بقلم: د. وحيد عبدالمجيد 820
كثيرة هي الأسباب التي تراكمت علي مدي عقود من الزمن صنعت الاستقطاب الحاد في المشهد المصري الراهن بين إسلاميين في جانب وليبراليين ويساريين وقوميين في الجانب الآخر. ولكن إساءة فهم مسألة الشريعة الإسلامية هي التي ساهمت بأكبر مقدار في بلوغ هذا الاستقطاب المبالغ الذي نراه اليوم مهددا إمكانات جني ثمار ثورة25 يناير وبناء نظام ديمقراطي حر وعادل.
فالشريعة ليست مسألة دينية تتعلق بالمسلمين فقط لأنها ترتبط بثقافة شعبنا وأمتنا وميراثهما الحضاري. كما أنها ليست قضية سياسية تخص التيارات الإسلامية التي يتحمل بعضها مسئولية تاريخية عن تحويلها إلي موضوع للاستقطاب. ويشاركهم في هذه المسئولية غيرهم ممن تركوها للإسلاميين وظنوا أنها تنتمي إلي الماضي ولا تليق بالمستقبل ونفروا منها هاربين دون إدراك أن المرء لا يمكن أن يفر من نفسه.
ولم يختلف موقف الليبراليين المصريين بشأن مسألة الشريعة الإسلامية عن الناصريين والقوميين بوجه عام. فقد تبني كثير من هؤلاء وأولئك ومن معظم أطياف اليسار موقفا سلبيا إزاءها لم يخل من حدة حينا وعداء حينا آخر.
ولذلك لم يدركوا, وهم الذين ناضلوا طويلا من أجل الاستقلال الوطني, أن هذا الاستقلال ليس سياسيا واقتصاديا فقط بل هو قانوني أيضا أو هكذا ينبغي أن يكون.
ولم يدرك غير قليل من الليبراليين الأهمية القصوي للنص الدستوري الذي يقول إن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. فهذا النص ليس مجرد كلمات لإرضاء التيارات الإسلامية. فالمفترض أن يكون هذا النص منطلقا لاستقلال قانوني يتحقق تدريجيا في الوقت الذي نتقدم نحو استعادة الاستقلال السياسي وبناء الاستقلال الاقتصادي. وليس صعبا أن نستعيد استقلالنا السياسي الذي أضاعه الرئيس السابق حسني مبارك عندما جعل نفسه, وقد اختزل مصر في سلطته, كنزا استراتيجيا لإسرائيل علي حد تعبير أحد أركان مؤسستيها السياسية والعسكرية وأحد أصدقائه القريبين في آن معا.
وليس عسيرا كذلك تحقيق الاستقلال الاقتصادي عبر سياسة رشيدة اتبعت مثلها حكومات منتخبة في بلاد أخري تمتلك مصر من المقومات ما لا يتيسر لها. غير أن إنجاز استقلالنا القانوني يبدو أكثر صعوبة بعد أن صارت قاعدته الأساسية وهي الشريعة الإسلامية موضع صراع بل استقطاب حاد وخطير.
ومع ذلك يمكن لأبناء المدرسة الليبرالية الوطنية التي تؤمن بثقافة الأمة, وغيرهم في مختلف التيارات ممن يعرفون أن الاستقلال الوطني لا يتجزأ, أن يساهموا في كسر هذا الاستقطاب بمختلف الوسائل الممكنة. ومن هذه الوسائل ما يرتبط بالاقتناع بأهمية دور الشريعة الإسلامية في تحقيق الاستقلال القانوني لتصبح قضية وطنية بعد أن أدي استحواذ التيارات الإسلامية عليها وموقف الكثيرين في التيارات الأخري ضدها إلي جعلها قضية صراع سياسي.
ولأن هذه مهمة صعبة, ينبغي أن نشرع فيها برفق وعبر حوار بناء مع أهل العقل والحكمة في التيارات الإسلامية وأهل العلم الشرعي بدءا بتحرير الشريعة من الاستغلال السياسي الذي هبط بها إلي مستوي شعار يرفع وهتاف يردد دون أن يعرف كثير ممن يرفعونه أو ينطقون به عن هذه الشريعة إلا القشور.
ولو أن باحثا أخذ عينة ممن يرفعون هذا الشعار, وسأل أفرادها عما يعرفونه عن الشريعة التي يهتفون بأن الشعب يريد تطبيقها, لجاءت النتيجة مثيرة مدهشة.
فالمطلوب, إذن وقبل كل شيء, هو تحرير الشريعة الإسلامية من الاحتكار السياسي ومن أسر ذهنيات مغلقة لم تستوعب رحابتها التي تسمح بتعدد وتنوع في الاجتهادات والآراء والتصورات إلي يوم الدين وليس فقط في المذاهب. وهذا هو السبيل إلي إعادة الاعتبار إليها بوصفها قضية وطنية لا سياسية ولا حزبية ولا جماعاتية, والتقدم باتجاه البحث في كيفية تحقيق الاستقلال القانوني عبر الاحتكام إليها في نظام ديمقراطي يتطلع المصريون مسلمين ومسيحيين لأن يتمتعوا فيه بالمواطنة الكاملة وبالحقوق والحريات التي حرموا منها طويلا, بما فيها حرية الانتخاب الدوري النزيه والتداول السلمي للسلطة بلا تعطيل وحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية بلا تمييز.
ويتطلب ذلك إزالة التوتر الذي يشتد كلما أثير موضوع الشريعة الإسلامية وتحويل السجالات الحادة حولها إلي حوار موضوعي جاد هادئ ومحترم. ولا يمكن أن يتحقق ذلك بالجملة. فالخلاف شديد يصل إلي حد التعارض التام بين بعض أطراف الساحة السياسية. كما أن الثقة غائبة علي نحو يفرض التدرج سعيا إلي بنائها خطوة وراء أخري.
ولا يعني الاحتكام إلي الشريعة الإسلامية علي هذا النحو إلغاء النظام القانوني القائم الآن. فالقسم الأعظم في هذا النظام المأخوذ من الغرب ونظمه ومرجعياته ينسجم مع الشريعة الإسلامية أو لا يتعارض معها. وكان هذا هو تقدير أهل العلم الشرعي عندما وضع القانون المدني للمرة الأولي مأخوذا عن مراجعه الفرنسية عام1883, إذ بدا لهم قريبا إلي الفقه المالكي أشد الاقتراب.
فعندما يكون الاستقلال القانوني هو هدفنا وغايتنا, تصبح الأطر المرجعية وقواعد الاحتكام والإسناد هي الأساس. وعندئذ يكون المهم هو مراجعة نظامنا القانوني من حيث مرجعية القانون وإجراءات إصداره استنادا إلي الشريعة الإسلامية بعد تحريرها من الاحتكار السياسي والانغلاق الذي فرض عليها.
ولأن هذه مرة أخري مهمة صعبة بسبب شدة الخلاف عليها, ينبغي أن نتعامل معها بمنهج تدريجي, وربما نبدأ بالقانون المدني لإكمال عملية إعادة تقنينه التي حدثت في أربعينيات القرن الماضي لفصل أحكامه عن أصلها المرجعي الغربي وإسنادها إلي مراجعها الإسلامية تحقيقا للاستقلال المنشود.
المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش