دراسة جديدة تكشف الأدوار الخفية لقناة «الجزيرة الوثائقية» د.آمال عويضة 4 1276 طباعة المقال

خلفية لابد منها

تعود بداية اختيار الدراسة المعنونة «الدور المعرفي للقناة التليفزيونية الوثائقية، الجزيرة الوثائقية نموذجًا»-والتي تمت مناقشتها في مايو الماضي إلى الرغبة فى التعرف علىواقع القنوات التليفزيونية الوثائقية العربية وأدوارها، في ضوء التأثير الواضح للفضائيات في الحياة اليومية الراهنة للمجتمع العربي، فضلًا عن أهمية الدور المعرفي في تشكيل الوعي وتغيير الاتجاهات والتأثير في قناعات المتلقي، وقدرة هذا الدور على توعية الجماهير أو تضليلها، وذلك بالتطبيق على قناة «الجزيرة الوثائقية» الوليدة، باعتبارها القناة العربية الأولى منذ عام 2007. وكان الهدف إجراء دراسة وصفية تحليلية لاستخلاص الدروس ووضع استراتيجية ممنهجة لمصر لإطلاق قناة «النيل» الوثائقية التي طالما أعلن وزراء الإعلام المتعاقبون عنها للاستفادة من سينمائيي مصر وتراث ضخم يتجاوز عمره قرنًا من الزمان.

ومع بداية العمل على خطة البحث، كما وقر لدي يقينً بأنني سأحظى بمساعدة القائمين على القناة لاهتمام الدراسة بريادتها. وبالفعل تلقيت ترحيبًا مبدئيًا ووعدًا بتوفير المادة المطلوبة أو الحصول على فرصة تدريب داخلي (Internship) بالقناة. إلا أنه في ضوء تطور الأحداث وتواترها -ما بعد العام 2011 (أو عام الحراك العربي كما تصفه الدراسة)-، تعثر العمل مع ظهور عقبات, ورأت القناة قصر دعمها على دعوة لاستضافتي لمدة ثلاثة أيام لحضور مهرجان «الجزيرة» للأفلام الوثائقية في أبريل 2012، مع تكفلي بمصاريف السفر والانتقال وإقامة 10 أيام إضافية أجريت فيها على الرغم من التحفظ نحو 30 مقابلة حول طبيعة العمل اليومي مع موظفي القناة، مع الحصول على بعض المحددات المكتوبة والمتداولة بين القناة والمتعاملين معها، وهو ما تم اعتباره الحد الأدنى من المعلومات المطلوبة.

وتم اختيار الأفلام الخاضعة للتحليل على مدار عام 2012 بالاعتماد على عينة متعددة المراحل؛ ليضم إطارها الزمني فترات العرض اليومية والدورات البرامجية الشهرية المختلفة. وبتتبع المواد على مدار العام تم اكتشاف التوازي بين الأحداث المتواترة وبين ما تبثه القناة بما يشبه نظرية الأواني المستطرقة، وهو ما رصدته في الدراسة بسرد أهم الأحداث التي تزامنت وظهور «الجزيرة» بين عامي 1996 و2012، وأنه كما قال باولو كويلو في كتابه «الخيميائي: ساحر الصحراء» إن كل الأشياء إنما هي شيء واحد، وإن النظر في حبة رمل واحدة قد يغنيك عن أن تجوب الصحارى، وهكذا قد يكون تحليل مضمون عمل واحد من بين 124 عملًا هي حجم العينة، إنما يكشف بصورة مبدئية عن توجهات «الجزيرة الوثائقية» بمعاونة فرق عمل بعينها وخصوصًا بعد العام 2009، لتتحول القناة, التي انطلقت بغرض التثقيف والتوعية, إلى صورة مصغرة عن «الجزيرة» الأم، ولتكون أعمالها بمثابة ترمومتر كاشف لسياسة قطر تجاه مصر ومنطقة الشرق الأوسط إجمالًا بما فيها تركيا وإسرائيل.

وعلى الرغم من نتائج الدراسة الختامية التي لم تأت في صالح مهنية القناة وموضوعيتها، إلا أنها لم تكن إلا دراسة علمية بدأت من منطلق تثمين قدرة «قطر» الإمارة الصغيرة على إنشاء أول قناة وثائقية تبث على مدار اليوم باللغة العربية أعمالًا من إنتاجها وأخرى مستوردة، ليكشف الغرق في تفاصيل القناة وأعمالها المتاحة بنسبة تتجاوز 90% على الإنترنت عن الكثير مما نتمنى أن يستوعبه القائمون على منظومة الإعلام المصري؛ وخصوصًا أن تلك المواد المعروضة بالمجان تساهم في كتابة تاريخ متحيز وتروج لأفكار تجعل من المتشددين مجاهدين ونجومًا، كما تكرس للصورة السلبية لمصر وكأنها كانت هكذا دومًا، وتجعل من الفساد والظلم والقهر مرادافات للعيش فيها، ولعل عينة الدراسة المحدودة رغم امتدادها على مدار عام كامل ونسبها المئوية تكون مؤشرًا لما يمكن قوله، ويفسر الكثير من الأمور، ويجيب على بعض علامات الاستفهام.

مآرب التوثيق الأخرى

عندما كتب المفكر الفرنسي «ريجيس دوبريه» في كتابه «حياة الصورة وموتها» (ترجمة المغربي فريد الزاهي) أن الإنسان الذي يمر وهو يعرف أنه فقط عابر يرغب في البقاء؛ ولذا يلتقط الصور الفوتوغرافية، ويصنع الأفلام كي يحفظ الأشياء المهددة بالزوال أو الانقراض، فإنه لم يقترب سوى من دافع وحيد خلف التوثيق الذي لم ينج من أهداف تلونت بتوجهات سياسية وفكرية واقتصادية، ووظائف تتماس مع رغبة الممول الواقف خلف تلك الأعمال للتأثير في تغيير الاتجاهات أو إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظره.

إجمالًا، لا ينفصل النظر إلى تجربة «الجزيرة الوثائقية»عن استراتيجيات وآليات الدعاية السياسية، وأشهرها: الدعاية الألمانية في الحرب العالمية الثانية التي تكشفت بعد هزيمة ألمانيا، وما اتبعته المخابرات الأمريكية للوقوف أمام الشيوعية في الستينيات بتأسيس تيار مناهض على مدار عقود ليكون أحد أسباب سقوط الاتحاد السوفيتي القديم. وفي السياق نفسه تتبلور أهمية دراسة القنوات الفضائية الممولة من دول بعينها، بعد أن تحولت متابعة برامجها في عالمنا العربي إلى ظاهرة لها أسبابها الاجتماعية والسياسية، وكذلك العقائدية والمادية, وخصوصًا بعد رخص أسعار اللواقط؛ فضلًا عن الأسباب الثقافية التي لا تنفصل عن تراث الثقافة الشفاهية في المجتمعات العربية، وارتفاع نسب الأمية الأبجدية والمعرفية. ولا ينفصل ارتباط الإعلام العربي بأهداف مالكيه عن سعيهم لفرض نموذجهم الفكري، وهو ما وصفته بعض دراسات الإعلام بـ «الاقتصاد السياسي للفضائيات العربية»، وارتباط ذلك بالرغبة في إعادة توزيع خريطة مراكز الثقل في إطار ظاهرة التوسع الإعلامي الاستعماري، مع تصدير الأذواق والقيم ونمط الحياة، فضلاً عن تسويق «الصناعات الثقافية» أو «السلع الاستهلاكية الثقافية» التي تهدف إلى نشر أفكار ومعتقدات، حيث أصبح الإعلام وسيلة تنميط اجتماعي، وتنشئة تربوية وثقافية، وتوجيه سياسي، وتسويق مسلكي، الأمر الذي جعل النفوذ الإعلامي لأية دولة أحد أهم مظاهر قوتها على الصعيدين الإقليمي والدولي.

