الفصل الثاني
الخيال : مفاهيمه وأنواعه
مدخل
ذات ليلة، منذ خمسة أعوام، (في العام 2003) رأي كواطن صيني يدعي بنج تسونج، وهو عامل فني بإحدي شركات الإتصالات، في المنام، أنه يحلق في الفضاء الرحب، الأمر الذي منحه شعوراً بالنشوة والسعادة، لم يختبره قط، فصمم علي أن يصنع طائرة ليحقق أحلامه. وعلي مدار خمسة أعوام لم يتوقف هذا الحلم عن مراودته فيما لم يتوقف هو عن محاولاته التي توجت يوم 25 أكتوبر 2008 بتمكنه من صنع طائرة مروحية صغيرة حلق بها فعلياً لمسافة خمسة كيلومترات علي إرتفاع 320 متراً. وقد أنفق يونج في تحويل حلمه إلي واقع كل ما يملكه من مدخرات بلغت قيمتها 150 ألف يوان (نحو 22 ألف دولار أمريكي). غير أن سعادته الحقيقية أكتملت بموافقة اللجنة المنظمة لمعرض الصين الدولي السابع للطيران والفضاء الذي أفتتح يوم الرابع من شهر نوفمبر 2008 في مدينة توشهاي جنوب الصين- علي عرض طائرته أعترافاً بعبقريته وتقديراً لجهوده وإعجاباً بإصراره فما أجمل الأحلام؟! وما أروع الخيال!
تستطيع الصقور أن تحدد موضع فأر علي بعد خمسين ياردة، وتستطيع القطط أن تري بدقة في الظلام، وتستطيع بعض الحشرات- مثل النحل- إدراك الأشعة فوق الحمراء التي لا يدركها الإنسان، وقد يستطيع الحمام أن يدرك الألوان التي لا يدركها الإنسان، لكن هذا الإنسان- وحده- هو الذي يتميز بعينين لهما مزايا متنوعة ومتعددة، فمن خلالهما يستطيع أن يدرك العمق، وأن يميز بين الألوان، وأن يتكيف مع العتمة والضوء، وأن يدرك البعيد والقريب بدقة واضحة. وإذا كانت عيون بعض الحيوانات هي الأفضل في الغابة، فإن عين الإنسان هي الأفضل من بين كل العيون، فمع تطوره وإرتقائه أستطاع الإنسان أن يصحح عيوب عينيه، وأن يعالج أمراضهما وأن يزودهما بعدسات لتصحيح الرؤية (قصر النظر، وبعد النظر، وغيرهما) ثم إنه أبتكر أيضاً التليسكوب والميكروسكوب وأجهزة أشعة أكس، وتلك الخاصة بالأشعة تحت الحمراء، وقد جعلته هذه الأبتكارات يمتد بمجال رؤيته وقوتها إلي عوالم لم يكن يتخيلها من قبل.
إضافة إلي التطور الكبير الذي حدث في مهارات الإنسان اليدوية، فإستطاعت يده أن تمسك الأشياء وتقبض عليها وتعالجها وتصنع الأشياء المساعدة لها في التكيف، مع وجود هذه العين القادرة علي الرؤية الكلية والبعيدة، فإن الإنسان أمتلك أيضاً قوة عظيمة أخري، قوة تقوم بالتآزر والتكامل بين اليد والعين; ألا وهي قوة المخ المتخصص ما بين نصف أيمن مكاني يهتم بالصور والخيال، وايسر زماني يهتم باللغة والمنطق، مع التأكيد علي التكامل بين عمليات هذين النصفين أيضاً.
لم يكن العدو الأكبر للإنسان- كما يقول ليوناردو شلين- الضواري في الغابة، ولا الأسود أو النمور أو الفهود، بل كان هو ذلك القاتل الغريب الخفي; الجاذبية الأرضية لم يزوَّد الإنسان بأجنحة تمكنه من الطيران، بل بعقل مكنه من القيام بالتآزر السريع والمناسب بين اليد والعين خلال كثير من أنشطته، ومكنه أيضاً من أختراع أدوات والآت وأجهزة كثيرة ساعدته في مقاومة الجاذبية أو علي الأقل التكيف معها.
ومداخل هذا العقل هنا هي: أ- إدراك نشيط يمكنه من ملاحظة الأشياء القريبة والبعيدة، المتحركة والساكنة، بألوانها وأحجامها وسرعاتها....إلخ. ب- ذاكرة أختزنت عبر السنين غريزة الخوف من السقوط إلي أسفل وطورت آليات لمواجهته. ج- تآزر حركي ينمو تدريجياً عبر العمر ويمكنه من الجلوس والوقوف والمشي. د- خيال نشط فعال يمكنه من الحركة الحرة بين الزمان والمكان.
في كوابيس الإنسان هناك ذلك الخوف المتكرر من السقوط إلي أسفل، السقوط من قمة عالية إلي هاوية عميقة، وفي يقظة بعضنا هناك ذلك الخوف المرضي من الأماكن المرتفعة، حيث يندفع الأدرينالين بقوة في دمائنا عندما نشعر بخطر السقوط، بالمعني الحرفي المادي لهذه الكلمة، وبالمعني المجازي أيضاً، وهكذا يُعاقَب السقوط في كل الديانات، كما يعاقب غير الناجحين في الأمتحانات أو الإنتخابات أو المباريات أو المنافسات...إلخ، بطرائق عدة، وهناك كذلك تلك القصص الدينية المعروفة عن هبوط آدم من الجنة، وعن طرد الشيطان من السماء إلي الأرض. وفي الميثولوجيا الإغريقية أساطير كثيرة متكررة تتحدث عن الفكرة نفسها; ففي أسطورة أوديب، كان أبو الهول يعاقب العاجزين عن حل اللغز بأن يلقي بهم من فوق جرف (منحدر صخري شاهق)، كذلك كانت المياه تصعد إلي شفتي تانتالوس المحكوم عليه بالعطش الأبدي، ثم تغيص وتهبط قبل أن يتمكن من رشف قطرة واحدة منها، كما أن إيكاروس عندما أقترب أكثر فأكثر من الشمس أذابت أشعتها الشمع الذي كان يربط جناحيه معاً، فسقط من حالق ولقي حتفه. كذلك لحق المصير نفسه "بفايتون" phaeton لأنه حاول أن يغتصب عربة الشمس الذي تخص والده، وحدث أمر مماثل لعباس بن فرناس في التراث العربي والإسلامي.
