بقلم: شريف الشوباشي
العلمانية ليست رأيا لكنها حرية أن يكون لكل إنسان رأي.. وهي ليست عقيدة لكنها حرية أن يكون لكل شخص عقيدة لا يضطهد بسببها. وقد أدت رياح التعصب والانغلاق الفكري التي هبت علي مصر والعالم العربي
خلال الأربعين سنة الماضية إلي إيجاد مناخ يرفض اختلاف الرأي والعقيدة ويسعي إلي حبس الجميع في قالب واحد.
وقد سعيت في مقالاتي الثلاثة السابقة التي اخترت لها عنوان اماهي العلمانية؟ب لتحليل جذور العلمانية في مصر وشرح معناها, ودحض الشعارات التي ترفعها التيارات المحافظة من أجل تشويه مصطلح العلمانية وإظهاره علي أنه مرادف للكفر والزندقة. وسوف أحاول في هذا المقال استخلاص النتيجة التي أراها منطقية وهي أنه لا يمكن إقامة نظام ديمقراطي في أي مكان بغير تمهيد الطريق وتعبيده من خلال العلمانية.
وقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر معركة شرسة في كل مكان وبدرجات متفاوتة بين أنصار سيطرة الدين علي الدولة, وهو الفكر الذي هيمن علي جميع دول العالم طوال التاريخ من ناحية وأنصار الفصل بين الدين والسياسة من ناحية أخري. وكانت الأسس الفكرية التي بني عليها التيار الثاني موقفه هي أن إدارة شئون الإنسان علي الأرض هي شأن يخص إرادة البشر وينبع من عقل الإنسان وظروفه المتغيرة, وأنه مع تطور النظم السياسية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم أصبحت الدولة الدينية عائقا في سبيل التقدم وازدهار المجتمعات.
وقد أسهم انتصار هذا التيار في حسم المعركة من أجل الديمقراطية في العالم الغربي. ولم تعرف أوروبا ولا أمريكا الديمقراطية الحقيقية إلا عندما هيمنت فكرة فصل الدين عن الدولة واقتنع الجميع بأن الصراع من أجل السلطة من خلال الانتخابات الحرة لا يمكن تحقيقه إلا بعد إقصاء فكرة أن الحاكم يستلهم قراراته من السماء وأن أنصاره هم حماة الدين وأن من عاداهم يعادي السماء.
ومن يتابع إرهاصات العملية الديمقراطية خلال القرن التاسع عشر يكتشف أنها كانت دائما تدين في تطورها لتطور الفكر العلماني. فالعلمانية كانت تأخذ بيد الديمقراطية في كل خطوة تخطوها للأمام وكان كل نجاح للعلمانية يعني نجاحا للديمقراطية.
وكانت مصر من أهم دول العالم التي دارت فيها رحي تلك المعركة بدءا من محمد علي إلي الخديو عباس حلمي مرورا بالخديو اسماعيل. وبرغم كل المآخذ التي يمكن أن نستمسكها علي هؤلاء الحكام إلا أن موقفهم كان واضحا من قضية سيطرة الدين علي الحكم ومالوا شيئا فشيئا إلي فكرة الدولة المدنية, أي دولة تكون مرجعيتها عقل الإنسان ومصلحتة وليس محاولة فرض تفسير قاصر للدين من أجل الهيمنة علي عباد الله. لكن الصراعات في مصر كانت مستترة ولايتعرض فيها الناس صراحة لقضية الدين نظرا لحساسيته المفرطة عندنا وإن كان كبار المفكرين مثل الطهطاوي وعلي مبارك وقاسم أمين قد حسموا المسألة لصالح عقل الإنسان.
لكن المعركة كانت أكثر وضوحا في أوروبا. وقد أتيح لي أن أطالع بعض محاضر جلسات البرلمان الفرنسي خلال تلك الحقبة الحاسمة ولفتت انتباهي لغة التشنج التي كان يستخدمها أنصار هيمنة الدين علي السياسة واتهامهم التيار العلماني بأنه يسعي إلي تدمير فرنسا. لكن ما حدث بعد انتصار العلمانية معروف وهو أن فرنسا شهدت تقدما ضخما في كل المجالات وحجزت لنفسها مكانا متميزا في الصف الأول وأصبح شعبها ينعم برغد العيش والازدهار المادي والمعنوي.