تثمين دور «الوثائقية»

بصفة عامة، لا يختلف العاملون في مجال صناعة السينما الوثائقية في مصر والعالم العربي على تثمين الدور الذي قامت به قناة «الجزيرة الوثائقية» من إعادة إحياء والاهتمام بصناعة الوثائقيات التي ماتت اكلينيكيًا في العقود الأخيرة بعد أن اتجه معظم صناعها إلى مجال الفيلم الروائي. كما شهد سوق صناعة السينما الوثائقية حركة دائبة وانتعاشًا ملحوظًا منذ أعلنت شبكة «الجزيرة» القطرية عن خطتها لإنشاء قناة وثائقية والتي لا تنفصل عن تداعيات الانقلاب الأبيض الذي قام به الأمير السابق «حمد بن خليفة آل ثاني» على والده في 27 يونيو 1995، والذي أعقبه في العام التالي إطلاق «الجزيرة» التي توسعت كشبكة وصولًا إلى إطلاق «الوثائقية» كذراع ثقافيا في يناير عام 2007، كي تكون نافذة مفتوحة للجمهور العربي لمشاهدة الأعمال التي تنتمي إلى هذا النوع، والتي تؤسس مع انتشارها لثقافة بصرية وحوار يسهم في إثراء حصيلة المتلقي من معارف وأفكار تتفاعل والأحداث والتحولات. كما نجحت القناة باستخدام البث الفضائي والتطور التكنولوجي عبر الإنترنت في بث إنتاجها والتخلص للأبد من العراقيل التي طالما وقفت من قبل في طريق انتشار الأعمال الوثائقية. كما أتاحت القناة فرصًا للتعرف على ثقافات مختلفة وأفكار ورؤى لسد الفجوة في معرفة الآخر، حتى مع انحياز القناة فيما تقدمه لما تراه، بدعوى الحفاظ على العقيدة واللغة والقيم والعادات والتقاليد.

عثرات «الوثائقية»

عمدت االجزيرة الوثائقية إلى البدء من نقطة الصفر في بناء أرشيف أعمال وثائقية خاص بها وحدها، إذ لم يكن جل همها دعم الصناعة الوثائقية في العالم العربي واستكمال مسيرة التجارب الوثائقية العربية السابقة في مصر والشام والمغرب العربي.وكان بإمكان القائمين عليها شراء حق بث آلاف الأعمال الوثائقية التي تم صنعها على امتداد العالم العربي في فترات سابقة، والتي من المرجح أن تقل أسعارها عما يتم إنفاقه لإنتاج أعمال حديثة، فضلًا عما تمنحه للمشاهد الناطق بالعربية من فرصة التعرف على التراث الوثائقي العربي، وعلى رموزه الذين لم تسع القناة للاستفادة منهم عدا دعوة البعض لحضور مهرجانها السنوي، ومن بينهم الراحل «توفيق صالح». كما سعت القناة إلى الاستئثار والاحتكار لإنتاج المعرفة بالاعتماد على قدرة الدولة الممولة على الإنفاق لإنتاج «سلع معرفية» موحدة القالب، تستند إلى القيم التي ترغب في الدفاع عنها والترويج لها, وتأسيس قيم ثقافية ومعايير مغايرة بمجموعات عمل تم اختيارها طبقًا لمفهوم أهل الثقة في الأغلب، وليس أهل الخبرة.

كما أخفقت القناة إلى حد كبير في إشباع حاجات المتلقي العربي المعرفية المتنوعة, لسيطرة أولويات فكرية على ما تقدمه له طبقًا لتوجهات الدولة الممولة التي تفرض على أعمال القناة محاذير والتزامات، مع استبعاد الأعمال أو الأفكار التي تتعارض مع سياستها أو تصطدم بما يُعرف بالإسلام السياسي، فضلًا عن استغراق القناة في مناهضة ما لا يتفق مع نهجها من اتجاهات فكرية ومذاهب دينية وأنظمة في المنطقة، مع تحاشي إنتاج أو بث الأعمال ذات التوجه البحثي الموضوعي أو التنويري, وذلك في ضوء انضواء القناة تحت وصاية الدولة, حيث ينص مرسوم أميري على أن أموال الشبكة إجمالًا الثابتة والمنقولة من الأموال العامة المملوكة للدولة ملكية خاصة، وتخضع لأحكامها. واستثناء من ذلك، لا يجوز الحجز عليها لاستيفاء أي دين، كما لا يجوز اكتساب ملكيتها بالاستيلاء أو التقادم مهما طالت مدته. وإجمالًا، تضخ الإمارة سنويًا ملايين الدولارات لتشغيل الشبكة دون عوائد مجزية، وتظل قيمة الميزانية الإجمالية بمثابة خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه بالسؤال أو البحث، وإن كان هناك اتفاق يتعلق بتحديد متوسط تكلفة دقيقة الإنتاج للأعمال الوثائقية بنحو ألف دولار، مما رفع سقف المنافسة لصالح الشبكة التي استأثرت بسوق إنتاج الوثائقيات لصالح شركات بعينها، ومن أجل موضوعات بعينها. إذ على سبيل المثال اهتمت القناة بإنتاج عشرات الأعمال بميزانيات ضخمة عن الحراك العربي اهتمت فيها بدعم تيار الإسلام السياسي، في الوقت الذي امتنعت فيه عن متابعة ما يحدث في منطقة الخليج عمومًا، وقطر على وجه الخصوص.

من جهة أخرى، وقعت القناة في فخ الانقياد بموضوعات أعمالها إلى مدح بعض الدول والمؤسسات والأفراد المتفقين مع توجهاتها، أو في فخ «المناسباتية». كذلك، وعلى الرغم مما تتمتع به القناة من إمكانات وفرق مهنية، إلا أنها لم تتمكن من حيث الشكل أيضًا من تنويع أشكال المادة المقدمة (باستيعاب الفروق بين الفيلم، والتحقيق، والمجلة، والتقرير، والخبر، وإتاحة فرص لمبادرات تجريبية أو تشجيع الإبداع والابتكار)، فضلًا عن قولبة أعمال القناة في إطار نمط بعينه مع فرضه على الشركات المتعاونة التي خلقت لنفسها نوعًا من الرقابة الذاتية لنيل الموافقات الإنتاجية.

من حيث المضمون، لم تنجح القناة في التمهيد أو تأسيس تيار معرفي واع، أو حفر عمق ثقافي, وذلك باعتمادها على الأعمال المستوردة, بما يترتب عليه حرمان المتلقي من التنوع الإيجابي بتعريضه لمضمون لم ينتج خصيصًا له، بينما ركزت في أعمالها المنتجة على الموضوعات الإخبارية ذات الصبغة السياسية والتي تهتم بتناول التاريخ المعاصر، وتحاشت في الوقت نفسه الدفاع عن الفئات المستضعفة من الأقليات الدينية والعرقية والنساء وذوي الاحتياجات الخاصة، أو التركيز على الأعمال الملهمة المحفزة على التعلم. كما لم تستفد القناة من التأسيس الفكري عبر خبرات المشاركين في مجلتها الإلكترونية، وإصداراتها السنوية. كذلك قصرت القناة أعمالها المقدمة للدفاع عن الدين الإسلامي على التوجه الدعوي، وتبنت القناة الدفاع عن إسلامية فلسطين مقابل عروبتها، والتحيز لصالح تيار بعينه في قطاع غزة والتقليل من شأن تيار آخر استقر في رام الله؛ لتأتي أعمال القناة تقريرية دعائية عالية النبرة، مدرسية القالب، تمارس النقل السطحي للواقع بالاعتماد على عنصر «المقابلات». وهو ما يكشف تعثر القناة في إثارة أو تشجيع حوار ذكي وموضوعي، أو أن تكون إضافة فعلية للمساهمة في دفع وتنوير المجتمع نحو الوعي والحرية، أو تشكيل نقلة نوعية فكرية ذات رسالة واضحة، واستراتيجية مدروسة تعمل لصالح الهوية العربية والانتماء القومي والتنمية الإقليمية في الداخل، أو تسعى لتصحيح صورة أو نقل وجهة نظر موضوعية إلى الخارج.

مراحل ومفاتيح على الطريق بصفة عامة، تكشف متابعة إنتاج القناة عن مرحلتين محددتين كالتالي:

•الأولى: مرحلة ما قبل التأسيس وما بعد الانطلاق حتى أبريل 2008، والتي تميزت بالتركيز على أهل الجنوب والهامشيين، واقتصر التعاون فيها على عدد محدود من الشركات ومنها: «هوت سبوت» التي استعانت بخبرات عدد من مخرجي الوثائقيات من الكفاءات المصرية من خريجي معهد السينما أمثال: سعد هنداوي، وتامر محسن، وأحمد رشوان، وعلي شوقي، وتامر السعيد، وأحمد حسونة، وسعاد شوقي، وغيرهم، حيث تميزت أعمال تلك الفترة بالخروج عن الإطار الجغرافي، والبحث عن أماكن وقصص مجهولة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها.

•الثانية: مرحلة الاستقرار أو ما بعد أبريل 2008 وتولي المصري «أحمد محفوظ» إدارة القناة، والتي تراجع فيها الاهتمام من حيث الكم والكيف بالعالم النامي أو أهل الجنوب، مع التركيز على الموضوعات التي تصب في اتجاه غضب وحراك الشارع العربي، مع الاستمرار في استيراد الأعمال التي تهتم بالسفر والتجوال والطبيعة المتنوعة وتحاشي استيراد الأعمال المثيرة للجدل. كما اقتصر التعامل على عدد من الشركات التي انضوت تحت توجه فكري متوائم مع القناة.

إجمالًا, وطبقًا للإطار الفكري الحاكم لمواد القناة, تتكرر كلمات ثلاث مفتاحية، وهي: مصر والإسلام وفلسطين، حيث تتابع القناة باهتمام تفاصيل الحياة اليومية في «فلسطين» وخصوصا في قطاع «غزة، كما تضع «مصر» تحت ميكروسكوب النقد السلبي، كما تنصب القناة من نفسها مدافعة عن تيار الإسلام السني المحافظ، وذلك بتقديم تصور جزئي للواقع المحيط بما يكرس للوعي الزائف المشوه والمغلوط الذي يشكل دعاية لتيار (الإسلام السياسي)، أو يكرس لأوضاع سائدة ويدافع عن تيار بعينه (فلسطين)، أو يدعو للتمرد (مصر) دون رؤية نقدية تطرح البدائل البناءة.

