عاطلون بـ«الدكتوراة» بقلم د.عمار على حسن ١٣/ ٩/ ٢٠١١ |
أى مهزلة تلك؟ بعض علماء مصر يعانون بطالة قاتلة، أو يعملون فى وظائف هامشية لا تليق بقيمتهم وقامتهم، ولا تتيح لبلدهم أن يستفيد منهم، فالفساد الذى ضرب كل الأعطاف والأركان امتد إلى مؤسسات التعليم ومنابر العلم، فارتفع بمن لا يستحق، وحطّ من شأن الجديرين بكل احترام وتقدير. لم يكف مصر أن تئن تحت وطأة نظام تعليمى متخلف يخاطب الذاكرة، وهى أقل الملكات العقلية شأناً، ويقيّم البحث العلمى على مجرد «جمع المتفرق»، وهو أدنى درجات الفهم، بل زاد على ذلك بإقصاء المئات من الحاصلين على الدكتوراة فى علوم تطبيقية وإنسانية، وتركهم بلا عناية ولا رعاية، وكأن ذنبهم أنهم واصلوا الكدح ليل نهار كى يرتقوا بمستواهم التعليمى، وأنفقوا من جيوبهم ليحصلوا على أعلى الدرجات، ظنا منهم أن هذا قد يمنحهم طوق النجاة من جحيم البطالة، ويفتح أمامهم الأبواب المغلقة لتحقيق ذاتهم، ويعوضهم عن استعمال الطرق المعوجة والأساليب غير الشرعية للحصول على العمل الذى هو حق لكل إنسان، فما بالنا بمن حصّل علما، ونال تعليماً على أفضل ما يكون؟! دارت هذه المعانى فى رأسى وأنا أستمع إلى أنين المعتصمين فى مقر وزارة التعليم العالى من حملة الماجستير والدكتوراة، وشكواهم المريرة من إهمال الحكومة لهم مع أن بين مكان اعتصامهم ومجلس الوزراء بضع خطوات، ومع أنهم لم يكتفوا بالمطالب والصراخ فى وجه من بيدهم الأمر، بل قدموا اقتراحات مدروسة لحل مشاكلهم، بعد أن أحصوا المواقع الشاغرة فى الجامعات ومراكز البحوث وأشاروا إليها وعينوا وجودها، وقالوا للمسؤولين: «ها هو الحل»، لكن أحدا لم يأخذ بما انتهوا إليه، أو حتى يناقشهم فيه بجدية. لقد قالوا لى إن هناك ٨٥ موقعاً شاغراً فى أقسام الفلسفة مثلا، يعرفونها مكانا مكانا، وقدموا مذكرة بها، ضمن وظائف أخرى، لكن يبدو أنها محجوزة لأبناء مسؤولين، وأبناء أساتذة، فالشعب المصرى العظيم أسقط توريث الحكم، ولقن من اعتقد أن مصر عزبة خاصة لأسرته درساً، لكن هناك من بيننا من يريد أن يستمر فى توريث كل شىء. كيف لسلطة، وبعد ثورة عظيمة، أن تظل راضية عن تولى عالم فى الفيزياء وظيفة «عامل فنى بمحولات كهرباء بنها»؟! وهو من يُدعى إلى مؤتمرات دولية، بعضها فى أكثر البلدان تقدما واهتماما بالعلم والعلماء مثل اليابان والولايات المتحدة، وله كتب ترجمت إلى اللغات الأجنبية فى تخصصه. وعلى منوال هذا هناك كثيرون من بين المعتصمين، تتوزع تخصصاتهم على الكيمياء والفيزياء النووية وغيرهما من العلوم البحتة، وهناك المختصون فى القانون والتربية والآداب بمختلف أقسامها. هؤلاء جميعا يمكثون منذ ثمانين يوما فى مكانهم بعد أن ضاقت الدنيا بهم. عولوا على الثورة، وعلقوا عليها آمالا عريضة، وآمنوا بأن مصر الجديدة ستنتصر للعلم والعلماء، وهى تبنى «قواعد المجد» من جديد، لكن ها هى مصر المجتمع على حالها تحدب على المتميزين دون أن تملك لهم نصرا، وها هى مصر السلطة على غفلتها تعاقب المتفوقين وهى تملك أن تضعهم فى مواقعهم التى يستحقونها عن جدارة. لقد ذهب العلماء المعتصمون إلى وزير التعليم العالى وقدموا له اقتراحاتهم، وذهبوا إلى رئيس الوزراء وأبلغوه بما لديهم، لكن الأيام تمر عليهم وهم محبوسون بين جدران الاعتصام، دون أن يلوح أى أمل أمامهم فى إمكانية انفراج أزمتهم عاجلا. أحدهم قالت له زوجته: «لا تأت إلا بعد أن تعدل وضعك»، وآخر طالبه أبناؤه بأن يعود بـ«وظيفة تسترهم أمام أصحابهم»، ومنهم شباب لا يمتلك ما يقيم به أوده، أو يفتح به بيتاً، ومنهم من لا يفكر فى مصلحة ذاتية إنما يريد لمصر الثورة أن تستفيد بما عنده من معرفة، بدلا من أن يهاجر إلى غيرها ويعطيها ما لديه. وعندها سنأسف نحن شفهياً ونكتب المقالات والدراسات عن «هجرة العقول» و«نزيف الأدمغة». وما يدعو للأسف أيضا أن القوى السياسية والحركات الاجتماعية تهمل هؤلاء، فلا سؤال عنهم، ولا زيارة لهم، ولا سند ولو بكلمة طيبة. وهذا الجحود يصيب المعتصمين بألم، ويجعل صدورهم تغلى بالغيظ من الجميع. لقد رأيت بعضهم وهم يقطعون شارع «قصر العينى» ليجلبوا الطعام لزملائهم، فرقَّ لى حالهم، وأسفت لما آلوا إليه، ورأيت حجم التضييق الذى يمارس عليهم من قبل الموظفين وأمن المبنى حتى تفتر همتهم، وتخور عزيمتهم، ويرضوا من الغنيمة بالإياب. لكن هذا يزيدهم إصرارا، فلا عودة بلا حل، ولا فض للاعتصام بلا استجابة كافية شافية، تنقلهم من الضياع إلى التحقق، وتبنى بينهم وبين وطنهم جسورا من الود والانتماء. فيا من بيدكم الأمر، قضية العاطلين من حملة الماجستير والدكتوراة تضع مصداقيتكم على المحك، فكيف تقولون إنكم حريصون على توفير فرص عمل لحل مشاكل الخريجين وأنتم تهملون خيارهم؟ وكيف تقولون إنكم راغبون فى تنمية البلاد وأنتم لا تلتفتون إلى منشأ التنمية ومنتهاها، وهو رأس المال البشرى؟ ألم تنصتوا إلى قول الله تعالى «إنما يخشى الله من عباده العلماء» و«يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» و«قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون» أو قول رسوله الكريم «العلماء ورثة الأنبياء»؟ ألم تسمعوا يوما إلى أمير الشعراء أحمد شوقى: «العلم يرفع بيوتا لا عماد لها/ والجهل يهدم بيوت العز والكرم ـ بالعلم والمال يبنى الناس ملكهم/ لم يبن ملك على جهل وإقلال»... بالله عليكم أجيبونا. |
ساحة النقاش