الخيال الإفتراضي التكنولوجي والأطفال
تقول شارون بيكر في كتابها عن "الأحلام في الأساطير والطب والأفلام" (2005) "ليس من المناسب أن نقول إن جاذبية ألعاب الفيديو الحديثة- بما تقدمه من واقع إفتراضي- تعود إلي أنها تسمح لمستخدميها بالدخول إلي عالم الأحلام فقط، فالتكنولوجيا نفسها لها جاذبية طاغية، وكذلك الحال بالنسبة إلي تلك الحالات الخاصة والواقع والفضول التي يستثيرها أي إختراع جديد.
فالواقع أن هناك كذلك إغراء لا يصدق يصاحب الدخول إلي عالم إصطناعي والتمكن من التحكم في الحلم والتأثير في حبكة الأحداث فيه، وكلها أمور لا تكون متاحة في حالات الحلم الواقعية التي تصيب النائمين بالشلل وتحرمهم من الحركة الإرادية، وتضعهم في الحالة الخاصة بالمشاهدين السلبيين بدلاً من أن يكونوا اللاعبين المتخيلين imaginary player في مغامرة مثيرة. وبالنسبة إلي الأطفال هناك جاذبية لا نهاية لها، لأن يقوموا هم أنفسهم بالتغيير في الحدث المتخيل الذي يعرض أمامهم ويشاركوا فيه، إنهم يسقطون عليه خيالهم الخاص وإرادتهم الخاصة، كما أن هذه الألعاب- كما أشارت بعض الدراسات الحديثة- تنمي لديهم مهارات حل المشكلات وإتخاذ القرارات والتفكير الناقد والإبداع والمثابرة أيضاً، ويتم ذلك كله في جو خيالي، مشحون بالإثارة والتشويق والمتعة الناتجة من التتابع السريع للصور والأصوات، مع ما قد يحدثه ذلك أيضاً من أستلاب وإدمان يرتبط بالميديا، وإنفصال عن الواقع يتعلق بالتكنولوجيا تحدثنا عنه في كتاب سابق لنا، هنا يستغرق الأطفال في عالم خيالي، غير حقيقي، في الوقت الذي يبنغي أن يعدوا أنفسهم لعالم واقعي حقيقي، قد لا تتاح بالنسبة إليهم الفرصة فيه للقيام بمثل هذه التخيلات والتغيرات.
تأتي معظم الإعتراضات البحثية والأسرية تجاه ألعاب الفيديو، وتوجه إلي الجانب الخاص بالعنف الموجود فيها، وليس ضد هذا الجانب الهروبي الإنسحابي من الواقع المصاحب لها، هكذا فإن ألعاب الفيديو الأكثر مبيعاً هي تلك الأكثر عنفاً، أي تلك التي تحتوي علي صور وألعاب ومشاهد خاصة تسمح لهم بالتوحد مع القتلة والمهاجرين بخفة ورشاقة وبهجة، وليس من قبيل المصادفة أن تلك الألعاب التي تحتوي علي الخداع والمؤامرات والمكائد، تجتذب الأطفال في تلك الأعمار التي يكونون أكثر عرضة فيها للكوابيس، التي تحدث ما بين العاشرة والرابعة عشرة، والتي خلالها يستيقظ الطفل صارخاً فزعاً، بعد أن رأي وحوشاً مفزعة بالكاد يستطيع أن يتذكرها بعد أن يستيقظ.
وكثير من ألعاب الفيديو تشبه ذلك الرعب الليلي، مع فارق واحد كبير، هو أنها تسمح لمستخدميها أن يهاجم من يهاجمه، وأن يمتلك أحاسيس بالسيطرة علي ذلك الخوف المتخيل، وليس هناك من حاجة إلي أن يظل عرضه دائماً للهجوم، هنا نوع من الأمن والأمان لا يتوافر في أثناء النوم الليلي.
