مركز حقوق للتدريب القانوني

يقدم الموقع خدمة ابداء الاستشارات القانونية وتدريس القانون

authentication required

حادثة مأمـور البـداري
محكمة النقض‏:‏ المعاملة التي كان المأمور المجني عليه يعامل الطاعنين بها هي إجرام في إجرام

بقلم ‏:‏ د‏.‏ يونان لبيب رزق

الحـــلقة‏522‏ في ليلة السبت‏19‏ مارس عام‏1932,‏ وفي مركز البداري مديرية أسيوط‏,‏ وأثناء عودة مأمور المركز يوسف الشافعي أفندي من زيارة لدار مهندس الري فهيم أفندي نصيف وعند مدرسة البداري الابتدائية وخلف حائط متهدم كمن شابان من أبناء البلد‏,‏ وعندما أصبح المأمور والمهندس علي بعد ستة أمتار من مرمي النار‏,‏ أطلقا عليهما رصاصة أودت بحياة الأول وأصابت الثاني إصابات خفيفة‏.‏
في نفس الليلة تم القبض علي الجانيين اللذين شاهدهما بعض المارة وهما يهرعان بعد ارتكاب الجريمة للاختفاء في المزارع القريبة‏,‏ أولهما‏:‏ أحمد جعيدي عبد الحق العمر‏:23‏ سنة المهنة‏:‏ طالب سابق بمدرسة الصنائع وإن كان قد تركها ليعمل بالفلاحة في أرض أبيه‏,‏ والثاني‏:‏ حسن أحمد أبي عاشور الشهير بحسونة العمر‏:25‏ سنة المهنة‏:‏ فلاح وسكنه البداري‏.‏

وعلي الرغم من أن مراسل الأهرام في المركز وصف الحادثة بأنها‏'‏ جريمة مروعة‏',‏ إلا أن الجريدة ظلت تتابع مجرياتها علي اعتبار أنها في البداية والنهاية مجرد جريمة عادية من جرائم القتل التي طالما تحدث في الريف خاصة في الصعيد‏,‏ وظلت تتابع تطوراتها في أخبار متناثرة حتي صدر الحكم يوم‏21‏ يونية من نفس العام‏,'‏ بإعدام الجاني الأول وبالأشغال الشاقة المؤبدة للثاني‏,‏ وبإلزامهما متضامنين بأن يدفعا للمدعي بالحق المدني‏(‏ ابن القتيل‏)‏ جنيها واحدا تعويضا مع المصاريف المدنية وألف قرش أتعاب المحاماة‏,'‏ بتهمة القتل مع سبق الإصرار والترصد‏.‏
وتصور قارئ الأهرام غداة صدور حكم محكمة الجنايات أن القضية قد طويت صفحتها‏,‏ وأن الإجراء الذي اتخذه محامو المتهمين‏,‏ مرقص فهمي وإبراهيم ممتاز‏,‏ بالطعن في الحكم أمام محكمة النقض التي كان يرأسها عبد العزيز باشا فهمي‏,‏ مجرد تحصيل حاصل‏..‏

المفاجأة أن المحكمة قبلت الطعن‏,‏ سبب القبول‏:‏ انتفاء قصد الإصرار بمعناه القانوني‏'‏ إذ تتضمن تلك الوقائع إثباتا لغلظة المأمور المجني عليه ولشيء كثير من أفعال جنائية محرمة كان يرتكبها كل مساء في معاملته للطاعن‏,‏ وهذا من شأنه أن يجعل الطاعن في حالة اضطراب لا استقرار فيه‏,‏ وهياج مستمر لا فرصة معه في التفكير الهادئ‏,‏ الذي هو شرط ضروري لتحقيق سبق الإصرار إذن فتكون المحكمة‏(‏ الجنايات‏)‏ قد أخطأت في تطبيق القانون‏,‏ إذ اعتمدت علي وجود ذلك الظرف مع أنه منعدم‏,‏ وكذلك هي أخطأت في اعتبار أفاعيل المأمور الإجرامية ضربا من القيام بالواجب‏'!‏
فصلت محكمة النقض بعد ذلك طبيعة الأعمال الإجرامية التي كان يقترفها المأمور والتي جاءت في شهادة أحد الشهود‏,‏ عمدة المركز محمد نصار بك‏,‏ قال‏:‏ إن المأمور‏'‏ كان يطلب نوم الطاعنين بالمركز وفي نومهم كانت تحصل لهم إهانة من العساكر لسيرتهم الرديئة‏,‏ فتألموا وتأثروا من هذا ومن الإهانة‏,‏ ولما سئل عن بيان هذه الإهانة قال‏:(‏ الحاجات والإهانة التي سمعناها جامدة‏)‏ ولما سئل عما سمعه قال‏:(‏ سمعت أن المأمور يأمر بقص أشنابهم‏,‏ ويجيب برشمة ليف ويعملها لهم زي لجام الجحش‏),‏ ولما سئل عما كان يحصل بعد إلجامهم قال‏:(‏ شوف الجحش بيبرطع إزاي‏).‏ وقال أيضا إجابة علي سؤال المحكمة‏(‏ كان يكلفهم أن يقولوا أنا مرة‏),‏ ولما سئل علي سبيل التأكيد‏(‏ حصل أنه دق العصي في‏...)‏ ولما سئل عن إهانات أخري قال‏:(‏ أي الشيء اللي يخليهم يرجعوا عن السرقات عمله وياهم‏)‏ ولما كرر عليه السؤال قال‏:(‏ هو فيه أزيد من دق العصي في‏...‏ وقص شنبه وإلجامه‏)'.‏

وجاء في حكم عبد العزيز باشا فهمي‏:'‏ إن المعاملة التي أثبتت المحكمة أن المجني عليه كان يعامل الطاعنين بها هي إجرام في إجرام‏,‏ ومن وقائعها ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون بالأشغال الشاقة‏,‏ وكلها من أشد المخازي إثارة للنفس واهتياجا لها‏,‏ ودفعا بهما إلي الانتقام‏.‏ ولو صح أن المأمور كان يطلب نوم الطاعنين بمركز البوليس كما يقول الشاهد نصار بك الذي اعتمدت المحكمة شهادته‏,‏ وكان هذان الطاعنان متخوفين من ارتكاب أمثال هذه المنكرات في حقهما‏,‏ فلا شك أن مثلهما الذي أوذي واهتيج ظلما وطغيانا‏,‏ والذي ينتظر أن يتجدد إيقاع هذا الأذي الفظيع به لا شك أنه إذا اتجهت نفسه إلي قتل معذبه فإنها تتجه إلي هذا الجرم موتورة مما كان منزعجة مما سيكون‏.‏ والمنزعجة هي نفس هائجة أبدا لا يدع انزعاجها سبيلا إلي التبصر والسكون حتي يحكم العقل هادئا متزنا مترويا‏-‏ فيما تتجه إليه الإرادة من الأغراض الإجرامية التي تتخيلها قاطعة لشقائها‏'.‏
وخلص حكم محكمة النقض إلي القول‏:'‏ إنه لا يمكن الاعتراض بأن سبق الإصرار إذا انعدم قانونا انعدم معه الترصد أيضا لكون الترصد يستدعي بطبيعة وجود سبق الإصرار ولا يمكن تصوره مستقلا عنه‏,‏ وأنه ما دام الأمر كذلك فمن الواجب نقض الحكم بصرف النظر عما قالته المحكمة‏'‏ وأن هذه المحكمة‏(‏ الجنايات‏)‏ التي عللت حكمها باستعمال أقصي حد في الشدة‏'‏ أقامت حكمها علي أساس مرتبك بل غير صحيح‏,‏ إذ هي في معرض بيان سبق الإصرار تشير إلي ما ثبت لديها من أن المأمور المجني عليه أتي في معاملة الطاعنين بركوب المنكرات‏..‏ وإذ بها تعود في تقدير العقوبة فتقرر أن المأمور كان يطارد هذين الشقيين ويقوم بواجبه‏,‏ كأنما هي تعتبر أن شذوذه الإجرامي الذي سلمت به من قبل هو من قبيل قيام الموظف بواجبه مع إن البداهة تقضي أنه شذوذ يحفظ كل إنسان ولو كان مجرما ويدعي إلي معذرته والتخفيف من مسئوليته إذا هو سلك سبيل الانتقام‏'.‏

