دموع السياسة وبكاء السياسيين
بقلم: د‏.‏ حمدي حسن أبوالعينين


البكاء تعبير عن المواقف التي تلامس فيهاالمشاعر لحظات الضعف الانساني‏,‏ وهو شعور لايعبر عن نفسه في مواقف الحزن فقط‏,‏ وانما في مواقف كثيرة منها الندم‏,‏ والفرح‏,‏ والألم والخوف والضعف والسياسة ايضا‏.‏

 

واذا كان السياسيون هم الاقل بكاء إلا أنهم أكثر من تسببوا في بكاء الناس علي مر التاريخ ربما كان الشيع ة هم اكثر أهل الارض بكاء وأشدهم احتفاء بالدموع‏,‏ فهم في بكاء منذ مقتل الحسين قبل نحو‏1500‏ عام‏.‏ فعندهم العين الباكية منبع فيض الله‏.‏ ولم يكتف الشيعة بالبكاء علي شهيد كربلاء وانما ابكوا جميع الانبياء علي الحسين من آدم الي نوح الي موسي وعيسي وانتهاء بمحمد صلي الله عليه وسلم‏.‏ والبكاءون عندهم خمسة‏:‏ آدم ويعقوب ويوسف والسيدة فاطمة الزهراء وزين العابدين بن الحسين الملقب بالامام السجاد‏,‏ والبكاء والابكاء والتباكي عند الشيعة مرغوب وله عظيم الاجر وجزيل الثواب‏.‏ وظل بكاء الشيعة اهم مصادر القوة السياسية فكما يقول علماؤهم البكاء علي الشهيد ثورة والاباطرة يخشون هذا البكاء لأن البكاء علي المظلوم صرخة بوجه الظالم‏.‏
امابنواسرائيل فقد صنعوا حاضرهم وتاريخهم بقطرات دموعهم‏.‏ شعب بدأ البكاء منذ اكثر من ألفي عام ولم يتوقف حتي بعد ان جرفت دموعهم السياسية شعبا آمنا في ارضه لتقوم عليها دولة اسرائيل‏.‏ انشأوا للبكاء حائطا ينتحبون بجواره فأصبح العويل امامه عبادة وسياسة ايضا‏,‏ واستمروا في البكاء حتي اصبحت تلك الدولة الناشئة اقوي دول الشرق الاوسط وطال نواحهم حتي بعد ان ابتلعت اسرائيل في حرب يونية‏67‏ ضعف ما أغتصبته عام‏48‏ وحين هزموا في اكتوبر‏73‏ زادوا بكاءهم وعلا نحيبهم وفاضت دموعهم حتي عوضهم العالم كثيرا عن هزيمتهم‏.‏
انتحبوا وهم يضربون الفلسطينيين العزل في غزة‏,‏ وعندما اجتاحوا الجنوب اللبناني‏,‏ ولم تكتف اسرائيل بالبكاء بل جات بقيادات العالم الي اراضيها يبكون اوهام الماضي والاساطير التي كتبوها بأيديهم من امثال بيرلسكوني الذي جلس في الكنيست الاسرائيلي يبكي ويروي قصة امه التي انقذت فتاة يهودية زمن الحرب العالمية الثانية‏.‏ وكذلك فعل الرئيس جورج بوش الابن امام نصب اقيم تكريما لضحايا المحرقة اليهودية في القدس المحتلة‏.‏ اعتمر قلنسوة وأطرق رأسه حزينا واشار لاثنين من مشاة البحرية بوضع إكليل من الزهور ثم انخرط في البكاء‏.‏
اصبح التاريخ اليهودي قديما وحديثا الاكثر قدرة علي اجترار الأحزان وذرف الدمعات‏,‏ بينما تتواري خلف الاحداث بكائيات الارض والدم الفلسطيني في أبيات من شعر محمود درويش‏:‏
ليس من شوق إلي حضن فقدته
ليس من ذكري لتمثال كسرته
ليس من حزن علي طفل دفنته
أنا أبكي‏!‏
وفي عالم السياسة ما اكثر ماذرف السياسيون الدموع فدفعت بعضهم إلي القمة وهوت بآخرين الي القاع‏.‏
ولكن السياسيين تعلموا استثمار الدموع فأصبحت في معظم الاحوال تعمل في صالحهم وليس كما كانت بالامس في عام‏1972‏ خرج المرشح الديمقراطي ماسكي من السباق نحو البيت الابيض يوم ان ابكي قذفت به دموعه من الصدارة إلي الهاوية‏.‏
اضطر الرجل ان يدافع عن زوجته في مواجهة تقارير صحفية تقول انها كانت ثملة في احدي حملاته الانتخابية وتلفظت بألفاظ نابية ودافع عن نفسه في مواجهة تقارير اتهمته بأنه تهكم علي الامريكيين من الاصول الكندية‏.‏ وقف وسط عاصفة ثلجية يدافع عن نفسه وزوجته حتي بكي فأصبح يعرف بالرجل الذي ألقي الخطاب الباكي‏.‏
لم يستطع ابدا ان ينفي ذلك الضعف عن نفسه وهو المعروف بقوته وصرامته‏.‏ ولم يكن ماسكي السياسي الوحيد الذي راح ضحية دموعه فقد فعلتها باتريسيا شرودر التي بكت وهي تعلن انسحابها من المنافسة علي رئاسة الولايات المتحدة‏.‏
وطاردتها دموعها لتعوق اي تقدم بعد ذلك‏,‏ فقد اظهرتها الدموع شخصية ضعيفة لاتستطيع تحمل مسئوليات كبيرة‏.‏
هذه الأيام يبدو الناس أكثر تسامحا مع الدموع السياسية‏.‏
بل ان السياسيين اصبحوا اكثر مهارة في استخدام هذه الدموع للتأثير في مناصريهم‏.‏ صدام حسين الذي أبكي شعبه من الالم كثيرا‏,‏ ومن الخوف طويلا وقف امام كاميرات التليفزيون يذرف الدمع وهو يتحدث عن الأسري والشهداء في حربه العبثية مع ايران‏.‏
وكانت دموع فتاة كويتية وهي تتحدث عن نزع جنود عراقيين لكمامات اوكسجين من اطفال مرضي في الكويت احد اسباب قرار مجلس الامن ضد العراق قبل ان يتبين فيما بعد انها ابنة احد الدبلوماسيين الكويتيين تلقت تدريبا علي البكاء من شركة علاقات عامة امريكية‏.‏ وكذلك فإن الامريكيين الذين كرهوا من نيكسون فضيحة ووترجيت عادوا يتعاطفون معه وهم يرون دموعه تلمع تحت اضواء كاميرات التليفزيون بعد سنوات معتذرا عما اقترفه في حق الشعب الامريكي‏.‏
والآن لم يعد بكاء السياسيين عيبا فالجميع يبكون في جميع قارات العالم‏.‏
وسواء صدرت دموع السياسيين عن عواطف صادقة او مصطنعة‏,‏ الا انها اصبحت وسيلة فعالة يدرك تأثيرها الجميع‏.‏
قبل ان تداهمنا نكسة يونيو فتبكينا جميعا‏,‏ بكي الرئيس عبدالناصر حينما قدم السفير السوري الدكتور سامي الدروبي أوراق اعتماده بعد انفصال سوريا عن مصر و كان اديبا وفصحيا لم يحتمل عبدالناصر فصاحة تعبيره عن مأساة الانفصال وضياع حلم الوحدة فبكي وأبكي من حوله‏.‏
وأمام الرؤساء العرب والصحفيين والعالم بكي فؤاد السنيورة رئيس الوزراء اللبناني وهو عاجز عن إطفاء حرب نشبت في بلاده بين حزب الله واسرائيل دون ان يكون له فيها قرار او مشورة‏,‏ انفجر الرجل امام العالم يبكي بلاده التي تحترق فيما هو عاجز عن مغالبة الألم‏.‏
سخر منه معارضوه ولكن مناصريه كانوا أكثر تمسكا به والدفاع عنه‏.‏ وربما كان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات هو اكثر زعماء العالم بكاء‏,‏ كانت همومه كثيرة ولم يجد في غير البكاء سلوي وتفريجا عن تلك الهموم‏.‏ وقد أحب الفلسطينييون ياسر عرفات بدموعه التي لم تمنع العالم من ان ينظر اليه باحترام وان يأخذه مأخذ الجد‏.‏
وفي اليمن ذهب الرئيس التركي عبدالله جول يتلمس مجد العثمانيين‏.‏ افتتح مقابر الشهداء الاتراك الذين ماتوا في اليمن اثناء الحرب العالمية الأولي‏.‏ وخلال الاحتفال غنت طالبتان يمنيتان تدرسان في المدرسة التركية نشيد اليمن الذي يعود إلي تلك الحقبة من التاريخ وفيه تعبير عن التضامن العربي والتركي ضد المحتل الغربي‏.‏
سالت دموع الرئيس التركي حتي اضطر الي استخدام منديل يعينه علي مواجهة دموعه الكثيرة المنهمرة‏.‏ وفي الولايات المتحدة كان بيل كلينتيون هو الامهر بين الرؤساء الأمريكيين في توظيف البكاء السياسي‏.‏
لقد استهلك كميات كبيرة من الدموع طوال مدة حكمه كما يقولون‏.‏ وحينما تقاعد علم زوجته التي اصبحت وزيرة للخارجية تلك المهارة‏.‏ عرف كلينتون كيف يعتصر عينيه من أجل دمعة وعرف كيف يقوم بتسويقها أمام كاميرات التليفزيون‏.‏ وفي أستراليا بكي رئيسا وزرائها بوب هاوك حين سئل عن المخدرات واعترف فيما بعد بأنه بكي لأن ابنته ادمنت المخدرات ولكنه عاد يبكي بحرارة شديدة في مقابلة تليفزيونية حين اعترف بخيانة زوجته التي طلقها فيما بعد وتزوج بأخري‏.‏
واعترف انه بكي حينما شاهد جمال زوجته وهي ترتدي فستان الزفاف الابيض‏.‏
احتار الاستراليون في بكاء رئيس وزرائهم ولكنهم فيما يبدو أحبوا دموعه فاختاروه رئيسا للوزراء لأربع ولايات‏.‏ وفي بريطانيا بكت ثاتشر حين ضاع ابنها في صحراء السنغال وحين خرجت من دواننج ستريت‏.‏
ومع ذلك لم تنل تلك الدموع من صورة المرأة الحديدية في ذاكرة البريطانيين‏.‏
الدموع السياسية صعبة و شائكة وهي في كل الاحوال محفوفة بالمخاطر‏.‏
ولكنها الآن اكثر استخداما ربما لقول الشاعر‏:‏
خبر عن الأعصر الاولي لتضحكني‏.‏
فإن أخبار هذا العصر تبكيني‏.‏
 

 

المزيد من مقالات د‏.‏ حمدي حسن أبوالعينين<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 141 مشاهدة
نشرت فى 23 يناير 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,794,588