بقلم: السيد يسين
بناء علي تعليقات عديد من القراء علي مقال سابق لي خريطة معرفية للمجتمع العالمي بتاريخ0102/21/32 والتي حددت فيها خمسة تحولات رئيسية حدثت في المجتمع العالمي, أحاول اليوم استجابة لهم والاستزادة في تحليل كل تغير من هذه التغيرات.
ومن أبرزها تحول المجتمع الإنساني من الأمن النسبي إلي مجتمع المخاطر وربما كان عالم الاجتماع الإنجليزي أنتوني جدنجز هو الذي أبرز بقوة العلاقة بين العولمة والمخاطر. يقول جدنجز في كتابه علم الاجتماع:تؤدي العولمة إلي نتائج بعيدة المدي وتترك آثارها علي جوانب الحياة الاجتماعية جميعها تقريبا. غير أنها باعتبارها عملية مفتوحة متناقضة العناصر, تسفر عن مخرجات يصعب التكهن بها أو السيطرة عليها. وبوسعنا دراسة هذه الظاهرة من زاوية ما تنطوي عليه من مخاطر. فكثير من التغييرات الناجمة عن العولمة تطرح علينا أشكالا جديدة من الخطر, تختلف اختلافا بينا عما ألفناه في العصور السابقة. لقد كانت أوجه الخطر في الماضي معروفة الأسباب والنتائج, أما مخاطر اليوم فهي من النوع الذي يتعذر علينا أن نعدد مصادره, وأسبابه, أو نتحكم في عواقبه اللاحقة.(أنظر جدنجز علم الاجتماع, ترجمة فايز الصياغ, بيروت, المنظمة العربية للترجمة,5002)
وهكذا استطاع جدنجز بهذه العبارات المركزة أن يصوغ مشكلة البحث في موضوع المخاطر, وأن يحدد علاقتها الوثيقة بالعولمة.
ويمكن القول إن الرائد الذي فجر قضية المخاطر ووضعها علي قائمة جدول أعمال العلم الاجتماعي المعاصر هو إيرليشن بك أستاذ علم الاجتماع الألماني, الذي أصدر كتابا شهيرا أثر في أجيال من الباحثين, وهو كتاب سوسيولوجيا المخاطر الذي كتب أولا بالألمانية ثم ترجم من بعد إلي الفرنسية والإنجليزية, وله كتب أخري في الموضوع يتعمق فيها بالبحث مختلف قضايا المخاطر.
ومجتمع المخاطر هو نظرية اجتماعية تصف انتاج وإدارة المخاطر في المجتمع الحديث.
وقد ركز إيرليشن بك علي دور وسائل الإعلام الجماهيرية في الكشف عن المخاطر ووصف ضروب المصالح السياسية والعلمية المتنافسة والخاصة بكيفية إدارتها. وهذه الملاحظة الثاقبة أكدتها الدكتورة انشراح الشال في كتابها المهم الذي سنعرض له بالتفصيل فيما بعد, عن الخطاب الإعلامي وأزمة انفلونزا الخنازير( القاهرة: دار النهضة العربية1102).
ولايعني مفهوم مجتمع المخاطر بذاته أنه مجتمع تزيد فيه معدلات الخطر, بقدر مانعني أنه مجتمع منظم لمواجهة المخاطر, لأنه مشغول بالمستقبل وبالأمن بشكل متزايد. وهو الذي ولد فكرة الخطر.
وإذا كان البشر قد تعرضوا للمخاطر طوال تاريخهم المكتوب, إلا أن المجتمع الحديث معرض لنمط خاص من الخطر, والذي هو نتيجة لعملية التحديث ذاتها التي غيرت من التنظيم الاجتماعي. وإذا كانت هناك مخاطر نتيجة لأسباب طبيعية كالزلازل والفيضانات, والتي لها آثار سلبية علي الناس, إلا أن المخاطر الحديثة من ناحية أخري هي نتاج النشاط الإنساني في الأساس.
وقد ترتب علي نشوء المجتمع الصناعي بما يتضمنه ذلك من استخدام واسع للآلات في المصانع والمزارع في البدايات الأولي له وتطوير الاعتماد علي التكنولوجيا التي غزت في الواقع كل ميادين الحياة, إلي ظهور أنواع شتي من المخاطر لم تكن معروفة من قبل.
ويمكن القول أن توفير الضمانات الكاملة للناس مسألة تكاد تكون مستحيلة.
غير أنه من ناحية أخري لاينبغي المبالغة في إبراز المخاطر, لأن المجتمع الصناعي قد وفر للناس إلي درجة كبيرة أمانا اجتماعيا عاليا.
بل إن الخطر في حد ذاته ــ كما يري عالم الاجتماع جدنجز ــ يمثل مبدأ لتنشيط الطاقات الإنسانية, وخصوصا فيما يتعلق باستكشاف عوالم وأسواق جديدة.
ولكن ينبغي أن نتحدث في هذا المجال عن المخاطر المحسوبة في أي نشاط إنساني, وسبل الوقاية المتوفرة.
غير أنه يمكن القول أن وجود المخاطر تستدعي ترشيد عملية صنع القرارات الصناعية والتكنولوجية والاقتصادية. ويمكن القول أن عدد الأموات أو الجرحي في الحوادث التي تترتب علي المخاطر ليس الذي يجعل من بعض هذه الحوادث موضوعا سياسيا, ولكن ظهر أن التطور الصناعي الذي أدي إلي إختراع الأجهزة التكنولوجية الضخمة التي يمكن أن تتولد منها مخاطر محتملة, هي التي جعلت المخاطر موضوعا سياسيا.
ولعل مما يضيء الجوانب المعتمة في موضوع علاقة المخاطر بتطورات المجتمع الصناعي, تعقب التاريخ السياسي والمؤسسي له باعتباره مجموعة قواعد نشأت من خلال صراعات متعددة للتعامل مع مخاطر هذا المجتمع, وضروب عدم الأمان التي صاحبت تطوراته المتعددة.
ولابد من الإشارة إلي تطور نظام التأمين الذي واكب صعود الرأسمالية الصناعية, لأنه كان نظاما فعالا يقي الأفراد من عواقب المخاطر أيا كان نوعها.
وقد ترتب علي اتساع مجالات المجتمع الصناعي واقتحامه لمجالات مستحدثة مثل غزو الفضاء وغيرها, أن نشأت الحاجة إلي تنمية طرق حساب المخاطر الذي اجتمعت العلوم الطبيعية والهندسية والاجتماعية لاستحداث مناهج منضبطة لحسابها, لأن هناك قرارات سياسية واقتصادية وتكنولوجية ومالية بالغة الأهمية سيتوقف إصدارها علي دقة حسابات المخاطر.
ويمكن القول أن هناك ثلاثة أنواع من المخاطر, وهي المخاطر المصنعة, والمخاطر البيئية, والمخاطر الصحية.
ليس أمامنا مجال للتفصيل في المخاطر المصنعة, لأنه سبق لنا أن أشرنا إليها حين ربطنا ازدياد المخاطر في المجتمع الحديث بالتطور الصناعي والتكنولوجي الهائل الذي أدي إلي اقتحام ميادين جديدة غير مسبوقة, مثل المفاعلات الذرية وغيرها.أما المخاطر البيئية فيعود جزء كبير منها إلي التدخل الإنساني في مجال البيئة الطبيعية, واندفاع الرأسمالية المتوحشة بمشاريعها العملاقة في الصناعة والزراعة باستنزاف الموارد الطبيعية, مما أحدث خللا في التوازن البيئي, لأنه أثر تأثيرا سلبيا علي التكامل الوظيفي بين مفرداته المتعددة والمتنوعة.
ويكفي أن نشير إلي ظاهرة الاحتباس الحراري وآثاره علي الغلاف الجوي للأرض. فقد تبين في السنوات الماضية أن حرارة الأرض آخذه بالتزايد بفعل احتباس الغازات الضارة داخل الغلاف الجوي. وينطوي الاحتباس الحراري علي نتائج مدمرة.ويمكن القول أن هناك غموضا يحيط بأسباب المخاطر البيئية, مما لم يسمح بتحديد المسئولية عنها, وبالتالي كان من الصعب اتخاذ الإجراءات المناسبة لمواجهتها.
وتأتي أخيرا المخاطر الصحية, وأبرزها ولاشك ظهور أمراض جديدة تأخذ شكل الأوبئة مثل الايدز بالنسبة للبشر من ناحية, وجنون البقر من ناحية أخري.
وترد بعض التفسيرات انتشار هذه الأمراض ــ في حالة جنون البقر ــ إلي تزايد استخدام المواد الكيماوية المبيدة للحشرات وللأعشاب الضارة في الإنتاج الزراعي التجاري, وفي مجال الحيوانات التي أصبحت بدورها تحقن بالهرمونات والمضادات الحيوية.
وقد تصاعدت في السنوات الأخيرة حدة الحملات ضد المحاصيل الزراعية المصنعة جينيا.
وتذهب نظرية أيرليشن بك إلي أنه من جماع المخاطر المتعددة المصنعة والبيئية والصحية تشكل ما يطلق عليه مجتمع المخاطر العالمي. ويرد السبب في نشوء هذا المجتمع إلي تسارع التطورات التكنولوجية والذي يؤدي إلي ظهور أنواع جديدة من المخاطر علي الإنسان أن يواجهها أو يتكيف معها. غير أن الجديد في النظرية أن عالم الاجتماع الإنجليزي جدنجز لايقصر المخاطر علي الجوانب البيئية والصحية فحسب, بل تشتمل كذلك علي سلسلة من المتغيرات المترابطة المتداخلة في حياتنا الاجتماعية المعاصرة. ومن جملة هذه المتغيرات:
ــ التقلب في أنماط العمالة والاستخدام.
ــ تزايد الإحساس بانعدام الأمن الوظيفي.
ــ انحسار أثر العادات والتقاليد علي الهوية الشخصية.
ــتآكل أنماط العائلة التقليدية وشيوع التحرر والديموقراطية في العلاقات الشخصية.
ويخلص جدنجز من كل ذلك إلي أن مستقبل الأفراد الشخصي لم يعد مستقرا وثابتا نسبيا كما كان الحال في المجتمعات التقليدية, ولذلك فإن القرارات مهما كان نوعها واتجاهها, أصبحت تنطوي الآن علي واحد أو أكثر من عناصر المخاطرة بالنسبة للأفراد.
ويري إيرليشن بك أن المخاطر تؤثر أيضا في خيارات وقرارات أخري تتصل بالمؤهلات التربوية والتعليمية, وبالمسارات الوظيفية والمهنية. وذلك لأنه من الصعب التنبؤ بطبيعة المهارات والخبرات العملية التي ستكون مطلوبة في مجالات الاقتصاد المقبلة المتغيرة علي الدوام.
وينطبق ذلك علي وجه الخصوص علي العلاقة بين نظام التعليم واحتياجات السوق. بمعني أن جيلا كاملا من المتعلمين تعليما نظريا قد لايجدون لهم مكانا في سوق العمل الذي قد يتطلب في مرحلة تاريخية ما مهندسين أو أخصائيين أو عمالا مهرة. ومن هنا يصبح اختيار المسار التعليمي نفسه نوعا من المخاطرة, إن لم يضع المتعلم في اعتباره تحولات السوق واحتياجاتها إلي نمط تعليمي معين, وخبرات عملية محددة.
وليس هناك شك في أن أحد أسباب بروز مجتمع المخاطرة العالمي هو العولمة بتأثيراتها علي مجمل العالم.لأن الأخطار تنتشر بصرف النظر عن الاعتبارات الزمانية والمكانية, كما رأينا في انتشار مرض الإيدز, أو جنون البقر, أو أنفلونزا الطيور.
بعبارة أخري أصبحت المخاطر ــ بفضل العولمة ــ عابرة للحدود والقوميات والثقافات.
المزيد من مقالات السيد يسين<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش