حين تغيب الثقة ويسقط الحوار
بقلم: فاروق جويدة
4/5/2012
منذ قيام ثورة يناير ورحيل رأس النظام السابق وانا أحذر من مأساة الانقسامات في الشارع المصري بين القوي السياسية وغير السياسية,
وكيف أنها تمثل ظاهرة خطيرة تهدد أمن مصر واستقرارها..في كل يوم كانت دائرة الانقسام تتسع وتحمل معها طوائف جديدة وبقدر ماكان التوحد شيئا رائعا في ايام الثورة بقدر ما فشلت جميع القوي في الاتفاق علي شيء..أي شيء.. ولا يستطيع الإنسان ان يبريء طرفا من الأطراف في هذه الجريمة التي إشترك فيها الجميع في سلطة القرار أو خارجها.. وقد حذرت من البداية ان مخاطر الانقسام سوف تدفع بنا بالضرورة إلي مناطق الصدام وهذا ما حدث وما تأكدت شواهده في الأيام الأخيرة حيث بدا واضحا ان حالة التشرذم التي تشهدها مصر الآن هي أخطر مايراه المراقبون امام وطن يتفكك وشعب فقد القدرة علي إدارة شئونه.
لايوجد طرف في مصر الأن يثق في طرف آخر.. جميع القوي لا تثق في بعضها البعض وأصبح الشك وسوء الظن هو العامل المشترك بين هذه القوي ولا أتصور شعبا يريد بناء وطن جديد والخروج إلي مستقبل أفضل وهو لا يثق فيمن يديرون شئونه ويتحملون مسئولياته..
< لا توجد ثقة الآن بين المجلس العسكري وشباب الثورة لأن المجلس وإن كان قد إعترف بدور الشباب إلا أنه فيما يبدو لم يصل إلي اقتناع كامل بأن ما حدث في مصر كان بالفعل ثورة وان علي الشباب ان يقبل الأمر الواقع بعد ان تغير رئيس الدولة وسقط الحزب الوطني واختفت بعض رموز العهد البائد..المجلس العسكري كان يري ان ذلك يكفي بينما كان الشباب يريدون تغييرا شاملا في مؤسسات الدولة لأننا امام ثورة, وهنا كان الإنقسام ثم كان الصدام ثم كان غياب الثقة بين من قاموا بالثورة وشاركوا فيها ومن تحمل مسئولية حمايتها. وحين ارتفعت الهتافات من الشباب في الشارع ضد المجلس العسكري كان رد الفعل الطبيعي فتح بعض الملفات في قضايا التمويل والتدريب والتشويه واتسعت امام هذا كله الفجوة بين شباب الثورة والمجلس العسكري حتي انتهت تماما العلاقة بينهما في ظل غياب كامل للثقة وصدام أصبح واضحا امام الجميع.
< في الوقت الذي شاركت فيه جماعة الإخوان المسلمين والسلفيون في الثورة مع قوي الثوار كنا امام نموذج فريد في وحدة الهدف والقضية حتي سقط رأس النظام وبدأت رحلة الانقسامات بين فصائل الثوار, وهنا أخذ الإسلاميون بكل تياراتهم جانبا تاركين التيارات الأخري تواجه قدرها مع أجهزة الأمن في عمليات تصفية معنوية بل ودموية امام اسلوب مختلف في المواجهة.. وهنا أيضا كان غياب القوي الإسلامية عن أحداث ماسبيرو والبالون والسفارة الإسرائيلية ومحمد محمود ومجلس الوزراء, وكانت القطيعة بين التيارات الإسلامية وبقية القوي الشبابية..وظهر الانقسام واضحا في البيان الدستوري والاستفتاءات عليه ثم كانت الانتخابات البرلمانية واكتساح القوي الإسلامية.. وحين أعلن مجلسي الشعب والشوري عن تشكيل لجنة صياغة الدستور كان الانقسام قد وصل إلي درجة الصدام المباشر حتي اتضحت صورة الخديعة في الترشيحات الرئاسية التي عصفت بكل إحتمالات التوافق أوجمع الكلمة مرة أخري.
< لم يكن التوافق بين المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين بعد الثورة امرا طبيعيا ولكنه كان يثير الكثير من التساؤلات وسوء الظن.. ورغم هذا كله ترك المجلس العسكري التيارات الإسلامية تجتاح الانتخابات البرلمانية وتحصل علي أغلبية غير مسبوقة في تاريخ العمل البرلماني في مصر.. وفي المقابل صمت الإخوان المسلمون والسلفيون علي محاولات قمع الثوار وتهميش دورهم وإخراجهم تماما من معركة التوازنات بين القوي السياسية.. وكان هناك مايشبه الاتفاق بين اطراف اللعبة إلا ان المجلس العسكري إنزعج كثيرا حينما ظهرت الرغبات الشرسة للتيار الإسلامي في السيطرة علي السلطة, وهنا إختفت حالة الثقة المؤقتة وبدأ الحديث عن سحب الثقة من الحكومة والتشكيك في صحة مجلس الشعب ثم كانت معركة لجنة إعداد الدستور وترشيح المهندس خيرت الشاطر للرئاسة رغم عهد قديم من الإخوان بعدم الاقتراب من هذه المنطقة.
عادت البيانات العنيفة المتبادلة وتغيرت لغة الخطاب تماما وأصبح الإنقسام حقيقة مؤكدة, ولم يعد غياب الثقة بين أطراف اللعبة شيئا خافيا وأصبح الطريق إلي صدام مباشر خطرا يهدد امن مصر واستقرارها.
< امام الفراغ الرهيب في الشارع السياسي والتجاوز الكبير في الرغبات والتطلعات بدأت بوادر انقسام بين التيارات الإسلامية, وبقدر ما اتفقت مع ايام الثورة الأولي والانتخابات البرلمانية في تقسيم الغنائم بقدر ما اتسعت هوة الخلافات بينها حول الترشح لمنصب رئيس الجمهورية.. بل إن هذه الخلافات اتضحت داخل جلسات مجلسي الشعب والشوري في إختيار اعضاء اللجنة التأسيسية للدستور. وأمام انسحاب القوي الليبرالية والعلمانية من اللجنة بدا واضحا ان التيارات الإسلامية تحاول توحيد كلمتها رغم مابينها من الخلافات وإن بقيت الانتخابات الرئاسية هي اهم واخطر إختبارات صدق النوايا بين هذه التيارات..
< في جانب أخر كانت الانقسامات في سلطة القضاء وما شهده نادي القضاة من خلافات وما حدث في قضية المتهمين الأمريكيين الذين تم الإفراج عنهم في قضية التمويل الأجنبي وما تركته هذه القضية من آثار سيئة لدي القضاة انفسهم امام إهتزاز الثقة في سلطة العدالة.
< لم يكن غريبا امام كل هذه الظواهر السلبية ان يحدث انقسام حاد بين الأجيال القديمة التي تتحمل المسئولية وبين شباب مصر سواء من ثاروا في ميدان التحرير أو من استشهدوا في بورسعيد,وهنا ايضا دخلت اجيال جديدة من طلاب المدارس ومشجعي كرة القدم ساحة الانقسامات والصدام وإتسعت الفجوة بين ابناء المجتمع الواحد حين فشل الجميع في إيجاد صيغة عاقلة للحوار امام واقع سياسي مرتبك تسوده الفوضي والإنقسام.
< وسط هذا المناخ غابت الأحزاب السياسية عن المشهد تماما وتحولت إلي توابع تجري وراء هذا أو ذاك, وفقدت دورها وتأثيرها ومواقعها في الشارع المصري حين لعبت علي كل الحبال واستسلمت امام إغراءات وهمية لقوي أخري.ولم يكن هذا بعيدا عن مواكب الليبراليين والعلمانيين الذين تسربوا ليلا من ميدان التحرير تاركين الثوار يلقون مصيرهم باحثين عن شيء من الغنائم, وللأسف الشديد أنهم لم يحصلوا علي الكثير..
< في كل هذه التغيرات الحادة كان الإعلام المصري يبحث عن دور وحين عادت مواكب الفلول إلي الساحة بأموالها الضخمة كان في استقبالها عدد كبير من مهرجي الإعلام وسماسرة الفضائيات وكذابي الزفة وتحولت ابواقهم إلي منصات لإطلاق الأكاذيب وإعلان الحرب علي الثورة والثوار ونشر الفتن بين القوي السياسية بحيث تحملت الثورة كل خطايا المرحلة الإنتقالية وبدأ البكاء علي أطلال الزمن الماضي.
إن الشئ المؤكد ان المشهد الآن يدعو للأسف الشديد حيث تحول الشارع المصري إلي أبواق لإلقاء التهم والتشكيك في كل شيء والبحث عن الغنائم.
لا أحد يعلم هل ما يحدث الأن علي السطح هو الحقيقة ام ان هناك اسرارا خفية وبرامج أخري بين القوي السياسية التي تصورت أنها أخذت كل شيء وهل يمكن ان يسير مجتمع إلي الأمام في ظل هذه الانقسامات التي تهدد بصدام حقيقي قادم.. وكيف يمكن للقوي السياسية ان تتفاوض أو تتحاور في ظل إحساس بعدم الثقة. ومن تري يثق في الآخر والمجتمع كله لم يعد يثق في بعضه ؟..
المجلس العسكري مازال حائرا بين ثورة لم يقتنع بها تماما واشباح حكم رحلت, ولكنها تظهر من حين لآخر وتبدو واضحة في مواقفه.
الإخوان المسلمون حائرون بين مجلس فتح لهم كل الأبواب ويخافون ان ينقلب عليهم في أي لحظة لأن بينهم تاريخا قديما يؤكد ذلك ويفتح ابوابا للشك والإرتياب.
والسلفيون لا يصدقون انفسهم حتي الأن وهم يتصدرون المشهد السياسي الذي لم يحلموا به يوما ولم يكن في حساباتهم الماضية أو المستقبلية..