ولعل أهم وأخطر درس يمكن أن نستخلصه من التاريخ الإنساني هو أن زواج الدين والسياسة باطل وينتج عنه أطفال غير شرعيين ومشوهين خلقيا وأخلاقيا. ولكي تقتنع بهذه الحقيقة أدعوك أيها القاريء الكريم إلي مشاهدة الفيديو الذي يتناقله الناس علي اليوتيوب منذ أسبوعين وتم تصويره في السودان. وسوف تري فيه سيدة سودانية تتعرض لضرب وحشي بالسياط برغم صياحها وركوعها علي ركبتيها وتوسلاتها للجلادين الذين كانوا يمطرونها بضربات الكرابيج. أما جريمتها فهي أنها تجرأت وارتدت بنطلونا في الطريق العام.. مما يدل في نظر جلاديها أنها قد تشبهت بالرجال وهو ما يحرمه الدين تحريما قاطعا. ولو طبق هذا الحد في مصر لصدرت أحكام بالجلد علي الغالبية العظمي من النساء والفتيات عندنا نظرا لأن البنطلون صار نوعا من الزي الرسمي في بلادنا بالنسبة للفتيات.
وقد تجرد هؤلاء الجنود المكلفون بتوقيع الحد الشرعي علي الفتاة السودانية من كل المشاعر الإنسانية لاقتناعهم بأنهم يطبقون شريعة الله علي الأرض والله بريء منهم ومن فعلتهم الشنعاء. ومن يشاهد الفيديو يتكون لديه انطباع بأن هؤلاء الجلادين يشعرون باللذة وهم يضربون السيدة المسكينة ويطربون لصرخات الألم والذعر التي تصدر عنها. ولا أتصور إطلاقا ان هؤلاء من الوحوش الآدمية خاصة إنني أعلم أن الشعب السوداني شعب طيب ورقيق المشاعر. لكن المشكلة هي أن هؤلاء مقتنعون بأن هذه السيدة خارجة علي دين الله وأنهم يطبقون عدالة السماء فألغوا عقولهم ومشاعرهم لإرضاء الله سبحانه وتعالي حسب تصورهم القاصر.
وليست مشكلتي أن هذا الفيديو يشوه صورة الإسلام أمام العالم. فأنا لا تهمني صورتنا أمام العالم بقدر ما تهمني الشعوب التي تعاني من الهاجس المسيطر علي البعض وهو أن السماء قد اختارتهم لتطبيق شريعة الله علي الأرض.
ولا يفوتني أن التطرف يفسد أي فكرة مهما كانت سليمة ومنها العلمانية بطبيعة الحال. وآخر دليل علي ذلك ما حدث في الأسبوع الماضي عندما انعقدت في باريس ندوة بعنوان اضد أسلمة أوروباب قامت بتنظيمها جمعية اسمها االرد العلمانيب وهي جمعية عنصرية تتخذ من الفكر العلماني ذريعة لقمع المؤمنين المسلمين في أوروبا وتخويفهم من أداء شرائع دينهم.
لكن ما حدث هو أن غالبية الطبقة السياسية في فرنسا هبت للاعتراض علي هذه الندوة. وقامت مظاهرات معظمها من الفرنسيين خارج القاعة التي انعقد فيها الاجتماع احتجاجا علي هذه الندوة وعنوانها المستفز. وصرحت النائبة الاشتراكية ساندرين مازيتيه بأن القائمين علي الندوة يشوهون مبدأ العلمانية, لأن العلمانية لا تعني البغض والكراهية ولا تعني اضطهاد الأغلبية للأقلية بل تعني حفظ حقوق الأقليات واحترام عقائدهم.
ومما لا شك فيه أن المجتمعات الإنسانية قد تطورت في اتجاه من الصعب الرجوع عنه. واتضح أن المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وحرية الاختيار وحرية التعبير هي الأسس التي لا غني عنها لتحقيق العدالة والرخاء.
والخلاصة هي أن العلمانية هي شرط مسبق للديمقراطية وليس العكس. ومن يريد أن يضع الديمقراطية قبل العلمانية كمن يضع الحصان أمام العربة. فلن تتقدم العربة.. ولن يتقدم الحصان.
المزيد من مقالات شريف الشوباشي<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش