من ذكريات ابن الشهيد رفاعى طه
منذ ما يقرب من خمسةَ عشرَ عاماً .. عندما كان عمري آنذاك لا يجاوز التاسعة .. وكان من طبع والدي رحمة الله عليه أن يجمعنا إليه ساعة الدعاء قبل غروب يوم الجمعة .. فيدعو ونؤمن .. ويغرس فينا مع كل دعوةٍ شيئاً من علو همته ونقاء سريرته .. 
ولكنه في يومه ذاك لم يدعُ أحداً سواي .. فجلسنا في ركنٍ منزوٍ في منزلنا في طهران .. يدعو قبل غروب الشمس كعادته .. وكان ديدَنُه أن يدعو للقاصي والداني ، ويلحّ في الدعاء لقضاء حوائج غيره .. كلٌّ باسمه وبتفاصيل حاجته .. 
ولم أذكر أني سمعته يدعو لنفسه بشيءٍ من حطام الدنيا قط .. ويكأنه كان ينظر إليها من بعيد دون أن يطأها بقدمه يوماً أو تطأ قلبَه ولو كطرفةِ عين ..
حتى بلغ في دعائه أن قال : "اللــهم لا تقبضنــي إليــك إلا شهيــداً في سبيلك" .. بصوته المنكسر المعروف عنه ولكنته الجنوبية الخاشعة التي تزلزل القلب .. فظلّ يدعو ويردد هذه الدعوةَ حتى غلبه البكاءُ كعادته .. ثم ظل يكررها مرارا وتكراراً كما هي حتى أجهش في البكاء .. وانتحب بصوته حتى أشفقتُ عليه وانقطع صوت دعاءه .. ثم عاود حتى هدأ ,, فأعاد على ربه الدعوة بإلحاحٍ لم أعهد مثله من قبلُ ولا من بعد .. حتى أجهش وانتحب مرة أخرى .. وظل كذلك يعاود ويقطعُ صوتَه بكاءُه حتى دهَمنَا أذانُ المغرب .. فوضع يده على وجهه وظل يبكي بكاءً مريراً حتى هدأ وقام فأقام الصلاة ..
ويعلم الله أني حينها قد سرت في قلبي رعدةٌ ورجفةُ لم أعهد مثلها .. ويكأني أرى استجابة دعائه هذا أمام ناظريّ .. وأراه في مخيتلي كما كان يدعو دائما : "اللهم لا تقبضني إليك حتى تخضَبَّ لحيتي بدمائي في سبيلك" .. " اللهم خذ من دمائي حتى ترضى" .. وكما ذكر عنه أحد المقربين منه أنه سأل الله قريباً أن لا يضمَّهُ قبر ..
ومنذ ذلك اليومَ وأنا أكتم في داخلي ذاك الترقّب الوجِلَ أن تحين ساعة استجابة تلك الدعوة الصادقة الجامحة .. فلما أُلقي القبض عليه في سوريا أول مرة قلت بيني وبين نفسي قد وقع قضاء الله وبلّغهُ الله استجابة دعوته .. فلما علمت بنجاته حينها قلت لعلّه لا يفصله عن تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقه منذ أمد إلا ردهة من الزمن طالت أو قصرت .. 
فلما نجاه الله من محبسه ذاك الطويل القاسي بعجيب قدره ولطيف فضله .. قلتُ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا .. وقد زاد في قلبي الترقب ليقيني بأن الله مجيبُ دعوته مهما طال عليها الأمد ..
وما هي إلا أعوام ثلاث .. حتى قُلبَت موازين القدر مرة أخرى .. وهاجت مصائر البلاد والعباد وماجت وتقلبت به السبل كما تقلّبت .. حتى ساقَــه القدر إلى دعوته تلك القديمة التي لا زالت تتردد صداها في أعماقي حتى ساعتي هذه ببحّةِ صوته وشجَى أنينه الخافتِ التقي النقي .. وأمنيته التي لم يبرح يكتمها في صدره منذ نشأ .. وتصدقها أفعاله وسيرة حياتِه ومسيرته التي وربِّ الكعبةِ لا تكفيها كتبُ ومجلدات ..
فاللهم يا ربِّ أنزل على جسده المُسجّى بتربة طاهرةٍ رويت بدماء عبيدك .. في أقصى بقاع الأرض .. أنزل عليه رحائمك تترا متعاقباتٍ تريح جسده المنهكَ من طول المسيرة وعناء الطريق .. وهول المصاعب والهمم .. والممزّقِ من وقع قذيفةٍ نزلت عليه كالقدر في ساعة إجابة .. لعلّك جعلتها عليه برداً وسلاماً وأمانا .. واشمل يا ربِّ روحَه بجميل لطفك وتلقـَّـفها بعنايتك ورعايتك حتى تُسكنها الفردوس الأعلى تحت ظلِّ عرشك مع النّبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. وألحقنا به يا ربنا غير مبدلين ولا مُفــتّنين .. وأعِنّا على هول المصاب ووقعٍ جللٍ بجميل رحمتك يا أرحم الراحيمن ..

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 50 مشاهدة
نشرت فى 9 إبريل 2016 بواسطة denary

ساحة النقاش

على الدينارى

denary
موقع خاص بالدعوة الى الله على منهج أهل السنة والجماعة يشمل الدعوة والرسائل الإيمانية والأسرة المسلمة وحياة القلوب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

294,116