ولو كانت الظروف عادية لما ترتب علي هذا‏,‏ الحكم المضاعفات التي حدثت بعد ذلك‏,‏ وكان يمكن النظر إلي الواقعة علي اعتبارها حادثة بين رجل إدارة غالي في قسوته‏,‏ وبين مشتبه فيه ذهب بعيدا في انتقامه غير أن الجو السياسي العام كان يقود إلي غير ذلك‏..‏
ففي الصراع بين الحكومة الأوتوقراطية التي كان يرأسها إسماعيل باشا صدقي وتساند القصر الملكي بكل ما تستطيع‏,‏ وبين الحركة الوطنية يقودها الحزبان الكبيران‏,‏ الوفد والأحرار الدستوريين‏,‏ استخدم الأول رجال الإدارة علي نطاق واسع فمن ناحية أزاحت الحكومة الصدقية العناصر المعروفة بولائها للوفد من هؤلاء‏,‏ وعينت محلهم شخصيات وجهت ولاءها أساسا للحكومة الجديدة ولصاحب العرش‏,‏ ومن ناحية أخري لم يكن هؤلاء يتورعون عن استخدام أقصي أساليب العنف لفرض الهيمنة الحكومية‏,‏ وفي هذا الجو العام وقعت حادثة البداري‏,‏ التي نجحت بعد ردود الأفعال التي نجمت عنها أن تحرج مركز الحكومة الصدقية بل‏,‏ وتجبره بعد الخلاف الذي تفجر بين أعضائها‏,‏ أن يعيد تشكيل وزارته‏..‏

‏***‏
كان الجو السياسي مهيئا لردود الفعل التي نتجت عن حكم محكمة النقض والإبرام‏,‏ فمن ناحية الوفد الذي كانت قد فترت معارضته لحكومة صدقي من جراء الانقسام الذي عرفه خلال تلك الفترة بين أغلبية مؤيدة لفكرة الحكومة القومية‏,‏ وأقلية تضم الزعيم الجليل‏,‏ دولة مصطفي النحاس باشا‏,‏ ومعه سكرتير عام الحزب الكبير مكرم عبيد‏,‏ ترفض الفكرة‏,‏ والذي انتهي بخروج ثمانية من كبار رجال الحزب فيما عرف باسم انقسام السبعة والنصف‏,‏ غير أنه بعد اجتياز الحزب الشعبي لهذه المحنة عاد ليسترد عافيته وكان متشوفا لمعركة تؤكد عودته لحالة المقاومة التي التزم بها ضد حكومة صدقي‏,‏ وقدمت له حادثة البداري الميدان المطلوب لهذه المعركة‏.‏
ومن ناحية أخري فإن الحزب الكبير الآخر‏,‏ الأحرار الدستوريين‏,‏ الذي كان قد ائتلف مع الوفد في مقاومة عهد الوزارة الصدقية‏,‏ قد خرج عن هذا الائتلاف مع فكرة الحكومة القومية‏,‏ غير أنه ما لبث أن خاب أمله وعاد إلي صفوف المعارضة‏,‏ وكان بدوره في حاجة إلي مناسبة ليؤكد علي موقفه من الحكومة الملكية‏.‏

فضلا عن ذلك فإن الحكومة نفسها قد عرفت نوعا من الانقسام‏,‏ إذ بينما كان رئيس الوزراء ومعه أغلبهم يقفون علي جانب كان علي ماهر‏,‏ وزير الحقانية‏,‏ يسانده عبد الفتاح يحيي باشا الذي كان يتطلع إلي رئاسة الوزارة يقفان في الجانب الآخر‏,‏ ومرة أخري قدمت حادثة البداري الميدان المناسب لتفجر المشاكل الكامنة بين الوزراء‏.‏
وقبل استعراض تفاصيل المعارك التي خاضتها كل الأطراف ينبغي التنبيه إلي أن الأهرام لم تكن بعيدة عن لهيبها‏,‏ الأمر الذي نتبينه من أكثر من مقال من مقالاتها‏..‏

تحت عنوان‏'‏ مأساة مأمور البداري‏-‏ بين حكم القضاء وحكم علم النفس‏'‏ وضعه الأستاذ محمد أحمد الصاوي‏,‏ ونشرته جريدتنا في عددها الصادر يوم‏21‏ ديسمبر عام‏1932,‏ كتب ينعي علي رجل الإدارة أفعاله المشينة ووصف المأمور القتيل بأنه شاذ في إجرامه وفظيع‏,‏ ووصف حكم محكمة النقض بأنه‏'‏ صفحة بيضاء من أنصع صفحات القضاء المصري الجديرة بالزهو والافتخار‏.‏ وما نشك في أن أمنية هذه المحكمة سوف تحقق من لدن الجهات العليا في الدولة التي تصدر أحكامها باسم صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول فتخفف العقوبة إلي أقصي حدود الرحمة‏'.‏
وتحت عنوان‏'‏ حادثة البداري‏-‏ الحكم الدستوري والروح الدستورية‏'‏ نشرت الجريدة في عددها الصادر يوم‏28‏ من نفس الشهر مقالها الافتتاحي‏,‏ وقد رأت في مستهله أن النظر إلي‏'‏ هذه الحادثة أو الفضيحة الإدارية من الوجهة القومية والاجتماعية فقط دون أي اعتبار آخر يجعلنا نتساءل‏:‏ هل هذه الحادثة نادرة أو شاذة فإذا كانت كذلك انحصر شرها في دائرة ضيقة جدا لا تتعداها وعولج ذلك الشر في تلك الدائرة‏..‏ أما إذا كان الضد وكانت روح الجور والقسوة والظلم فاشية كان الشر كبيرا وكانت العدالة في خطر‏,‏ وكانت الهيئة الاجتماعية مصابة بداء وبيل يجب أن يتخذ لشفائها منه أشد ضروب الرقابة والسهر‏,‏ بل أنجع ضروب التربية والتهذيب‏'.‏

في آخر هذا المقال المهم انتقلت الأهرام من التلميح إلي التصريح فيما جاء في قولها‏:'‏ هل بإمكان من ينصر فريقا علي فريق أن يظل ملازما جانب العدالة والحرية والمساواة وهل هو إذا حاد عن هذا الصراط في عمل من الأعمال كالسياسة يستطيع أن يستقيم في الأعمال الأخري‏.‏ فقد مرت أمام عيوننا تلك الجيوش من العمد تعزل‏,‏ وتلك الجيوش من العمد تعين‏,‏ وتلك الجيوش من الموظفين تعاد أو تطرد فكيف السبيل إلي الثبات‏'!‏
أما عن‏(‏ الوفد‏)‏ فقد خاض معركة مأمور البداري علي مستويين‏..‏ أولهما ببيانات الحزب نفسه والآخر بحملة صحفية واسع النطاق‏..‏

تحت عنوان‏'‏ من الوفد المصري إلي الأمة المصرية الكريمة‏'‏ نشرت الأهرام في عددها الصادر في أول يناير عام‏1933‏ بيانا طويلا دار حول سياسات حكومة صدقي عموما‏,‏ وإن كان قد خصص جانبا كبيرا لحادثة البداري كان مما جاء فيها‏:‏
‏'‏أيها المصريون‏-‏ إن تلك الروح الخبيثة التي كشفت عنها حادثة البداري والتي أفضت إلي الفوضي وما هو شر من الفوضي فجعلت محكمة النقض تلتمس العذر للناس إذا ما انتقموا لأنفسهم وبأنفسهم‏-‏ تلك الروح إنما هي ظاهرة من مظاهر الاستبداد المضروب علي أعناقكم ولقد رأيتم كيف عاد عهد الكرباج لتحصيل الأموال الأميرية في الوقت الذي أجدبت فيه أراضيكم واشتدت بفعل الوزارة الضائقة المالية فأكلت ما بقي لكم من زرع وضرع‏,‏ وذهبت الأموال المجلوبة من عرق جبينكم إلي خزائن المستعمرين وشركائهم‏,‏ ومن إليهم من الأعوان والمناصرين‏'.‏

أما عن الحملة الصحفية فقد شنتها صحف الوفد الثلاثة‏..‏ البلاغ‏,‏ الجهاد ثم كوكب الشرق‏..‏
كتبت الصحيفة الأولي تحت عنوان‏'‏ موقف الوزارة في حادث البداري‏'‏ بأن الناس يتحدثون عن حكم محكمة النقض‏'‏ ويبنون عليه حكمهم علي الوزارة وأساليبها في الحكم‏.‏ وهم يعرفون الفرق بين حكم تنطق به محكمة النقض وبيان تكتبه الوزارة لمصلحتها‏,‏ ولتدافع به عن نفسها أمام ما تراكم عليها من التهم وما قام ضدها من براهين‏'.‏

وكتبت‏'‏ الجهاد‏'‏ تنعي علي الوزارة تمسكها بقانون حماية الموظفين وأنه‏'‏ نير علي رؤوس المضطهدين وقلعة يتحصن بها الظالمون من رجال الإدارة وإبقاء قانون المشبوهين وسيلة للكيد الكثير من الأبرياء‏,‏ وأن يبقي المحققون من رجال الإدارة والبوليس بمأمن من رقابة النائب العام ووزير الحقانية‏,‏ وأن يبقي صدقي باشا ما شاءت له المقادير أن يبقي رافعا هذا اللواء‏'.‏
أما‏'‏ كوكب الشرق‏'‏ فقد كتبت تحت عنوان‏'‏ مأساة البداري‏,‏ تتحدث عن أن اهتمام الرأي العام بمأساة البداري‏'‏ لأنهم رأوا فيها حكمة بالغة إذ يشاء الله أحكم الحاكمين أن يفضح وسائل الوزارة هذه الفضيحة الصارخة في قضية لم يكن الناس يهتمون بها‏,‏ ولا كان لها بالسياسة مساس وأن يصدر بذلك أسمي الأحكام من أعلي هيئة قضائية في البلاد‏'.‏

علي الجانب الآخر كانت هناك جريدة الأحرار الدستوريين‏,‏ السياسة‏,‏ التي لم تتخلف عن الركب فقد كتبت تحت عنوان‏'‏ حادث البداري درام أم كوميدي‏'‏ تقول‏:‏
‏'‏واليوم يحق لنا أن نتساءل‏:‏ أمأساة مسألة البداري أم مهزلة‏,‏ فهي في حكم محكمة الجنايات وفي حكم محكمة النقض مأساة يقف لها شعر الرأس وتضطرب من هولها القلوب والأفئدة‏,‏ وهي في بيان وزير الحقانية مسألة تافهة لا تزيد علي أن أحد المحكوم عليهم ضرب في فبراير‏1932‏ ضربا لم يترك أكثر من كدم في عينيه‏,‏ وأن أحد الكونستبلات طلب إلي هذا المتهم أن يقول أن اسمه حسنة لا حسونه وربطه بحبل في مربط الخيل إرهابا لغيره من المشبوهين فأي الأمرين أصدق‏!‏ أنبتسم علي أنها مهزلة تافهة يقع من مثلها كثير‏!‏ أم تضطرب نفوسنا لأنها مأساة أهينت فيها الكرامة الإنسانية وأهين فيها العدل والقانون شر إهانة‏'!‏

‏***‏
الجانب الأخير من المعركة دار في أروقة الحكومة الصدقية نفسها حين اتخذ علي ماهر وزير الحقانية نهجا لم يرض عنه رئيس الوزراء وأغلب أعضائها‏..‏
كان أول ما فعله الوزير أن أمر بمعاملة الجناة معاملة المسجونين العاديين‏'‏ وبناء علي ذلك نزعت الأغلال التي كان مقيدا بها‏,‏ كما خلعت الملابس الحمراء التي يرتديها المحكوم عليه بالإعدام عادة بعد الحكم عليه‏'‏ ثم اتفق بعد ذلك مع وزير الداخلية علي أن تشرع النيابة في التحقيق مع رجال الإدارة في المركز الذين رفعت الشكاوي ضدهم بتهمة التعذيب خاصة وأن الشيخ أحمد جعيدي والد المحكوم بإعدامه قد تقدم بشكوي إلي النيابة يتهم فيها الإدارة في هذا المركز‏(‏ البداري‏)‏ باضطهاد ولده الأكبر‏'‏ وهو شقيق المحكوم بإعدامه فأنذره البوليس كمتشرد وأمره أن يبيت كل ليلة في المركز‏'.‏

أكثر من ذلك كشفت التحقيقات عن الوجه السياسي من الحادثة‏,‏ والتي بدأت بسبب الخصومة بين آل جعيدي وبين آلـ همام بسبب العمدية ويبدو أن الأخيرين كانوا مناصرين للحكومة الصدقية مما نتج عنه تعيين عمدة منهم علي جزء من البداري‏,‏ فبدأ يضطهد أفراد من آلـ جعيدي‏'‏ وفي مقدمتهم المحكوم بإعدامه فكان يوجه إليهم تهما بالسرقة وارتكاب الجرائم‏,‏ وكان البوليس يبادر بالتحقيق في هذه التهم‏,‏ وأثناء ذلك وقعت الحوادث المنسوبة إلي مأمور البداري القتيل وإلي آخرين من رجال الإدارة‏'.‏
المهم أن النيابة سارت قدما‏,‏ في التحقيق فأتمت استجواب جميع رجال النيابة والبوليس والإدارة الذين كانوا في الإدارة قبل قتل المأمور وبعد قتله والذين اشتغلوا في التحقيق في قضية القتل أو عاونوا فيه‏.‏ وقد اقتضي التحقيق أيضا الإطلاع علي ملفات طائفة من القضايا المحفوظة من النيابة‏.‏
بدت الأزمة الوزارية التي تسببت فيها القضية بعد أن تقدم نائبان في مجلس النواب عبد الرحمن البيلي وإبراهيم زكي‏,‏ بسؤال لوزير الحقانية عن النتائج التي ترتبت علي التحقيقات في الحوادث وكان مفترضا أن يلقي الوزير بيانا يبرئ فيه ساحة رجال الإدارة أو علي الأقل يخفف من مسئوليتهم وهو ما لم يفعله علي ماهر الأمر الذي بدا من الخبر الطويل الذي نشرته الأهرام يوم‏29‏ يناير عام‏1933.‏
جاء فيه‏:‏ أنه في اليوم السابق استقبل علي ماهر عبد العزيز باشا فهمي رئيس محكمة النقض وظل في مكتبه حتي الرابعة بعد الظهر لإعداد البيان المنتظر وفي الخامسة وصل إلي دار البرلمان ودخل فعلا قاعة اجتماع مجلس النواب وجلس قليلا في انتظار موعد السؤال‏,‏ غير أن ما حدث بعد ذلك لم يكن متوقعا مما نقدمه حسب رواية الأهرام‏..‏ قالت‏:‏
‏'‏بعد دقائق وصل حضرة صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزارة واجتمع في مكتبه بوزير الحقانية نحو عشر دقائق أرسل بعدها يدعو بقية زملائه الوزراء إلي الاجتماع وبعد قليل وصل حضرة صاحب السعادة محمد زكي الإبراشي باشا ناظر الخاصة الملكية وحضر الاجتماع الذي استمر مدة غير قصيرة‏.‏ وغادر رئيس الوزارة الاجتماع ودخل إلي قاعة اجتماع مجلس النواب وظل الوزراء مجتمعين ثم أرسلوا في طلب السكرتير العام للمجلس وطلبوا منه أن يعلن تأجيل الرد علي السؤال إلي يوم الاثنين القادم‏'.‏
علي غير العادة في اجتماعات البرلمان الذي صنعه صدقي باشا‏,‏ والذي كان يقوم علي إقرار طلبات الوزارة والملك‏,‏ شهد هذا الاجتماع اهتماما ملحوظا فقد ازدحمت شرفة الزوار‏'‏ ووقف الجمهور صفوفا صفوفا في الشرفات الأخري‏,‏ وحفلت شرفات السيدات بعدد كبير منهن ولم تتسع المقاعد إلا لبعضهن‏,‏ أما الأخريات فوقفن وراء الجالسات‏'‏ وصل الاهتمام في داخل القاعة إلي أن احتج بعض النواب علي ما نما إلي علمهم من أن وزير المعارف سوف ينوب عن وزير الحقانية في إلقاء البيان المتوقع وقال أحدهم‏,‏ فهيم القيعي‏,‏ أنه من المقبول أن ينوب وزير عن آخر في الأمور الأخري وليس في أمر بهذه الأهمية‏'.‏
ويعلق مراسل جريدتنا في المجلس علي ذلك بأنه قد أشيع في الأروقة أن عبد العزيز فهمي باشا رئيس محكمة النقض قد هدد بالاستقالة إذا جاء رد وزير الحقانية في مجلس النواب مخالفا لما رأته المحكمة‏,‏ غير أنه بعد البحث الدقيق تبين عدم دقة هذه الإشاعة‏,‏ وأن علي ماهر باشا كان قد أعد رده بالاتفاق مع كبار رجال وزارته وذهب إلي المجلس لإلقائه دون أن يطلع عليه أحدا لأنه رأي أن المسألة ترجع إليه وحده فلما اجتمع مع رئيس الوزارة‏'‏ رأي دولته رأيا آخر في بعض محتويات الرد وأرسل في استدعاء بقية الوزراء وعقدوا اجتماعا لم يوفقوا خلاله في التوفيق بين وجهتي نظر رئيس الوزراء ووزير الحقانية‏,‏ وأن الأخير أبي قطعيا إدخال أي تغيير علي رده وتمسك بأن هذه المسألة من اختصاصه‏'.‏
كان ما خلص إليه بيان وزير الحقانية‏,‏ محل رفض رئيس الوزراء أنه‏'‏ مهما يقال من صحة رأي محكمة الجنايات ومن أن حكمها مجرد قصور عن إبراز اعتقادها وتصوير مرادها فلا شك أن الأذهان يبقي فيها أيضا شبهة أن هذا التحقيق ربما لم يصل إلي كشف الواقع علي حقيقته‏,‏ تلك الشبهة التي تبقي في الأذهان مهما تكن ضئيلة إلا أن مجرد قيامها يلقي غشاوة علي عدالة الحكم من جهة تقديره للعقوبة ولا يجعل النفس مطمئنة تمام الاطمئنان إلا إذا خففت في حق المحكوم عليهما فبالنسبة لجعيدي لأن عقوبته هي الإعدام ومتي نفذت استحال الرجوع فيها وبالنسبة لحسن عاشور فقد ظهر حدوث اعتداء عليه قبل ارتكابه الجريمة‏'.‏