وشباب الثورة الذي فقد ثقته في الأجيال القديمة والسلطة والإخوان والسلفيين وحتي رفاق الميدان الذين هربوا إلي الغنائم هذا الشباب الذي دفع ثمن الثورة ولم يأخذ شيئا منها تحول في نظر البعض إلي بلطجية يقف الجميع ضدهم الآن.
في ظل هذا كله كيف نتحدث عن عودة الإستقرار والأمن والرغبة في بناء مستقبل جديد لهذا الوطن ونحن لا نثق في بعضنا,والكل يكذب علي الكل وهناك آلاف الأقنعة وآلاف الخناجر ولا أحد يعلم متي يكون الصدام..
كيف تركنا الأشياء تفلت من بين أيدينا وتختفي تماما لغة الحوار ويتحول المجتمع كله إلي أقليات وطوائف وفصائل لا تري بعضها ولا تسمع.. كيف يحدث ذلك في مصر بلد الفكر والحكمة والثقافة, واي لعنه تلك التي حلت بنا
وما بين صراعات القوي التي كانت بالأمس القريب تقف صفا واحدا في الثورة وجدناها الآن وقد تحولت إلي ميليشيات تصفي بعضها بعضا بينما تنظر مواكب الفلول من بعيد تنتظر فرصة الانقضاض علي الجميع ومعها قراصنة العهد البائد العائدين إلي الساحة مرة اخري ليعيد التاريخ دورته في مستنقع فساد جديد..
..ويبقي الشعر
باريس..
الآن أجـلس في ربوعك..
دون همس أو كلام
قـطـعوا لساني
إنـي فـقـدت النـطـق يا باريس من زمن بعيد
قـالـوا بأن النـاس تـولـد..
ثـم تنـطق.. ثـم تـحـلـم ما تـريد
وأنـا أعيش وفي فـمي قـيد عنيد
قـطـعوا لساني..
قـطـعوه يوما عنـدما سمعوه
يصرخ في براءته القـديمة
عنـد أعتاب الكبار
إنــي أحب.. ولا أحب
صاحوا جميعا..
كـيف لا دخلـت لقـاموس الصغار
صلـبوا لساني علـقـوه علي الجدار
قـطـعوه في وضح النـهار
من يومها وأنا أقـول.. ولا أقـول
وأري لساني جثــة خرساء تنظر في ذهول
وأخاف منـه فـربما يوما يصيح
ويثور في وجهي القبيح
فلقد رأيت دماءه كالنـهر..
تـغرق وجه أيامي.. ويسقـط كالذبيح
وحشيت من غضب الكبار
مازلـت ألـمح طيفه الدامي.. علي صدر الجدار
في كـل وقـت أمضغ الكلمات في جوفي.. وأبلعها
وتنزف بين أعماقي.. وتصرخ في شراييني
ويحملني الدوار.. إلي الدوار
كلماتـنـا.. جثث تنام بداخلي
فأنا أقـول.. ولا أقـول
وأنا أموت.. ولا أموت
كلماتنـا قتلـي..
ودماؤها السوداء في صدري تـسيل
لا تـعجبي باريس من صمتي
فـصوتي بين أعماقي قتيل
باريس..
إنـي اكتفيت بأن أري عينيك
خلـف السين كـالعمر الجميل
فالصبح في عينـي شئ مستـحيل
والحلم في أعناقنـا قيد ثـقيل
كم كـنـت أحلـم..
أن أجيء إلـيك مشدود الخطـي
لكن قيدا في الضـلـوع يشدني
وأقوم يجذبني
وأصرخ يحـتـويني.. ثـم أسقـط كـالحطام
وأري الكلام يسيل من صدري..
وينـزف تحت أقدامي..
ويلـقيه الزحام.. إلي الزحام
كلماتنا صارت دماء
ودماؤنـا صارت كلام
القيد يا باريس علــمني الكـثير
فـالضوء في أيامنـا شيء محال
والخبز للأبنـاء عجز..
أو دموع.. أو خيال
والحلـم في نـومي ضلال
والصمت أفضل من سراديب السؤال
قـالـوا: لديك يسافر العشاق..
في حلـم طـويل لا يموت
والحب في أعماقنـا
شبح تـغلـفـه المنـايا..
في خيوط العنـكبوت
وإذا أتيت إلـيه يجذبني
فأهرب.. أو أموت
الحب في دمنا يموت
باريس..
إنـي أحاول أن أقـول لديك شيئـا..
آه من صمـتي القـبيح
قـطـعوا لساني..
ما زلـت أخـفي بعضه سرا..
وينـزف بين أوراقي
أحنطـه كتذكـار لأيام مضت
لي في ربوعك قبل أن أمضي رجاء
سيجيء ابني ذات يوم
علـميه النـطق يا باريس
أن يحكي.. ويصرخ
أن يقـول كما يشاء
فلقد تركـت لـه لساني
بين أوراقي ذبيح
حتـي تـظل دماؤه بعدي تـصيح
ز1989 س
[email protected]
المزيد من مقالات فاروق جويدة
ساحة النقاش