ليس من قبيل المصادفة أن تعيد ألعاب الفيديو هذه، وكذلك الألعاب المخلقة بالكمبيوتر، مشاهد الأحلام. هكذا خلق الفنانون هنا من خبراتهم المباشرة، ومن المناظر الطبيعية بما فيها من حدائق وجبال وأنهار التي أعجبوا بها، ومن مشاهد المدن الكبيرة التي عاشوا فيها أو زاروها، وكذلك من لوحات الفنانين الذين ينتمون إلي عصر النهضة، من المباني القديمة والحديثة، ومن مشاهد الأحلام عموماً، تلك العوالم، كما جعلوها خلفية لأحداث ألعابهم. هكذا أستطاع فنانو ألعاب الفيديو والكمبيوتر أن يمزجوا بين الماضي والخاضر في خلق أجواء مستقبلية، وقد مزجوا ذلك كله بأحلامهم الخاصة، وبالأعمال الفنية، بالمناظر الطبيعية، ومن ثم يسروا دخول المجتمع وإنتقاله إلي العصر الرقمي الذي أصبح الأطفال والمراهقون أكثر المشاركين فيه أهمية من حيث سهولة تأثرهم بما يقدمه هذا العالم إليهم.
خاتمة
هناك بالطبع مسافة بين أعمال الكتاب الكبار وتخييلات الأطفال الصغار، لكن هناك- علي الرغم من ذلك- بعض الجوانب الأساسية المشتركة، بينهما وحيث يمكن تطويرها من خلال التربية الخيالية اللأطفال، ومن ثم تحويلهم من مجرد أطفال عاديين إلي أطفال وكبار مبدين وربما كان من بينها.
موضوع الشرط التعاقدي، أي الإتفاق علي أن موضوع أهتمامنا الآن هو عمل خيالي أو متحيل أو إيهامي فيكون حالة الصغار (اللعب والحكايات) وفي حالة الكبار (الأعمال الإبداعية الفنية والأدبية خاصة).
تعليق الحكم الخاص بالحقيقة الواقعية لهذا الموضوع، مادمنا أتفقنا علي أنه عمل خيالي.
الإتكاء علي بعض الملحقات أو المهمات الخيالية وتجريدها أو تحريررها من وظيفتها الحرفية ووضعها في سياق أو أفق مجازي، والأمر نفسه صحيح بالنسبة إلي اللغة نفسها، فالأستخدام الحرفي يختلف عن الأستخدام المجازي لها، وهي في النهاية أحد الملحقات أو الذرائع أو التكئات التي نلج من خلالها إلي تلك العوالم الخيالية أيضاً.
إن الأطفال مثلهم مثل كتاب الرواية بواسطة بعض الأحداث الفعلية الواقعية، فالأنشطة اليومية المعتادة الخاصة بهم، مثل: الذهاب إلي النوم، إرتداء الملابس، الأغتسال، وغيرها، وتزودهم بمادة خاصة مهمة للخيال، فالخيال لا ينفصل عن الواقع. ففي الأنشطة الخيالية للأطفال والكبار هناك بعد إجتماعي حاضر ومهم بشكل مباشر (قراءة العمل الإبداعي مع الكبار (الوالد- الوالدة- المعلمة..... إلخ)، ولعب الأطفال بعضهم مع بعض مثلاً، أو بشكل غير مباشر كما في توحد الطفل مع لعبة، والقارئ مع شخصية متخيلة مثلاً، مما يمكن إعتباره بعداً إجتماعياً متخيلاً.
يكون الخيال الإبداعي هو المسؤول عن أشكال الإيهام التي تمزج عناصر الخبرة بطرائق جديدة، وهو يشتمل. كنا يقول بعض العلماء، علي أحلام اليقظة، وكذلك ظاهرة الرفيق الخيالي، وأيضاً التخطيط لرحلات خيالية (رحلات جاليفر مثلاً)، ومحاولة إعادة خلق أو تكوين الخبرة الخاص بشخص آخر أو بعالم آخر متميز من جديد، إضافة إلي اللعب الإيهامي بأنواعه المتعددة.
وقد تكون هناك مظاهر في خيال الأطفال تنتمي إلي الخيال الإبداعي أيضاً، ويشتمل هذا النوع من الخيال كذلك علي أمثلة يومية مألوفة لدي الأطفال، مثل: الأحلام، وحل المشكلات والتخطيط من أجل إستخدام شئ ما بشكل جديد، واللعب الإبتكاري، وغير ذلك من مظاهر الإيهام الخيالي.
وبينما تكون أنشطة الأطفال الإيهامية قائمة علي أساس الواقع، فإن الأشياء التي ينشطون من خلالها أو يفعلونها غالباً ما لا تكون كذلك. إنهم لا يهتمون هنا بالتفاصيل المحددة للشئ، بل بالطبيعة العامة له. فخلال نشاطهم الإحيائي لدمية، أو غيرها من الأشياء، يستخدمون المعلومات الخاصة المستمدة من الواقع، ويستخدمون كذلك، عنصراً حيوياً إحيائياً أو تشخيصياً قوياً نحو أشياء تصور فقط علي أنها واقعية.