وفي تلك الظروف اتخذت السلطات ممثلة في الملك وحكومة صدقي عددا من الخطوات للتخفيف من أثر بيان علي ماهر‏..‏
أولها‏:‏ إصدار الأمر الملكي بتخفيف الحكم علي جعيدي من الإعدام إلي الأشغال الشاقة المؤبدة وتخفيف العقوبة علي حسن عاشور من الأشغال الشاقة المؤبدة إلي الأشغال الشاقة لخمسة عشر عاما‏,‏ وهو ما بدا استجابة لحكم محكمة النقض والإبرام‏.‏

الثاني‏:‏ أن الحكومة بعد أن كانت قد أرجأت قراءة بيانها في مجلس النواب إلي يوم‏2‏ يناير أعدت بيانا مغايرا لذلك الذي كان قد وضعه وزير الحقانية علي ماهر باشا ليقرأه وزير المعارف حلمي عيسي باشا‏,‏ ويبدو أنه لم يشف غلة الرأي العام‏,‏ حتي أن المنشقين عن الوفد‏(‏ السبعة ونصف‏)‏ لم يملكوا سوي أن يتضامنوا مع الحزب الكبير فأصدروا بيانا كان مما جاء فيه أن‏'‏ مأساة البداري ومآسي التعذيب الأخري التي انكشف أمرها بين جلد وإلجام وهتك الأعراض هي وسيلة الوزارة إلي الحكم‏'.‏
الثالث‏:‏ الاستقالة التي رفعها صدقي باشا يوم‏4‏ يناير والتي عزاها إلي ما أصاب الوزارة من وهن‏'‏ الأمر الذي ترتب عليه استعصاء قيامي بالواجب الوطني الذي تفضلتم جلالتكم بإسناده إلي‏'‏ والتي أعقبها إعادة تأليف الوزارة بعد إخراج كل من علي ماهر وعبد الفتاح يحيي منها‏'.‏

الصفحة الأخيرة من القضية كتبها صدقي باشا نفسه عندما ألقي في اليوم التالي لتأليف الوزارة بيانا في مجلس النواب نفي فيه ما جاء في بيان علي باشا ماهر من أن الوزارة قد طلبت منه تغيير شيء في إجابته غير حذف المقترحات المتعلقة بوزارة الداخلية ونظام الأمن العام‏,‏ أو أنه حيل بينه وبين إلقاء الرد الذي كان قد أعده‏.‏
رغم هذا الرد المطول فمما لاشك فيه أن ما حدث في مركز البداري ليلة‏19‏ مارس عام‏1932‏ قد أضعف كثيرا من جبار السياسة المصرية‏,‏ إسماعيل صدقي باشا‏,‏ مما كان إيذانا بسقوطه النهائي بعد أقل من تسعة شهور.

  • Currently 95/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
31 تصويتات / 1064 مشاهدة
نشرت فى 13 يوليو 2010 بواسطة col

ساحة النقاش

مركز حقوق المصري للتدريب القانوني

col
الرؤية: يسعى المركز إلى أن يكون مركز تميّز علمي في مجال الدّراسات القانونية والتدريب علي المحاماة. الرسالة : نسعي الي القضاء علي الامية القانونية ومحاولة النهوض بالخريجين في مجال القانون نحو البحث عن عمل مثمر ومجال مفتوح لغد مشرق دائما.والتطلع الي الافاق الرحيبة ونشر الوعي القانوني بين المواطنين والحكام علي »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

604,191