وقد انعكس الاهتمام بمصر فى المرحلتين السابقة الإشارة إليهما، حيث تميز إنتاج فترة ما قبل تولي «أحمد محفوظ» الإدارة بتقديم موضوعات تتسم بالاقتراب الموضوعي الحذر من تاريخ مصر، ومنها: سلسلة الاغتيالات السياسية التي تناولت في جزءين مقتل حسن البنا والسادات، فضلًا عن عمل عن «سعد زغلول» انطلاقًا من مذكراته كزعيم وإنسان بكل تناقضاته وبكل موضوعية، وغيرها من الأعمال التي توقفت إعادة بثها في المرحلة التالية بداية من عام 2009، حيث ركزت الأعمال على الجوانب السلبية مع دعم المعارضة وحراك الشباب. كما اتخذت بعدًا متحيزًا, كالمقدم في «محمد علي» بجزءيه باعتباره المراوغ الممسك بالمسبحة بينما يتخلص من أعدائه في مذبحة القلعة؛ بينما قدمت «محمد نجيب الرئيس المنسي» مسالمًا يرفض طلب مجلس قيادة الثورة بإعدام الملك «فاروق»، ويحرص على توديعه. كما تتناول الأعمال ذات التوجه السلبي في المرحلة التالية من توالوا على رأس السلطة باتباع أسلوب التنميط أو الصور النمطية أي «إسباغ خصائص ثابتة ومتصلبة على فرد أو جماعة بشرية ما»، ليصبح على سبيل المثال: «السادات» هو «المدعي الخبيث»، و»عبد الناصر» هو «الخائن للإخوان المسلمين»، و»مبارك» هو «الفاسد»، فضلًا عن مناهضة أي تدخل للمجلس الأعلى للقوات المسلحة فى فترة ما بعد ثورة 2011، وهو ما يتفق مع توجه الأعمال المنتجة لصالح «الجزيرة الإخبارية», بما يحسم طبيعة العلاقة بين قنوات الجزيرة-من ذلك سلسلة «الإسلاميون»، لتحسين صورة حركات الإسلام السياسي، و»مملكة الصمت» عن دعم «عبد الناصر» لوصول البعث إلى السلطة في سوريا، و»الإخوان المسلمون في مصر»، و»ملف الإخوان نغمة محظورة في لحن مستمر»، و»مبارك والإخوان» حيث يستعين العمل الأخير ساخرًا بصور للسادات ومبارك بينما يتردد مقطع من أغنية للأطفال بصوت «عبد المنعم مدبولي»: «كان فيه واد اسمه الشاطر عمرو وكمان كان فيه جدو بشنبات. وينتهي العمل بمشهد حرق مقر الحزب الوطني، يليه صورة لاصطفاف رجال جماعة الأخوان أمام مقرهم بالمقطم بعد تولي رجلهم السلطة في 2013، بينما تنزل لوحة أخيرة للعنوان، مع حذف كلمة مبارك لتصبح « الإخوان و... ؟ «، باعتبارهم الورقة الأكثر ثباتًا وتجذرًا في الشارع المصري طبقا للعمل.

كما حرصت القناة على إنتاج عدد من الأعمال لصالحها عن شخصيات اشتهرت بعدائها أو خلافها مع رؤساء مصر المتعاقبين، على سبيل المثال: «الجنرال» عن سعد الشاذلي المعارض للسادات؛و»رحلة مؤسسة ومسيرة بطريرك» عن «البابا شنودة» رجل الكنيسة القبطية الأول، حيث يلمح العمل إلى أن للكنيسة مشروعًا خاصًا بها أدى لصدامها مع الرئيس والأغلبية؛ وهناك «فارس المنابر الشيخ كشك» المعارض لناصر والسادات؛ و»العَالِم والإيمان» عن مصطفى محمود الذي اشتهر بعدائه لعبد الناصر، والذي اختتم حياته بمجموعة من المقالات التي أثار بها جدلًا واسعًا لرفضه شفاعة آل البيت متفقًا مع شيوخ السلفية، ورافضًا ما تعارف عليه شيوخ الصوفيون وكثير من المصريين البسطاء.

أعمال مثيرة للانتباه

تكشف الدراسة عن اهتمام القناة وترويجها لأفكار ما يعرف بظاهرة «شيوخ الإسلام السياسي» (حيث أنتجت القناة أعمالًا عن كل من «يوسف القرضاوي»، و»عبد الحميد كشك»، و»عمر عبد الرحمن» وغيرهم في العالم العربي)، في مقابل تجاهل التنويريين أمثال الشيخ «محمد عبده»، أو الداعين إلى إعادة قراءة النصوص والبحث المغاير فيها (أمثال: نصر حامد أبو زيد، وخليل عبد الكريم، وسيد القمني، ومحمد شحرور، وغيرهم)، كما يتضح ركونها للتقليديين أمثال المحقق اللغوي والباحث الإسلامي «محمد محمود شاكر» في مقابل تجاهل عميد الأدب العربي «طه حسين»، والحذر في تناول سيرة مطربة العرب الأولى «أم كلثوم» أو «توفيق الحكيم»، أو «نجيب محفوظ»، وذلك عبر أعمال لم يتم التخطيط لها إلا بعد عام 2011، ولم يتم البث إلا في 2015 (فبراير، مارس، أبريل)، حيث جاء الأول بعنوان «أم كلثوم صاحبة العصمة»، في إشارة لعلاقتها بالقصر والملك فاروق، بينما خصص «النجيب» جزء حول محاولة اغتياله، مع استضافة متحدث سلفي لتوضيح أسباب إهدار دمه. من جهة أخرى، قدمت القناة عملًا عن العالم المصري «د.مصطفى مشرفة» عنونته باسم «أينشتاين العرب» للخروج به من انتمائه المصري، مع التركيز في التناول على ضِيق إسرائيل بأبحاثه، وما تردد عن تورط القصر في مقتله.

وبصفة عامة، لا ينفصل اختيار القناة لبث أعمالها ذات البعد التاريخي عن سياق ذي مغزى، بما يعكس إستراتيجية وخطة تؤثر وتتأثر بالأحداث, على الرغم من دعوى اختلاف الوثائقية عن الإخبارية: كأن يتزامن إنتاج وعرض رباعية «الأزهر» مع الأحداث التي أدت في 2012 إلى وصول عضو جماعة الإخوان المسلمين إلى قصر الرئاسة، حيث يكشف هذا العمل على سبيل المثال عن مغازلة واضحة للأزهر كمؤسسة دينية مالت نحو مشروع الإسلام السياسي وعودة دولة الخلافة للحياة، مع تصدر مستشار شيخ «الأزهر» وعضو هيئة كبار علماء الأزهر المقرب من جماعة الإخوان «حسن الشافعي» للمشهد، وتراجع الترويج لمشروع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين –الذي دعمته «قطر» أيضًا قبل الثورة بهدف سحب البساط من تحت أقدام «الأزهر»-.

يكشف العمل عن انحياز متعمد؛ حيث تتصدر اللقطة الافتتاحية مقطع لمؤسس علم الاجتماع العربي «ابن خلدون» يؤكد فيه أن الدول العظيمة أساسها ديني، ونصه: «إن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين: إما من نبوة أو دعوة حق. وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة». ثم يبدأ العمل بمشهد افتتاحي بإضاءة خافتة لمجموعة من الأشخاص يدلفون عبر باب، هم أقرب إلى الأشباح بملابسهم وعماماتهم السود، في إشارة للفاطميين الذين خرجوا من السرداب لاقتناص الحكم في مصر من يد الوالي الإخشيدي الجالس في إعياء على كرسيه مرتديًا البياض. هكذا يختصر المشهد الافتتاحي الصراع بين أبيض (سني)، وأسود (شيعي) في تحيز لفتنة تاريخية أعقبت مقتل الإمام علي ومذبحة آل بيت النبي في كربلاء على يد جيش معاوية. ويركز العمل على دور السياسى «الأزهر» بربطه بحكام مصر, متجاهلًا تفاصيل بناء المسجد وكيفية اختيار موقعه وتصميمه وغير ذلك، مكتفيًا بتسييس تاريخه واعتباره موجهًا ومسئولًا عن اندلاع كل الثورات التي قام بها المصريون، فضلًا عن تشويه طموح «المعز» الفاطمي، وتمجيد «صلاح الدين» السني الذي نجح في إنقاذ الأزهر من أن يكون, كما «أراده الفاطميون, جسرًا لعبور التشيع إلى العقلية والنفسية المصرية، لكن متغيرات السياسة جعلته يقوم برحلة عكسية لمدة عشرة قرون، يجاهد ليكون ذراعًا سنيًا وفيًا، ومعهدًا علميًا متميزًا، وميدانًا نضاليًا يعبئ الأمة، يعبر عن الإجماع العام، متعدد المذاهب، عابرًا للقومية والقطرية، حكايته تختصر حكايات كثيرة، وصورته تحجب وراءها الكثير من التفاصيل». ولا يغفل الجزء الثاني من رباعية الأزهر تذييل مشهده الأخير بعبارة تلخص رأي العمل في «محمد علي» مؤسس مصر الحديثة: «إن النقطة السوداء في تاريخ محمد علي هي تحجيم دور «الأزهر» والاهتمام بالبعثات والمدارس المدنية».

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 90 مشاهدة
نشرت فى 16 سبتمبر 2016 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,776,779