في تأمّل تجربة الكتابة
الجملة الاسمية والترجمة
فراس حج محمد/ فلسطين
قفزت إليّ هذه الفكرة عندما عرضت عليّ مترجمة أن يكون لي ثلاث قصائد في أنتولوجيا للشعر الفلسطيني تعدها باللغة الماليزية، ولأنها لا تتقن اللغة العربية فطلبت مني أن تكون تلك القصائد باللغة الإنجليزية، لتقوم هي بترجمتها إلى اللغة الماليزية، ما يعني لي أن تلك النصوص ستتم عملية اغترابها أو اغتيالها مرتين، مرة باللغة الإنجليزية، ومرة أخرى اغتيال المغتال باللغة الماليزية، ولكنه اغتيال محبب مطلوب. وافقت على طلبها، وأخذت أبحث عن مترجم، لم أوفّق في عملية البحث وبقي المشروع أمنية لم تتحقق، وضاعت عليّ فرصة ثمينة لأكون مقروءا بلغة غير اللغة العربية. لا أعلم أنه قد تُرجم لي قصائد أو نصوص إلى أية لغة أخرى، سوى مقدمة رواية "بطن الحوت" للروائية اللبنانية صونيا عامر التي ترجمت مع الرواية إلى اللغة الإنجليزية.
طرحت عليّ هذه الفكرة مسألة الترجمة وصعوبتها، نظرا إلى أنه ليس كل من يتقن لغة يستطيع الترجمة منها وإليها، عدا ترجمة الشعر، إذاً سأحتاج إلى مترجمٍ حقيقيّ، يفهم لغة الشعر، وانزياحاته، والتعبيرات الثقافية الخاصة باللغة الأمّ، والاستعارات، والإحساس العام باللغة الشعرية.
إن هذه التقنيات الترجمية تفضي إلى تأكيد ما أومن به أشد الإيمان وهو صعوبة ترجمة الشعر، بل استحالة ذلك، فالشعر ليس معنى لجمل وتراكيب فقط. كنت طرحت هذه المسألة في كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية" ولكن دون الخوض في التفاصيل، لأنني باختصار لست مترجماً.
وربما بدت لي الصعوبة مضاعفة فيما يخص ديوان "هي جملة اسمية"، فهو مؤسس على تقنية الكتابة بالجملة الاسمية، متخلصا من الفعل تماماً. وإن استعنت بديلا عن الفعل بالمصادر والمشتقات، فهل يمكن أن تتم ترجمة تلك الأشعار إلى أي لغة ومنها اللغة الإنجليزية مثلا دون الحاجة إلى أفعال؟ ولهذا السبب فقد تجنبت أن تكون أية قصيدة مقترحة لمشروع الترجمة الماليزية من قصائد هذا الديوان.
في الحقيقة لا أدري إن كان بإمكان أحد المترجمين أن ينقل كتابا كاملا خاليا من الأفعال إلى اللغة الإنجليزية أو الماليزية أو أية لغة أخرى دون أن يحتاج إلى أي فعل. لم أستشر مترجما في ذلك، وقررت أن أبحث بطريقة عكسية.
شرعت بقراءة أشعارٍ مترجمة وأخذت ألاحظ صياغة الجمل، ومدى تخلي المترجم عن الفعل. يجب الالتفات هنا إلى أن المترجم قد ترجم دون أن ينظر إلى هذه المسألة، وهي التخلي عن الفعل والاقتصار على الاسم، وإنما كان يترجم النصوص كما توهّم معناها في نفسه. بمعنى آخر لم يكن المترجم يفكّر بما أفكر فيه من تقنية الكتابة بالجملة الاسمية، أو قل تقنية الكتابة بالاسم فقط على أقل تقدير.
قرأت مجموعتين من القصائد، إحداهما مترجمة عن اللغة البولندية، والأخرى مترجمة عن اللغة الإنجليزية، وكنت شديد التتبع لصياغة الجملة لملاحظة خلو تلك القصائد أو بعض المقاطع من الأفعال.