وقبل الإكتشافات الجغرافية لم يكن الغرق هو العدو الأطبر للبحارة، بل السقوط أو الوقوع أو الغياب، أو أن يضل المرء طريقه عن تلك الحافة أو النهاية الممتدة المسطحة الغامضة للعالم، أو ما سمي بحر الظلمات.
كذلك كان هناك الحديث المتكرر عن العالم السفلي، "هادس" عند الأغريق، وعالم الجحيم والظلممة الغامض تحت الأرض (عالم الظلام) وفي الأساطير المصرية القديمة الخاصة بإيزيس وأوزوريس، وكذلك الأساطير الفينيقية الخاصة بأدونيس هناك أفكار متشابهة متكررة.
كثيراً ما أعجب البشر أيضاً بكل ما هو عكس السقوط، بالقيام والنهوض والتعامد بالحركة إلي أعلي والطيران، بكل ما يناقض الجاذبية ويتصاد معها، بالنار المتأججة الصاعدة، بالنجوم العالية في السماء، بكل ما هو أعلي، بالنجاح، المتفائل المتمسك بالأمل، بمن ينظر إليه في علوه ومجده، ويتم التوحد معه، علي خشبة المسرح أو عند القمة، أياً كانت هذه القمة، أدبية أو فنية أو إجتماعية أو سياسية أو مادية...إلخ.
هكذا تكررت أفكار الهبوط والصعود بدلالات ومعانٍ متنوعة عبر التاريخ وعبر الثقافات الإنسانية، عبر الفنون والآداب، وعبر العلم، وعبر كثير من الأنشطة الإنسانية، ومن ثم كان ولع نيوتن الكبير أيضاً بالتفاح المتساقط والقمر الذي لا يسقط، وكان ولع سيزان أيضاً بالتفاح غير المتساقط الذي يوشك علي السقوط، وهكذا كانت الجاذبية محاطة بالغموض والسرية، هكذا تساءل الإغريق عمن يمسك العالم قائماً، وهكذا، أعتقدوا من خلال أساطيرهم أن العالم يقف أو يستند إلي أكتاف أطلس Atlas الكبيرة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقدموا إجابة مقنعة للتساؤل القائل: وإلي من يستند أطلس نفسه؟ وهكذا كانت كل التفسيرات القديمة حول الجاذبية تقدم من خلال إطار سحري وسياق أسطوري يفتقر إلي التعليل العلمي السليم، وكان طاليس هو أول من حاول أن يقدم تفسيراً مادياً لهذه الظاهرة حين قال إن النجوم هي كرات عملاقة من النار معلقة في الفضاء الفارغ أو الخالي، لقد قال ذلك خلال القرن السادس قبل الميلاد وقد أتهم بأن أفكاره لا معقولة وغير مقبولة وغريبة، مع أنه كان يعيش في سياق إجتماعي وثقافي كان يمجد الأساطير والخرافات.
طالما أرتبط الخيال هكذا، بالحركة، لا بالسكون، بحركة رفرفة أجنحة الطيور وصعود بروميثيوس إلي الشمس، والحصان المجنح بيجاسوس "مكر مفر مقبل مدبر معاً"، بحركته السريعة علي الأرض وطيرانه الخاطف في السماء وهبوطه السريع منها، "كجلمود صخر حطه السيل من علٍ"، إذا أستعرنا لغة أمرئ القيس.
حركة النفس من الأدني إلي الأعلي، وبالعكس، عند أفلوطين وعند ابن عربي وغيرهما، والحركة في السينما وفي القرن التشكيلي، والحركة في المسرح، الحركة التي هي بركة، حركة الخيل التي معقود في نواصيلها الخير كما جاء في الحديث الشريف، وحركة الخيال التي تقف وراء كل ما وصلت إليه البشرية من تقدم وكذلك وراء حركة الشعوب وهي تتحرر من المحتلين والطغاة.
الحركة من حالة إلي حالة. والحركة كما تصورها أينشتين وهو يصعد ضوء الشمس، أو كما تصورها موتسارت وهو يقطف الألحان من الهواء، والحركة كفكرة محورية في الخيال عامة. وفي الخيال العلمي هناك الحركة بين الكواكب وعبر الزمان، وعبر المكان والحركة، في الخيال العلمي، عبور من حالة إلي حالة في الطقوس واللعب والأدب والفن، حركة الطفل وهو يكافح لينمو بجسمه يتكئ علي المقاعد والجدران ويستند إليها حتي يصبح إنساناً كبيراً مبدعاً.
ومفهوم الحركة والرحلة مفهوم محوري – كذلك- في قصص ألف ليلة وليلة، وفي "جغرافيا الوهم"، عند القزويني وغيره، وفي الواقعية السحرية عند ماركيز وبورخيس وغيرهما، والحركة في نارنيا، رواية س. د. لويس الشهيرة التي تحولت حديثاً إلي عدد من الأفلام الممتعة، وكما هي الحال أيضاً في أعمال مثل هاري بوتر من تأليف: ج. ك. رولنج و"سيد الخواتم" من تأليف: توكين، وغيرهما.
