار، اللغة الناتئة، اعوجاج المنطق، وهكذا.
أنا شخصيا أحب الكتب التي أكتب عنها، وكرهت قليلا من الكتب التي كتبت عنها أيضا، وهي قليلة جدا، أنا لا أمدح ولا أقدح كتّابها، ولا أعطيهم ألقاباً لا يستحقونها من وجهة نظري، ولا أرفعهم إلى مستويات من الجودة إلا بحدود معرفتي وعلمي وإمكانياتي وأتجنب على نحو قاطع عبارات محددة؛ فلا أقول إن فلاناً أهم كاتب على وجه الكرة الأرضية أو في فلسطين أو في الصين، ولا أقول أيضا إنه أفضل من كتب في موضوع كذا أو في فن الرواية أو القصة أو الشعر أو نحو ذلك، وأكره كثيرا جملة "قد تفوّق على نفسه". أشعر أن الكاتب يفكر بقتل نفسه ليعجب النقاد. هذه العبارات ومثلها الكثير التي تعبّئ معجم النقاد هذه الأيام تقدح في الكتابة النقدية. إنما أستعيض عن ذلك بوصف العمل الأدبي بطريقة غير مباشرة بالإضاءة على جمالياته دون أن أقول أجاد أو أخفق أو نحج أو فشل، هذه الأفعال ملغاة من قاموسي النقدي.
في بعض صحفنا المحلية أصادف أحيانا مقالات غير ناضجة ملحقة بالكتابة النقدية، إنها كتابة جنينيّة لم تبلغ رشدها الطفليّ بعد، تحتل موقعها من الصفحة الثقافية. لا أعتب على محرر الصفحة، فلا بد من أنه تحكمه بعض العلاقات الإنسانية وبعض الصداقات، فهو ليس ملاكا معصوماً، وربما يحب أن يسدي خدمة تشجيعية، أو لأنه يؤمن بديمقراطية الكتابة، أو لعله يميل مع الهوى. وليس هذا جريمة، إنما على المحررين أن يعلموا أن التاريخ فاضح، وأن القراءة الموضوعية لما سمحوا بنشره لن يعفيهم من مسؤلياتهم عندما يقع حبّهم في طاحونة الدراسات التي ستحاكم كل هذا المنتوج الثقافي. (لم أستطع التخلص من النزعة الفوقية في هذه الفقرة).
في كتاباتي النقدية أحرص دائما على التخلص من ضمير "نحن"، فلا أحبه في الكتابة، لقد سبب لي هذا الضمير عقدة وأنا على مقاعد الدراسة الجامعية، إذ نهرني أحد أساتذتي- رحمه الله- عندما استخدمته في بحث ما؛ تقليدا للكتب التي قرأتها. نهرني كأنني طفل قذر. خجلت من نفسي ساعتئذ وصرت أتجنبه، التزاما باحترام ذاتي ومعرفة حدودها. كما أنني عندما أراجع مقالات لبعض أصدقائي ممن يثقون بي أشير عليهم أن يتخلصوا من تلك الــ "نحن" المضللة. عليهم أن يتواضعوا إلى مرتبة "أنا"، مع أن هذه الأنا ليست برئية من تعالٍ ما. تشعرني بالحرج أحياناً كثيرة.
استطعت التخلص من "نحن"، وضبطتُ إيقاع "أنا"، ولكنني لم أستطع التخلص إلى الآن من "يجب" و"عليهم أن يكونوا"، وهذا مأخذ يأخذه عليّ الأصدقاء والمقربون. الدكتور عادل الأسطة، يرى أن هذا عيبي في الكتابة، ويوافقه بصراحة شديدة الوضوح الصديق حسن عبّادي. الدكتور عادل يمرر هذه المعلومة لحسن ليقولها لي، وأنا أعرفها. لا أستطيع التخلص منها مهما حاولت كما أخبرني الصديق حسن. لماذا؟ لا أدري. ربما لأنني عملت معلماً، وأرى الكتّاب تلاميذَ أمامي. يا للهول! أم أنني بفعل سلطة الإشراف التربوي المعنوية والقانونية أراني مسؤولا عن الكتاب كأنني أقدم لهم إرشادات وتعليمات وتوجيهات وتوصيات عليهم أن يلتزموا بها، كأنهم معلمون خاضعون للتقييم والتقويم والمحاسبة. يا للهول مرة أخرى!
في الحقيقة عقلي مركب على هذا النسق، فالوظيفة التي مارستها لأكثر من ربع قرن وما زلت أمارسها تركت آثارها في شخصيتي، وبفعل ذلك فإن الناقد الذي فيّ يذهب نحو منطقة ليست له، ليمارس دور الوصاية وإعطاء النصائح عن يدٍ وقوة وعلى الآخرين أن ينصاعوا لما أقول. قليلا ما كنت متواضعا في هذه الناحية. لكنّ الوظيفة ليست وحدها هي المسؤولة عن هذا الخلل النقدي في شخصيتي. ربما كان للعمل الحزبي الذي امتد لما يقارب العشرين عاماً في حزب سياسي رديكالي إسلامي، كل شيء فيه منضبط بقاعدة أو بنص له دور أساسيّ في تعميق هذا التوجه، فالتطرف الذي يوصف به الحزب، ترك أثره فيّ وفي كتاباتي بشكل لا يمحى. فكيف له أن يُمحى وقد تشرّبت الأفكار وطريقة تلقيها على مهلٍ حتى صنعتني وشكلتني، لاسيما وأنني لم أكن متلقيا فقط، بل انتقلت إلى دور المسؤول الملقن للأفكار والمحاسب على التقصير. إنها معضلة حقيقية. "فالشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه".
بعد كل تلك السنوات والمؤثرات لا أستطيع أن أتغير. وعلى أيّ حال، لا يستطيع المرء أن يكون غير نفسه، ولكلٍّ منا عيوبه، في الكتابة، وفي النقد، ربما أتى باحث وقيم ما كتبناه، كُتّاباً ونقادا على السواء، دون أن يعرفنا بعد أن تصبح عظامنا مكاحل في قبرها ليرانا بصورة ربما أفضل مما رأينا فيها أنفسنا، فالإنسان أحيانا بفعل التواضع الكاذب يظلم نفسه كثيرا، وكثيرا جدا، وربما وجد كتاباتنا مكرهة ثقافية زالت وانمحت وصارت نسيا منسياً. كل شيء جائز، فلا سلطة تعادل سلطة الزمن فهي الكفيلة بتقييم أعمالنا النقدية والأدبية حق التقييم.