ومن الممكن أن تتوجه النزعة الإحيائية أو التشخيصية لخيال الطفل نحو كل شئ تقريباً (تحويل الأشياء المادية الجامدة إلي أحياء أو اشخاص مثلاً). هنا لا نجد الدمي والألعاب فقط، بل أيضاً الزهور وقوالب الطوب، والعصي، والفاكهة، وغيرها، ويعزو الأطفال خصائص نفسية (سيكولوجية) وبيولوجية إلي هذه الأشياء، فهم يطعمونها ويعالجونها من الأمراض، ويضعونها في المهد من أجل أن تنام ويساعدونها علي إرتداء ملابسها، ويخرجونها من المنزل ويقيمون الجنازات لها أيضاً، بشكل عام يعاملونها علي أنها كائن حي إنساني مميز. كذلك فإن الأعمال الإبداعية للكبار، كلما زخرت بالحياة، وكلما بعثت الحياة والجدة في الجامد من الكلمات والصور والأشياء; كان الخيال فيها أقوي.
وتمتد نزعة الأطفال الإحيائية أو تتسع، بدءاً من تعلقها بأشياء محددة إلي التعلق بلا شئ محدد، كالخوف من الظلام مثلاً، وهو الخوف المستمد- بدوره- من الإعتقاد بأمتلاء الظلام بأشكال من الحيوانات المتحفزة أو التي توشك علي الإنقضاض عليه، وكذلك ما يرتبط بالحكايات التي تمتلئ بالعفاريت والأشباح، التي تروي له قبل النوم، وتكون الغرفة التي تعد للنوم فيها مظلمة هادئة، ثم يترك بعد ذلك وحده، تتركه أمه أو جدته...إلخ.
وقد يظل وعي الطفل أو الراشد في فترة ما بين اليقظة والنوم، وتتحول هذه الحكايات إلي أشكال وصور لفظية، ما تلبث أن تتحول إلي صور بصرية، وما تلبث بدورها أن تتحول إلي صور واقعية متجسدة في الذاكرة قد تستدعي كلها، كلما وجد نفسه وحيداً في الظلام وقد تكون هذه بداية الخيال المعتم- أو خيال العتمة- المرتبط بالخوف من الظلام وكائناته المتوهمة كالعفاريت والأشباح، ومن هنا منبع الكوابيس التي يعاني منها الصغار، وبعض الكبار أيضاً.
هكذا يدخل الأطفال العالم الخيالي علي نحو مبكر، نحو سن الثانية وربما قبلها، حيث يسرد قصص الجنيات الخرافية لهم، ويؤخذون إلي قاعات السينما ويشاهدون التليفزيون، حيث يرون الحيوانات المتكلمة وعرائس البحر والكائنات الفضائية وغيرها، كما أنهم يشتركون في طقوس ثقافية تخلد فيها كائنات متخيلة مثل سانتا كلوز أو بابا نويل في الغرب، وعروسة المولد أو الحصان في الشرق العربي الإسلامي، كما أنهم يشجعون علي المشاركة في لعب إيهامي أو توهمي. فهل يدرك هؤلاء الأطفال الفروق بين ما هو واقعي وما هو متخيل؟ إن الأطفال قد يدهشوننا بقدرتهم علي التمييز بين ما هو خيالي وما هو واقعي منذ وقت مبكر. يخرج الأطفال في حوالي عمر الخامسة والسادسة من العالم الخيالي.
وهناك مجموعة من الشواهد والنتائج التي تدل علي أن الطفل يدرك أن هناك عالمين موجودين أو مستويين داخل العالم أحدهما واقعي تنطبق عليه قوانين السببية والآخر خيالي أو إيهامي لا تنطبق عليه هذه القوانين، وأن هناك علي الرغم من ذلك صلات معينة بين هذين العالمين، كما أنه ينبغي التمييز حتي داخل المستوي الخيالي بين عالمين، عالم واقعي ومدرك وعالم متخيل وغير مرئي ومن ثم يكون هذا الوعي بتعدد مستويات الواقع هو البداية الحقيقية للإبداع.