يقول المفكر الفرنسي الشهير جاستون باشلار في كتابه "الهواء والأحلام، مقال حول خيال الحركة"، وقد صدرت طبعته الولي بالفرنسية العام 1943، وصدرت طبعته الإنجليزية العام 1983، وصدرت طبعة أخري العام 2002، هي التي نعتمد عليها هنا، يقول: "عندما نفحص حلم الطيران، سنجد شواهد عدة علي أن علم نفس الخيال لا يمكنه أن يتطور بإستخدام أشكال وصور سكونية جامدة. إنه يجب أن يقوم علي اشكال تكون في حالة تحول دائم. وإن أهمية كبيرة ينبغي أن تعطي لمبادئ التحول deforbation الخاصة بالأشكال في هذا المجال". ويشير باشلار إلي محاولاته السابقة الخاصة بقراءة أحلام اليقظة لدي الكتاب عامة، والشعراء خاصة، من خلال التركيز علي الصور المهيمنة لدي كل منهم، وقد أهتم في بعض كتبه السابقة بعناصر الماء والتراب والنار، وربطها بصور أحلام اليقظة لدي الشعراء، ثم أهتم بشكل خاص في كتابه "الهواء والأحلام" بموضوع الطيران، وبذلك يكتمل تنظيره حول الوجود الخاص للعناصر الأربعة: الماء والهواء والنار والتراب التي فسر الفلاسفة الإغريق ذوو النزعة المادية العالم والحياة من خلالها، وهي الفكرة التي طورها يونج كذلك في مجال التحليل النفسي، وتابعه في ذلك ولكن في مجال النقد الأدبي والثقافي جاستون باشلار الفرنسي، ونورثروب فراي الكندي علي نحو خاص.
علي كل حال، لنعد إلي أحلام الطيران، لقد فسر فرويد هذه الأحلام عندما تحدث ليلاً وهو يحلل حالة ليوناردو دافنشي تفسيراً جنسياً،، وربطها يونج بدوافع التفوق والطموح والإنجاز الموجودة في اللاوعي الجمعي الإنساني، أما باشلار فأعتبر حلم الطيران الحلم القادر علي الكشف عن الطبيعة الموجهة للروح الإنسانية. وقال إن مبرره في قوله هذا إنما يتكئ علي ما يعتقده من أن الحركة المتخيلة الموجودة في مثل هذه الأحلام، إنما تعبر عن جوهر داخلي خاص مميز للطبيعة الإنسانية، جوهر يكتشفه البعض علي المستوي الفردي أو الجماعي ويطورونه فيحرزون التطور والتقدم، في حين يعجز البعض الآخر عن ذلك فيبوءون بالخذلان والتخلف.
يكون حلم الطيران، في ضوء ما يري باشلار أيضاً، خاضعاً لجدل أو تفاعل دينامي دائم ما بين الخفة والثقل، ومن ثم يمكن تقسيم أحلام الطيران هنا إلي: حالات الطيران الخفيف، وحالات الطيران الثقيل، وحول هذين النوعين تتجمع كل مشاعر وإنفعالات البهجة والأسي، الشعور بالحركة الحرة والشعور بالوهن، المشاعر الإيجابية والمشاعر السلبية، الأمل والقنوط، الخير والشر....إلخ، وإنه من الممكن أن تترك هذه الخبرة التنبئية الخاصة بالطيران تأثيراً عميقاً في وعينا، وهي خبرة شائعة في الشعر وأحلام اليقظة أيضاً، وفي الفن عموماً. وفي أحلام يقظتنا، تكون أحلام الطيران متكئة بدرجة مطلقة علي الصور البصرية. وقد قدمت كل الصور الخاصة بالكائنات الطائرة في أحلام الإنسان وأساطيره وآدابه وفنونه طرائق للكشف عن الرموز القارَّة في أعماق النفس البشرية.
يعتمد الشعر علي الصور والإستعارات، و "كل إستعارة هي أسطورة مصغرة" كما قال باشلار، والأسطورة قد تكون عامة، وقد تكون خاصة أيضاً، فبعض الأشخاص أشبه بالأساطير.
وهناك متعة حسية خفية تكون موجودة في كثير من القصائد والأحلام المتعلقة بالطيران، فالإنطباع الدينامي الخاص بالخفة أو الثقل يذهب كثيراً إلي ما هو أعمق من ذلك الإحساس العابر الذي يكون موجوداً عندما نقرأ قصيدة أو نسمعها، أو نحلم حلم يقظة مرتبطاً بالطيران، فهذه الأحلام تحمل معها خلال النهار، ذلك الطابع الخاص الذي تكون .... سألت ذات مرة صديقي الشاعر المصري محمد سليمان أن يعرف الشعر، فقال: في كلمة واحدة هو "التحليق"، وسوف تتردد أصداء كثير مما قاله "باشلار" هنا في كتابات أخري، كتلك الأعمال الروائية التي كتبها الروائي التشكيلي ميلان كونديرا، وكانت بعناوين لافتة مثل "خفة الكائن التي لا تحتمل البطء"، وغيرها.
وقد قال باشلار كذلك في كتابه هذا عن الهواء والأحلام إنه حاول من خلاله أن يؤسس ما يسمي ب "علم نفس الصعود"، وإن هذا العلم ينبغي أن يبحث ويسعي وراء الجماليات العليا المرتبطة بالطيران، والتي ستكون لها قيمتها الجمالية بالنسبة إلي كل ما يتعلق بأحلام الطيران والمجاز والخيال والفن والحياة بشكل عام، لكنه قال أيضاَ إن هذا العلم ينبغي أن يتكئ أيضاً علي ما قدمته التحليلات المتعددة لأحلام الليل، وخصوصاً تلك التي أهتمت بالبنية السطحية (الشكل) والبنية العميقة لها (الصورة)، وحاولت كذلك أن ترتبط بينها وبين أبعاد أخري عدة في حياة الإنسان بشكل عام، والإشارة هنا واضحة إلي فرويد، ويونج بشكل خاص.
علي كل حال، عالج باشلار في كتابه هذا موضوعات عادة مرتبطة بأحلام الطيران، ومنها: جماليات الأجنحة، والريح والصعود والهبوط، والإنسان الأعلي (السوبرمان) لدي نيتشه، والسماء والسحب والرحالات المتخيلة، والحركة والسكون، وغيرها، إضافة إلي تحليله لأساطير عدة أيضاً، وكذلك تطبيق هذه الموضوعات في مجالات الأدب والفلسفة والسينما وغيرها.
أما موضع أهتمامنا بذكر هذا الكتاب ببعض التفصيل هنا فهو تلك الإشارات اللافتة التي وردت فيه حول موضوع الخيال والحركة، وحول ما سماه باشلار "الخيال الدينامي" أو "الحركي"، والذي أعتبره يشكل إدراكنا للواقع، أو هكذا ينبغي أن يكون، وأيضاً ذلك التأكيد المتكرر- لديه- أن خبراتنا بالعالم ينبغي ألا تتحكم في خيالنا، ولكن خيالنا هو الذي ينبغي أن يتحكم في العالم، وهي رؤية متفائلة وإيجابية تتفق مع إقتناعات مؤلف الكتاب الحالي إلي حد كبير.
يفرح الأطفال بالطائرات الورقية التي يصنعونها ويطيرونها وهم يلعبون ويمرحون ويحدقون في السماء ويحلمون بالمستقبل، كذلك كان ليوناردو دافنشي يحلم بالطيران والطيور، وحاول صنع نموذج مبكر للطائرة، وقد فسر فرويد أحلام الطيران تفسيرات جنسية- كما ذكرنا آنفاً- وفسرها يونج علي أنها ترتبط بالطموح والرغبة في معانقة المستحيل، أما نحن فنربطها بالخيال، في جميع تجلياته العلمية والفنية والأدبية والإنسانية عامة، حلم الطيران حلم مستقبلي، وكذلك الخيال موجود في أعماق المستقبل.
وقد صور الفراعنة القدماء البط الطائر في لوحات عديدة، وصور الصينيون التنانين الطائرة، وصور حضارات أخري في الغرب والشرق البط والأوز والثعالب والخيول وغيرها من الطيور والحيوانات والوحوش والكائنات البرية والبحرية وهي تطير، وصور فنانون كثيرون حالة الطيران في أعمالهم، فوجدنا فان جوخ مثلاً يرسم لوحة في العام 1885 بعنوان "الثعلب الطائر"، والثعلب في تلك اللوحة ليس الثعلب الذي نعرفه، لكنه نوع من الخفافيش التي تعيش في المناطق المدارية التي تقع فيما بين أفريقيا وجنوب الباسفيكي، والفلبين، وهناك عموماً نحو سبعين نوعاً من الخفافيش، وهي حيوانات ثديية تعيش في الخرائب والأماكن المظلمة وتنشط ليلاً، وقد أرتبطت في الأساطير وفي بعض الأعمال الروائية والسينمائية مثل دراكيولا بأمتصاص الدماء، وقد ساهمت الدراسات التي أجريت عليها في التقدم الطبي ومن ذلك مثلاً ما حدث من تطوير لأدوات الحركة والتجوال لمساعدة من فقدوا عملية الإبصار وقد نتج هذا التطوير في ضوء الدراسة الخاصة لتلك الذبذبات التي تصدرها هذه الخفافيش.
كذلك رسم "مارك شاجال" لوحة بعنوان "الحصان الطائر"، وهو حصان أقرب إلي شكل الديك بعرفة المشهورة، يحمل بشراً، كباراً وصغاراً وبألوان جذابة، وأمتدت فكرة الطيران إلي الفن التجريدي والتكعيبي والمستقبلي أيضاً فوجدنا الرسام الروسي "كازيمير ماليفتش "يرسم لوحة عن الطائرة وليس فيها طائرة بل مجموعة من المستطيلات والمربعات الصفراء وبنية اللون والزرقاء التي تبدو وكأنها تطير في الفراغ ورسم فنانون آخرون لوحات تصور الحالة الداخلية المصاحبة للطيران، من خلال حركات وضربات لونية تماثل حركة أجنحة الطيور وهي تخفق وترفرف بسرعة فائقة، ومن ذلك مثلاً ما قدمه الفنان المصري أحمد فؤاد سليم في أحد معارضه الأخيرة، وهناك لوحات فوتوغرافية وأخري مختلفة بالكمبيوتر لدي فنانين كثيرين عبر العالم والتاريخ تصور بشراً وطيوراً وبنايات وجزراً وحيوانات وملائكة ونباتات وغيرها تحلق وترفرف وتصعد وتستمتع بالطيران، بالحركة الحرة للخيال وهو يرفرف بأجنحته في فضاءات المتعة والحرية.
نحو معني أكثر تحديداً للخيال
حلقنا قليلاً في الصفحات السابقة حول الخيال، لنكن الآن أكثر تحديداً ونعرف هذا الخيال ذاته، ونبدأ ذلك بمحاولة تلمس معني الخيال في اللغة العربية.
هناك معان كثيرة للخيال، ومن معاني الخيال في العربية مثلاً: الظن، والظل، والسحابة توشك أن تمطر، والخشبة التي يوضع عليها شئ كالثياب لإبعاد الطيور وطردها بعيداً من الحقول. هكذا جاء في لسان العرب: خالَ الشئَ يَخالُ خَيْلا وخِيْلة وخالا وخِيَلا وخَيَلانا ومَخالة ومَخِيلة وخَيْلُولة: ظَنَّه، وفي المثل: من يَسْمَعْ يَخَلْ، أَي يظن، والخيال خيال الطائر يرتفع في السماء فينظر إلي ظِلِّ نفسه فيري أَنه صَيْدٌ فيَنْقَضٌ عليه ولا يجد شيئاً، وهو خاطف ظِلِّه. وخَيَّل فيه الخير وتَخَيَّله: ظَنَّه وتفرَّسه. وخَيَّل عليه: شَبَّه. وأّخالَ الشئُ: اشتبه. يقال: هذا الأّمر لا يُخِيل علي أَحد أَي لا يُشْكِل. وشئٌ مُخِيل أَي مُشْكِل. والسحابة المُخَيٌل والمُخِيلة: التي إِذا رأَيتها حَسبْتها ماطرة، وأَخْيَلَتِ السماءُ وخَيَّلَتْ وتَخَيَّلَتْ: تهيَّأَت للمطر فرَعَدَتْ وبَرَقَتْ، فاِذا وقع المطر ذهب أسم التَّخَيٌل. فالخيال هنا يرتبط بالأحتمال أكثر من إرتباطه بالحدوث الفعلي و "تَخَيَّلَتِ السماءُ أَي تَغَيَّمَت. والخيال والخيالة الشخص والطَّيْف. ورأَيت خَياله خَيالته أَي شخصه وطلَعْته والخيال لكل شئ تراه كالظَّل، وكذلك خَيال الإِنسان في المِرآة، وخَياله في المنام صورة تِماثله، وربما مَرَّ بك الشئ شبه الظل فهو خَيال، الخيال قد يعني الصورة الدالة علي صاحبها وكذلك الظل الدال علي صاحبه شخصاً كان أم نباتاً أو إنساناً....إلخ. وكثيراً ما لا يتم التمييز بين الخيال والتوهم.
