الآلة والأداة في اللغة العربية

في ضوء عبقرية اللغة ومطالب التمدن الحديث


كل كائن حيٍّ، يدخلُ عالم الحياة طفلاً، ثم يتدرَّج إلى الشباب، فالكهولة، فالشيخوخة التي تُسلِم إلى الفناء، إلا كائنًا واحدًا كان استثناءً من القاعدة، ذلك هو هذه اللغة؛ فإنها دخلتْ عالم الحياة طفلةً كما تدخلُها الأحياء كافة، ثم درجت في مراحلها التأريخية، حتى اكتملت قوَّتها، فوقفت لا تَريمُ عند شباب دائم لا يَشِيب، بل يَشِبُّ شِبابًا[1]، ويتجدَّد على هرم الزمن، آخذًا في نموِّه صعدًا على نظام الارتقاء، ذلك بما استكنَّ في طبيعة تكوينِها من القوة التي تعطيها الحياةَ الدائمة من باطنها الحي، وتحفظ عليها شباب السن، مع استبقائها متميزة في نفسها.

 

وُلِدت هذه اللغة الكريمة العظيمة في زمنٍ قديم لا يُعرَف أوَّله، واجتازت مراحل تطوُّرها الطبيعي التاريخي، حتى شارَفَت الجاهلية الأخيرة مكتمِلة النضج، تتفصَّد عروقها فتوَّة وقوة وحياة، ومتميزة باستعلانِ الشأن واستعلائه، بصيرورتها عمود القومية ولسان مفاخرها ومآثرها في الوجود.

 

ثم نزل بها "التنزيل" لتكونَ عمود الدعوة العظمى، ولسان الشريعة والعقيدة والحضارة والفكر، وانساحت مع العظماء الفاتحين العرب في جنبات الأرض شرقًا وغربًا، وامتدَّت معهم امتداد المحيط الأعظم لا تُدرَك شواطئه، فجَرَت على يَبَس الصعيد هنا وهناك ماءً وجَنًى، واستسلمت لسحر بيانها الأفئدةُ، فتناغى بها مَن ليسوا من أهلها، واستجابت لكل نداء، وتلوَّنت بلون كل إناء، وكان لها على كل لسان مذاق.

 

وبعد أن وَسِعت كتاب الله لفظًا وغاية، آية آية، ووَفَت بمطالب الإسلام العظمى في الدعوة والتبشير والفتح، جَرَت مع السياسة والإدارة أشواطًا بعيدة، واستلهمتها الحضارة والنفس الإنسانية كما استلهمها الدين عقيدةً وشريعة ونظامًا، فأمدَّتهما بما طمحتا إليه من إبانة، وما أدركها في طريقها الطويل وَناءٌ، ونهضت بمنطق "أرسطو"، وعبَّرت فأحسنت التعبير عن فلسفة "الإغريق"، وثقافات "الصين" و"الهند"، وأساطير "فارس"، وانداحت دائرتها للعلوم والفنون والآداب التي عرَفتها عصور العرب الذهبية، وكانت تُربِي على ثلاثمائةٍ عدًّا، بينها كثير مما لم يهتدِ إليه أهل التمدُّن الحديث إلا بعد أن نضج تمدُّنهم في المائة التاسعةَ عَشْرةَ الميلادية؛ كالسياسة المدنية والشرعية، وتدبير المنزل والاقتصاد السياسي، والعمران، والاجتماع، وفنون الحرب وآلاتها، ونحو ذلك من مبتكرات العقل التي جالت فيها أقلام القوم، وأتت منها بالبدائع والروائع.

 

وكما عَذُبت في فمِ ابن البادية وانسجَمت مع نوازعه وأفكاره وطبيعة بداوتِه، وأبانت فأجادت الإبانة عن مقاصده ورغباته وأهوائه، عَذُبت كذلك في فمِ الحضري المثقَّف الذي رَبِي في أحضان الترف والنعيم، وأسلست قيادَها لمطالب معيشته، ونوازعه النفسية، وخطراته الفكرية والشعورية، وحاجاته العمرانية والمدنية، وتلوَّنت بألوان حياته في جدِّه وهزله، ومدَّت له من أسبابها في كل شأن ما شاء، وما خانته في أربٍ من آرابِه.

 

حتى إذا انحسر سلطان العرب من هنا ومن هناك، وتراجع التمدُّن العربي الإسلامي أمام طوفان الغُزَاة - المغول والصليبيين والإسبان - انحسر سلطانها من الشرق والغرب، وسال سَيْل العُجْمة في الأوطان العربية، وهَجَمت الألفاظ الأعجمية الدَّخِلية على الألفاظ العربية الأصيلة في الدواوين، فأبعدَتْها منها جملةً، وزاحمت لغة التخاطب في المنازل والأسواق والمجتمعات، فاحتلَّت آلافٌ من مواضعاتِها مكانَ المواضعات العربية في التجارة والصناعة والزراعة ونحوها من شؤون الحياة.

 

وأعان على ذلك شيوعُ الجهل والأمِّية في الناس، وخمود جَذْوَة القومية العربية، وفُتُور الحماسة للغة العربية، بما رَزَأت به الدُّولُ الأعجمية الباغية تلك المجتمعاتِ؛ من سد منافذ المعرفة بوجوه أجيالها الناشئة، وتغليب سلطان لغاتها على سلطان اللغة العربية، تغليبًا حصرها في دائرة ضيِّقة بين أسوار عالية تحجب عنها الأُفُق الذي تطمح ببصرها إليه.

 

حتى إذا تنفَّس فجر هذا العصر، وبدأت الأمَّة العربية تتنسَّم نسيم الحرية، وتحاولُ أن تسترجِعَ الذاهب من سلطانها السياسي والقومي والاجتماعي.. كانت المدنيَّة العصرية قد دَخَلت الأقطار العربية على حظوظ متفاوتة من القوة والضعف، بعلومها، وفنونها، وصناعاتها، ومخترعاتها، وضروب أثاثها ورياشها وآنِيَتها، وصنوف مطاعمها ومشاربها؛ وطَفِقَت تفرضُ على اللغة العربية أسماءها الدخيلة التي تميزها أفواجًا إثر أفواج، كما تفرضُ نفسها على الحياة العربية بكل مقوِّماتها ومفاهيمها ومسمياتها وأعيان آلاتها وأدواتها في مختلف مظاهر الحضارة.

 

هنا وقفتِ اللغةُ العربية أمام حالة جديدة خطيرة من غزوِ اللغات الأوربية الحديثة بعد غزوِ اللغات الشرقية القديمة، تؤذنُها بشرٍّ مستطير أثيم، واحتلالٍ لُغَوي أجنبي مقيم، وتقتضيها الاستعصام بقُوَاها الطبيعية لدَحْر هذا الغزو وهزيمته.

 

وبدأت في غمرةِ الموقف تتأمَّل تأمُّل المستبصِر في العواقب، ما الذي تصنعه: هل تأذن لهذه الألفاظ الأعجمية الدخيلة أن يسيل سيلُها عليها، وتغرقَها بصِيَغها وأشكالها ولُغَاتها، بل رطاناتها المتعدِّدة، عن طواعية واستسلام؟ أو تقبلها كلها أو بعضها بعد إخضاعها لأصول التعريب، كما فعلت إبَّان تاريخها المديد، حين اتصلت بشعوب الأرض اتصال الند بالند، أو اتصال الغالب بالمغلوب، فأخذت قليلاً وأعطت كثيرًا، وما فرَّطت من مقوِّمات شخصيتها الأصيلة بشيء؟ أو تضطلع بما تطلبه الحياة منها من ألفاظ عربية خالصة تؤدي المعاني الأجنبية بالنقل وبالاشتقاق من صميم مادَّتها الأصيلة، وهي بها فارهة وغنية أكبر الغنى؟

 

وفي هذا نشِب الخلاف بين اللُّغَويين وجماعات من الدارسين والباحثين، فذهب كل فريق مذهبًا ينبع من طبيعة دراسته وتلقِّيه ووعيه الخاص، ثم لم يلبث أن خفَّت حدَّته، وطَفِق يزول رويدًا رويدًا كلما تطوَّرت الحياة العقلية والعلمية، وازداد الشعور القومي، حتى سيطر الرأي الذي يحقِّق سلطان اللغة العربية وقدرتها على الاستقلال بنفسها في التعبير عن الخلجات والأفكار، وعن شؤون الحياة جليلِها ودقيقِها، وعن مطالب العلوم والفنون والصناعات، مستغنيةً بثروتها عن الاستعارة من اللغات، إلا ما تقضي به الضرورة في بعض الحالات.

 

على أنه ينبغي أن نذكرَ في صراحةٍ تامَّة أن المدى أمام اللغة العربية في هذه الأشياء ما يزال بعيدًا، وأنه كلما قَرُبَ بعُدَ؛ ذلك لأن الحضارة تزداد في كل يوم تقدمًا وانبساطًا واتساعًا وتعقُّدًا بكثرة ما يتطور أو يتجدد من شؤونها، ولا سيما شؤون الفنون والصناعات والمخترعات، وذلك كله يتقاضى علماء اللغة أن يدأبوا ويواصلوا الدأب، وأن يضطلعوا دائمًا في غير تلبث ولا وَناء، بمجهود عنيف مستمر يتكافأ مع حركة الإنتاج المتدفق، وحوافزه السريعة التي لا تستأني ولا تعرف البطء؛ لأن الحياة العصرية مدفوعة بالحركة والسرعة والنشاط الذي لا يفتر، ومَن ونى عن الاندفاع معها خلفته وراءها، فيظل في الساقة أو وراء الساقة منبتًّا.

 

وإن أوَّل ما يتقاضى علماء اللغة المبادرة إلى التعبير عنه، وتسميته تسميات عربية دقيقة، هو ما يدور بين الناس من أسباب العيش ووسائله، وما يكون اتصاله بحياتهم أقرب من غيره، وما لا ينفصلون عن تناوله واستعماله لحظةً من اللحظات؛ من أجهزة، وآلات، وأدوات كهربية وبخارية، يمارسونها في المصانع، أو يرتفقون بها في المنازل والفنادق والمطاعم، وهي وما إليها من صنوف الرِّياش والأثاث والماعون من الكثرة والتنوع، والتعقيد والشيوع، بالمكان الذي لا يوصف، ومعظمها لا يتطلب تسميات عربية فصيحة مأنوسة تسُوغها[2] الأذواق.



[1] الشِّباب، بالكسر: النشاط.

[2] في اللغة: "ساغ الشراب سوغًا وسواغًا سهل مدخله، وسغته أسوغه، وسغته أسيغه، لازم ومتعدٍّ".

 



   



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_Language/0/57650/#ixzz2cJNzT2Oa

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 85 مشاهدة
نشرت فى 19 أغسطس 2013 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,598,226