كانت فرحتي كبيرة عندما استطعت رصد مجموعة من المقاطع الكاملة خالية من الأفعال؛ ففي المجموعة الأولى، مجموعة أشعار الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا الحاصلة على جائزة نوبل للأدب عام 1996، وجدت خمسة عشر مقطعا شعريا تخلى فيها المترجم د. هناء عبد الفتاح عن الفعل، وتراوح طول تلك المقاطع بين سطرين وسبعة أسطر، وهي مقاطع كُتبت مستقلة في القصائد التي جاءت فيها، ولم أقم باقتطاعها من بين سطور متتابعة، وفيما يأتي أثبت هذا المقطع المكون من خمسة أسطر شعرية[1]:
لديك سبعون خدمة في الدقيقة
كل خفقة من خفقاتك
ما هي إلا دَفْعة القارب
إلى بحر عميق
في ترحال حول العالم
وبإمكان القارئ العودة إلى الكتاب ويتأمل تلك المقاطع الأخرى، وموجودة في صفحات متعددة[2].
وأما المجموعة الثانية التي كانت من الشعر الإنجليزي فقد فاجأتني هذه القصيدة للشاعر وليم شكسبير بعنوان "إنجلترة"، وتتألف من سبعة عشر سطرا شعريا، وجاءت جمل القصيدة كلها بعد الترجمة جملا اسمية، بالمفهوم النحوي، وقد تخلل تلك الجمل أربعة أفعال فقط، جاءت ضمن السياق. تقول القصيدة[3]:
عرش الملوك الملكي هذا..
هذه الجزيرة ذات الصولجان،
أرض الأسياد هذه
موطن إله الحب
وعدن الأخرى
هذه الشبيهة بالجنة
هذه القلعة التي شيّدتها الطبيعة لنفسها
ضد العدوى، ويد الحرب...
هذا الفصيل السعيد من الرجال
هذا العالم الصغير
هذا الحجر "الصغير" الثمين زرع في البحر الفضي
يقوم فيه مقام الجدار
أو كخندق يحمي بيتنا
من حسد بلدانٍ أقل سعادة
هذه البقعة المباركة...
هذه الأرضُ،
هذه الإنجلترة...
تؤكّد لي هذه القصيدة إمكانية الترجمة بالاستغناء عن الفعل تماماً، فأنا لا أقصد الكتابة بالجملة الاسمية نحويا فقط، بل بجملة اسمية تخلو من الفعل، كما أنني لم أستخدم أية جملة نحوية محسوبة على الجملة الفعلية في عُرف النحاة حتى وإن خلت من الأفعال، وقد بينت ذلك في موقعه في وقفة سابقة، فلا داعي لإعادته. وأكاد أجزم من أنه لو وُضع المترجم تحت هذا الاختبار أو الاختيار، الترجمة بتقنية الاسم فقط، فإنه لن يحتاج إلى الأفعال.
عليّ الاستدراك أخيرا، أن تلك المقاطع المترجمة الخالية من الأفعال التي لاحظتها في المجموعتين الشعريتين السابقتين لم أطلع على قصائدها في لغتها الأصلية لمعرفة إن كانت تعتمد على الأفعال أو تخلو منها، ولذلك تبقى المسألة محل نظر وتفكير وأخذ وردّ، وربما قال قائل: إنّ كل ذلك ليس مهمّا أبدا، فليس هكذا يتمّ الشعر، ولا بهذه التقنيات المتوهّمة تتم الترجمة، وربّما أوافقه على ما سيقول، ليبقى قولي السابق أيضا نوعا من التأمل في لغة الكتابة وتقنياتها، ليس أكثر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] فيسوافا شيمورسكا (شاعرة نوبل 1996)، دراسة واختيار: دوروتا سامولينسكا متولي، ترجمة: د. هناء عبد الفتاح، تقديم: أحمد عبد المعطي حجازي، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، 1996، ص 79.
[2] (85، 87، 94، 102، 115، 122، 123، 127، 141، 188، 199، 204، 230).
[3] تطور القصيدة الإنجليزية، (1600-1950) دراسة نقدية تاريخية وترجمات لأكثر من مائتي قصيدة من عيون الشعر الإنجليزي، تيسير محمد كاملة، مؤسسة الرافد للنشر والتوزيع، لندن، 1998، ص 126-127.
من منشورات موقع صحيفة ليفانت