هكذا جاء في لسان العرب ايضاً أن الوهم: من خَطَراتِ القلب، والجمع أَوْهامٌ، وللقلب وَهْمُ. وتَوَهَّمَ الشئَ: تخيَّله وتمثَّلَه، كان في الوجود أو لم يكن. وقال: تَوهَّمْتُ الشئَ وتفَرسْتُه وتَوسَّمْتُه وتَبَيَّنْتُه بمعني واحد; وكما قال الشاعر: فَلأْيا عَرَفْتُ الدار بعدَ تَوهٌمِ ويقال: تَوَهَّمْت فيَّ كذا وكذا. وأَوْهَمْت الشئ إذا أَغفَلْته. ويقال: وَهِمْتُ في كذا وكذا أي غلِطْتُ. ووَهَمَ في الصلاة وَهْما ووهِمَ، كلاهما: سَهَا.
هكذا يكون الخيال، إما إعادة لصورة الشئ ذاتها، وإما إعادة لصورة أخري شبيهة أو قريبة الشبه بالشئ الأصلي. وبهذا المعني الخيال يتعلق بالتشابه والتشبيه والمحاكاة، وأحياناً ما يتم التمييز بين التخيل والتوهم إذ قد يرتبط التوهم بالإدراك لشئ موجود وتم إدراكه علي غير حقيقته، أو لشئ غير موجود يتوقع وجوده أو ظهوره، أما الخيال فهو نوع من الإدراك العقلي لصور الأشياء الغائبة ونوع من التحكم فيها أيضاً.
لدي العرب إرتبط الطيف والخيال معاً في مجال أسطوري، ونستطيع أن نقول "إن الطيف كان صورة مرئية أو شبه مرئية لما يدور في خيال البدائي. وإذا كان هذا الخيال عملية عقلية فهو قد أخذ شكلاً مادياً تيراءي شبحاً أو طيفاً أو حتي خيالاً، الطيف والخيال"، وأحياناً ما إرتبط معني الطيف بمعني الشبح فصارا شيئاً واحد كما في قول مهيار:
وإبعثوا أشباحكم في في الكري إن أذنتم لجفوني أن تناما
هكذا كان الطيف صورة مرئية أو شبه مرئية لما يدور في الخيال.
ومن تلخيصه لمعاني الطيف والخيال في المعجم العربي يطرح حسن البنا عز الدين افكاراً مهمة منها: إرتباط الطيف بالليل والخيال باليقظة والمثال وإرتباط الطيف بالجنون والشيطان والغضب، كما يقرب معني الخيال المرتبط بالطيف في الشعر من معني ملكة الخيال التي من خلالها يتصور المر الأشياء ويتذكرها ويستدعيها في نومه ويقظته". هكذا يكون الطيف تكأة تستدعي أو مادة حفازة مثيرة للتخيل أو صورة خيالية أو واقعية تحضر لكي تنشط ملكة الخيال، وهذه الملكة تقوم هنا فيما نري بشكل عام بوظيفة إستحضارية ترتبط بالذاكرة أكثر من قيامها بوظيفة تجريدية تحويلية ترتبط بالإبداع.
يري الشاعر العربي المشهور أبو القاسم الشابي أن الخيال "ضروري للإنسان، لابد منه كالنور والهواء والماء والسماء.... ضروري لروح الإنسان ولقلبه ولعقله ولشعوره، مادامت الحياة حياة والإنسان إنساناً"، ويري كذلك أن هذا شاعر بطبعه، في جبلته يكمن الشعر، وفي روحه يترنم البيان وأن الخيال الشعري وسيلته إذا ما جاش قلبه بالمعاني وواجهته خطوب الحياة، وربما بسبب تعقيد هذا الموضوع وغموضه كان ذلك الإختلاط في المفاهيم.
هكذا يشير "علي آيت أوشان" إلي أن المتأمل في كيفية المفاهيم الآتية في الفكر الفلسفي العربي "المخيلة والخيال والتخيل والتخييل والمتخيل والمخيلات"، يلاحظ أن حقلها الدلالي ملتبس ما يدعو إلي الحفر الفلسفي للتثبيت من حقيقتها والتدقيق في كيفية تداولها للتمييز بينها.
التوهم:
ويرتبط التوهم في العربية كذلك بالسهو والغلط، وفيه معاني الغفلة والضعف والتعتيم والضيعة وقابلية إرتسام الصورة في الماء أو غيره، ومن معانيه الغطاء والعلامة والبروز، وأوهمت الشئ: إذا أغفلته، وربما تجاوز ذلك إلي إبداع صورة جديدة ليس لها أصل في الواقع، وقد إستعمل العرب المعني الأول، أي إعادة ما سقط، في صعوبة التعرف علي الديار الدارسة، وصعوبة التذكر له بعد الوقوع في حالة الشك والإرتباك ما بين إدراك الشئ وتعرفه أو تذكره وعدم الإدراك له أو تذكره كقول أمرئ القيس: "فلأيا عرفت الدار بعد توهم" أو قول عنترة: "أم هل عرفت الدار بعد توهم". والتوهم هنا يدل علي إستعادة الصورة بعدما تعفت كلها. أما المعني الثاني: إي إبداع صورة جديدة، فقد يدل عليه قولهم: "وتوهم الشئ تخيله وتمثله، كان في الوجود أم لم يكن" ولما كان التوهم من معني الصورة فهو محدود.
وقد ذكر الجاحظ في "كتاب الحيوان" ما قاله أبو إسحاق من أن: أصل هذا الأمر وإبتداءه، أن القوم لما نزلوا بلاد الوحش، عملت فيهم الوحشة، ومن إنفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد من الإنس أستوحش، ولا سيما مع قلة الأشغال والمذاكرين، والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمني أو التفكير، والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة... وإذا أستوحش الإنسان تمثل له الشئ الصغير في صورة الكبير، وإرتاب، وتفرق ذهنه، وإنتقصت أخلاطه، فرأي ما لا يري، وسمع ما لا يسمع وتوهم علي الشئ اليسير الحقير، أنه عظيم جليل. ثم جعلوا ما تصوَّر لهم من ذلك شعراً تناشدوه، وأحاديث توارثوها فإزدادوا بذلك إيماناً، ونشأ عليه الناشئ وربي به الطفل، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشَّمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس فعند أول وحشة وفزعة وعند صياح بوم ومجاوبة صدي، وقد رأي كل باطل وتوهم كل زور، وربما كان في اصل الخلق والطبيعة كذاباً نفاجا، وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر علي وفق هذه الصفة، فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان وكلمت السعلاة ثم يتجاوز ذلك إلي أن يقول: قتلها، ثم يتجاوز ذلك إلي أن يقول: رافقها، ثم يتجاوز ذلك إلي أن يقول: تزوجها.
ومثلما قال أرسطو بوجود الإحساس والخيال لدي الحيوانات وعدم وجود العقل لديها فكذلك فعل إبن سينا، فالحيوانات تبدو، كما قال، وكأنها قادرة علي التعرف علي الموضوعات الموجودة في عالمها من دون أن تكون قادرة علي تكوين تصورات عقلية أو مفاهيم حولها، وهي تتحرك في ضوء ما يضعه خيالها في أرواحها لكنها لا تستطيع أن تتأمل مسار أفعالها وأسبابه.
وهكذا فإن الشاة رغم أنه لا يكون لديها تصور عقلي عن الذئب، فإنها تشعر داخلياً بالخطر في حضور الإحساسات الخارجية المتعلقة بالذئب، حتي لو لم يظهر الذئب فعلاً، بل ظهر ما يدل عليه مثل صوته أو رائحته، وتتصرف الحيوانات في ضوء هذه الإحساسات والكلمة العربية المتعلقة بالإحساس الداخلي هي "الوهم" ويقال إن إبن سينا ربما إستمدها من بعض الكتابات الرواقية خصوصاً ما يتعلق منها بفكرة الدلالة التي تشير إلي معني كلمة ما أو إفتراض أو فكرة ما والذي يتميز عن صوت النطق الخاص بها، هكذا يرتبط الوهم بالمعني، المعني الداخلي لدي الشاة والذي يربط الذئب بالخطر.
لكن مفهوم الوهم لدي إبن سينا يتضمن أيضاً في تأويله لإحساسات الداخلية مكوناً خاصاً بالحكم الإنفعالي، ومكوناً خاصاً بالحكم العقلي أيضاً وهناك أيضاً من ربط بين هذا المفهوم لدي إبن سينا ومفهوم الغريزة لدي ارسطو، أما في الموضوعات والقواميس العربية فكما في لسان العرب مثلاً يشير مصطلح الوهم إما إلي الخيال (بمعني التخيل) أو إلي الرأي والإعتقاد (بمعني الظن).
وللخيال في تصور إبن سينا دور محدد يتمثل في "حفظ صور المحسوسات التي إذا ما غابت عن الحس بقيت في الخيال أو المصورة، ومن ثم فإن الخيال هنا مستودع أو خزانة للصور الحسية الغائبة، أما التخيل فهو القوة الوهمية التي تدرك الصور المؤلفة في القوة المتخيلة مجموعة من المعاني الجزئية، والخيال لدي إبن سينا يأتي في مرتبة أقل من التخيل أو الوهم.
كذلك يرتبط مفهوم الوهم عند إبن سينا بالذاكرة الخاصة بالخبرات السابقة، وحيث يتلقي الخيال الإحساسات السارة أو المؤلمة المرتبطة بالشكل المحسوس أو الحسي، ويحفظ نسخة مطبوعة أو إنطباعاً خاصاً بالشكل منها ثم تحفظ الذاكرة الإرتباطات الجيدة أو السيئة المرتبطة بها في الشكل الحسي الخاص بها، وهكذا فإنه عندما يظهر هذا الشكل مرة أخري أمام الخيال من الخارج فإنه يستثير هذا الخيال ويحركه معه أيضاً الفكرة الخيرة أو الشريرة الممتعة أو المؤلمة الجيدة أو السيئة المرتبطة بهذا الشكل أو هذا الشئ.
وعبر تطور هذا المفهوم أو هذا التمييز بين مستويات أو درجات للخيال حدث نوع من العكس أو القلب للتمييز بينهما.
كانت كلمة فانتازيا الإغريقية القديمة توحي بالإبداع واللعب العقلي، مع تضمين محتمل، يتعلق بها، خاص بالوهم أو الخداع الحسي. أما مصطلح الخيال imagination من الكلمة اللاتينية imagination، فله – علي العكس من ذلك- صلابة رومانية مستمدة من الكلمة الأصلية image، والتي تشير إلي مفهوم عقلي يماثل في طبيعته الصورة البصرية الخارجية. وقد كان هذا المصطلح وثيق الصلة بمفهوم المحاكاة، ويجمل معني الصدق والدقة أيضاً.
ولأن "الفانتازيا" كمصطلح كانت توحي بحرية أكبر للعقل، سواء بالنسبة إلي الإستبصار الإبداعي أو الإدراك أو الخداع الإدراكي illusion (الإيهام)، فإن كلمة توهم fancy بدأت تحيط بها الشكوك وعدم الثقة من خلال النزعة العقلانية المتزايدة خلال القرن السابع عشر، وقد كان هوبز هو آخر كاتب كبير يفضل الإستخدام لكلمة توهم Fancy بدلاً من كلمة خيال للإشارة إلي الحرية الإبداعية والإختراعية العظيمة للعقل.
وتوجد صعوبات جمة عبر دراسات الخيال في التمييز بين التوهم والخيال وثمة خلط كبير بينهما إلي درجة أن بعض الباحثين في المجال قالوا: "إن إبن سينا مسؤول عن هذا اللبس الذي ظل مسيطراً علي مبحث الخيال، وهي مسؤولية يشاركه فيها الكندي وبعض النقلة وطائفة من المعتزلة. وبشكل عام يعتبر التوهم حالة مرتبطة بالإحساس، بينما يرتبط التخيل بحالة عقلية.
التخييل:
التخيل وليس الخيال في رأينا، الترجمة العربية الأقرب لمفهوم الفانتازيا Phantasy اليوناني القديم والتخيل قد يكون موجوداً لدي المبدع أو لدي المتلقي أيضاً، مع إختلاف النشاط لدي كل واحد منهما، حيث في الإبداع يتوجه التخيل نحو الإنتاج للعمل الإبداعي، أما لدي المتلقي فهو نوع من التذوق للعمل والفهم له وكذلك محاولة الإبداع في ضوء الإبداع الأول الخاص بصاحب العمل.
وقد كانت تلك الكلمة تعني التمثيل representation أو المظهر أو الظهور أو التجلي appearance، وقد دخلت هذه الكلمة إلي الإنجليزية ككلمة فلسفية كانت موجودة في كتابات أرسطو وأوغسطين والكتاب اللاتين المتأخرين، وقد إستخدمت، فلسفياً وسيكولوجياً، للتمييز بين الموضوعات كما توجد في العالم وبين تمثيلاتها في العقل (أو المخ) أو الفهم الخاص بنا، فهناك، مثلاً، شجرة موجودة خلف منزلنا، ونحن نعرفها جيداً، نمر عليها كل يوم، وننظر إليها، موجودة كموضوع للإدراك هناك، أما عندما لا ننظر إليها لسبب أو لآخر فإنه يبقي بداخلنا تمثيل عقلي خاص بها، ظل لها، تخيل لها، وتذكر بصري لها يتفق معها علي نحو وثيق، وهو ما سمي ب "الفانتازيا" الخاصة بها، هذا هو المعني الأول الذي أستمر قروناً عدة حتي وصلنا إلي أوغسطين، - وليس إلي الرومانتيكيين كما يقول بعض الباحثين في المجال، فأوغسطين أول من ميز بين مصطلح التخيل بذلك المعني السابق وبين الخيال من حيث القدرة علي التكوين والتشكيل والتحويل للصور العقلية.
يعرف قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية الفانتازيا أو التخيل بأنه: "حلم يقظة ينبعث نتيجة للرغبات أو الإتجاهات الشعورية أو اللاشعورية- إنها العملية أو الملكة الخاصة بتكوين التمثيلات العقلية للأشياء التي لا تكون موجوده فعلاً". ويحوي التخيل (الفانتازيا) بداخله ويُنشَّط- علي نحو فعال- الخيال الواعي (الإرادي) وذلك علي عكس أحلام اليقظة التي تكون سلبية في العادة، هذا رغم ما أشار إليه فرويد في تفسير الأحلام" من وجود تشابهات كبيرة بين التخييل (الفانتازيا) وأحلام اليقظة، فالفانتازيا- كما قال- تشبه الأحلام في كونها محاولات لإشباع الرغبات، هي أيضاً تشبه الأحلام تقوم- وإلي حد كبير- علي أساس الإنطباعات الخاصة المتبقية من خبرات الطفولة، وهي أيضاً تشبه الأحلام في كونها تستفيد وبدرجة معينة من إنخفاض قبضة الرقابة علي الوعي، وإذا فحصنا البنية الخاصة بالفانتازيا فسوف ندرك الطريقة التي أمتزج من خلالها تفكير تحقيق الرغبة الهادف والذي يكون نشيطاً خلال الإنتاج للتخيلات (الفانتازيا) مع المادة أو الشكل الذي أُنتج من خلالها، وأيضاً كيف أن تفكر تحقيق الرغبة هذا قد أعاد تنظيم التخييلات وشكلها بطريقة جديدة".
وعبر تطور هذا المفهوم أو هذا التمييز بين مستويات أو درجات للخيال حدث نوع من العكس أو القلب للتمييز بينهما. وقد كانت كلمة فانتازيا الإغريقية القديمة توحي بالإيداع واللعب العقلي، مع تضمين محتمل، يتعلق بها، خاص بالوهم أو الخداع الحسي والحرية في اللعب بالصور. أما مصطلح الخيال imagination من الكلمة اللاتينية imagio، فله – علي العكس من ذلك- صلابة رومانية مستمدة من الكلمة الأصلية image، التي تشير إلي مفهوم عقلي يماثل في طبيعته الصورة البصرية الخارجية. وقد كان هذا المصطلح وثيق الصلة بمفهوم المحاكاة، ويحمل معني الصدق والدقة أيضاً.
ولأن "الفانتازيا" كمصطلح كانت توحي بحرية أكبر للعقل، سواء بالنسبة إلي الإستبصار الإبداعي أو الإدراك أو الخداع الإدراكي illusion (الإيهام)، فإن كلمة توهم fancy بدأت تحيط بها لشكوك وعدم الثقة من خلال النزعة العقلانية المتزايدة خلال القرن السابع عشر، وقد كان هوبز هو آخر كاتب كبير يفضل الإستخدام لكلمة "توهم" Fancy بدلاً من كلمة "خيال" للإشارة إلي تلك الحرية الإبداعية والإختراعية العظيمة للعقل وثمة خلافات أخري بشأن هذه المصطلحات وفروق في الإستخدام سنشير إليها عبر مواضع أخري تالية من هذا الفصل وهذا الكتاب.
المُتخيَّل imaginary
المتخيل هو موضع التخيل وموضوع الخيال أيضاً، وهو نتاجهما، أو ناتجهما، أيضاً، فالتخيل المتسم بالحرية هو عملية نشيطة تتعلق بموضوع معين ويكون هذا الموضوع هو متخيلها، كما في حالة المتخيل الإجتماعي لدي "كاستوريادس" مثلاً، أو كأن يقوم فنان تشكيلي مثلاً بالتخييل حول الغابات وحيواناتها وعالمها بشكل عام حر طليق بلا ضوابط واقعية، أو حدود منطقية، كما فعل الفنان الفرنسي هنري روسو مثلاً، فكانت الأدغال والمياه والطيور والحيوانات والزواحف... إلخ موضوعاً لتخييله الحر، ثم إنه ينظم عالم تخيله هذا ويحدده ويختار منه ما يرسمه كما في لوحة "دهشة" مثلاُ، وهنا يتحول التخييل العام الحر إلي تخيل محدد، ثم إلي خيال بفعل عملية التنظيم هذه، ثم إنه من خلال العملية الأكبر الخاصة بالإبداع يحول موضوع التخييل الداخلي الذي أصبح منظماً إلي موضوع أو ناتج خارجي هو اللوحة ثم تصبح هذه اللوحة موضوعاً لتخيل المتلقي بعد ذلك. ولا تكون العلاقات بين التخييل والتخيل والخيال متتابعة علي هيئة مراحل متتابعة متسلسلة هكذا كما عرضناها من أجل التوضيح، بل هي أقرب إلي العلاقات التبادلية التفاعلية الدائرية والبندولية كما يعلمنا علماء الجشطلت، وكما كان أرنهايم تشير خلال حديثه إلي إبداع بيكاسو للوحة الجيرنيكا مثلاً.
وقد يكون المتخيل موضوعاً فردياً (لوحة، قصيدة، طعاماً شهياً ...إلخ)، وقد يكون جماعياً (اليوتوبيا وأحلام العدل الإجتماعي)، وهنا يضاف الإعتقاد إلي الخيال في تكوين المتخيل الإجتماعي علي نحو خاص.
إذن المتخيل هو موضع التخييل في حالة ما إذا كانت علاقاتنا بالمتخيل أكثر حرية، وهو كذلك موضوع الخيال في حالة ما إذا كانت علاقتنا بالمتخيل أكثر إنضباطاً وتحديداً وتبلوراً، والمتخيل قد يكون فردياً، وقد يكون جماعياً وقد يكون متعلقاً بحالة سوية أو مرضية، والتخييل ليس هو بالضرورة أحلام اليقظة، لأن التخييل الذي يحدث بالنسبة إلي لوحة معينة مثلاً ليس من قبيل أحلام اليقظة الخاصة بها، بل هو أكبر من ذلك وأكثر إتساعاً في معانية، وتحسن تسميته بالتخيل المحدد أو الموقفي.
والمتخيل الذي هو موضوع التخيل الحر يكون موجوداً خلال الإبداع وخلال التلقي، والخيال بدوره قد يحدث خلال الإبداع وخلال التلقي أيضاً.
التخييل أو أحلام اليقظة Day- Dreaming
إن ما يدل عليه فرويد بأسم الخيال المنطلق هو- قبل أي شئ آخر- أحلام اليقظة والمشاهد والروايات، والخرافات التي يبنيها الشخص ويرويها في حالة اليقظة. وفي كتابه "تفسير الأحلام" وصف رويد التخييل بأنه أحلام يقظة، وحللها كتكوينات تسوية أو حلول وسطي، مبيناً أن بنيتها مشابهة لبنية الحلم، والتخييل أو حلم اليقظة، أو ما يترجمه مصطفي حجازي علي أنه "الهوام" علي علاقة وثيقة باللاوعي، ويرتبط بالرغبة اللاواعية، والتي تشكل منطق عملية تكوين الحلم "الماوراء نفسية"، وهو سيناريو خيالي يكون الشخص حاضراً فيه، وهو يظهر بوجوه مختلفة، وقد يكون "هوامات" واعية أو أحلام يقظة، أو يكون هوامات لا واعية يكشف عنها التحليل كبني كامنة خلف محتوي ظاهر.
ويدخل بعض الباحثين ضمن التخيل والتخييل الإدعاء والغرور والصورة الوهمية النمطية أيضاً عن الذات الفردية والجماعية، وكذلك الصورة النمطية المتوهمة عن الآخر أيضاً، والكذب والتظاهر والإيهام وغيرها من ظواهر سلوكية تبعد أصحابها- عن قصد أو من دون قصد- عن الواقع أو عن الحقيقة كما يدخلون ضمن ذلك بعض حالات التوهم المرضية ومنها ما يسمي الآن: السراب النفسي.
عن الوهم والسراب النفسي psychological Mirage
الصور البصرية هي عاكسات للمشاعر، معابر أو جسور للخبرة، روابط مع التاريخ وإسقاطات للرغبات، والسراب هو "لا واقع" يظهر علي أنه واقع; مشهد يظهر من بعد، أو مسافة، ولكن عندما يقترب منه المشاهد، يختفي كحال الظاميَّ في الصحراء يظن السراب ماء، فهو لم يوجد قط، والسراب هنا مجاز، مجاز للعلاج وحجاز للمرض، وهم يكونه المريض ويعيش من خلاله كمظهر عام، هكذا يقوم مرضي تفكك الهوية- مثلاً- بإخفاء الصور الداخلية المفككة والمضطربة والعاجزة الخاصة في ذاتهم الحقيقية ويظهرون بدلاً منها مظهراً خارجياً عاماً، قناعاً يتظاهر بالقوة والسيطرة، سراباً عندما يقترب منه المعالج يكتشف أنه حقيقي كحال طبيبة نفسية كانت مشهورة وناجحة، ولكنها كانت هي نفسها مريضة تحتاج إلي العلاج. هكذا تكون الصورة الداخلية السيئة هي التي يتم إخفاؤها، فالمظهر الخارجي (السراب) هو الذي يتم عرضه وكشفه، وهكذا ينشأ صراع بين هذين العالمين (الصورة) الداخلية والسراب (الخارجي)، حيث يشتمل كلاهما علي دراما حقيقية ودراما رمزية أيضاً.
تخيل مثلاً وجود أحد الأعمال الفنية أو غير الفنية (والعلمية، مثلاً، الثقافية، الأدبية، الفلسفية... إلخ) الخاصة بك وقد تم توقيعها من جانب شخص آخر علي أنها خاصة به لا بك، تخيل وجود هويات وشخصيات منفصلة داخل جسد واحد ولها إبداعاتها ومعتقداتها وأفكارها وصراعاتها وتاريخها الفردي، وتخيل أن ذلك كله، وهمي وغير حقيقي، تخيل وجود مراقب داخلي يشاهدك ويعرف حقيقتك تخيل آخرين في الخارج يشاهدون