الدواء بين مرارة الظاهر وحلاوة الباطن!
بقلم: رجائى عطية
من المتفق عليه بين أهل الطب والعلاج, أن تشخيص المرض هو أول مراحل العلاج, فبلا تشخيص واضح وصحيح وصريح, تضل روشتة العلاج, ويتعاطي المريض ـ إن تعاطي! ـ دواء غير الدواء الذي يكفل شفاء المرض وإبلاله منه..
وظني إن أردنا المصارحة مع النفس ـ أن مصر قد ألم بها مرض عضال, نري طفحه في هبوط مستوي الانتاج كما وكيفا واتقانا.. وتواضع بل وتردي الانتاج البشري والخدمي والصناعي والزراعي في شتي المجالات, وتراجع الإخلاص والانجاز ومعهما الاتقان, ونضح ذلك علي الخامة البشرية التي هي العنصر الفاعل في أي منظومة للإنتاج.. اي انتاج.. فتراجع مستوي التعليم بكل أنواعه ودرجاته وشعبه, وطال ذلك جامعاتنا الكبري التي تراجعت في جدول جامعات العالم إلي مراتب تراخت إلي ما بعد الألف الرابعة أو الخامسة, حتي زهرة هذه الجامعات التي كنا نباهي بها الدنيا حتي عهد قريب تراجعت هي الأخري في التصنيف العالمي إلي الألف الخامسة وسبقتها جامعات ناشئة ـ وفي المنطقة ـ لم تدخل باحة التعليم الجامعي إلا من سنوات قصار.. وصار تآكل المنظومة التعليمية أو المنتج التعليمي صار تآكلا شاملا انعكس في الثقافة والمعارف العامة, وفي التخصص العلمي والصناعي والتقني والمهني والحرفي.. يهولك حين تتغيا الاختيار لوظيفة أو لمهنة أو لحرفة أو لأي موقع, أن الطبيب لم يعد في قبضته علوم وخبرة الطب, وان هذا هو حال المهندس والصيدلي والصناعي والزراعي, والمهني والحرفي, وتدهش أن هذا التراجع لم يطل فقط التعليم العلمي والتقني الذي يحتاج الي أدوات وأجهزة ومعامل ومختبرات صار اقتناؤها ـ بالكم والنوع والكيف ـ عزيزا علي معظم إن لم يكن كل المعاهد والكليات, وإنما طال الداء جميع الكليات والمعاهد النظرية التي تكاد لا تحتاج إلا لمدرج ومحاضر.. ولكن المدرجات اكتظت حتي صار استيجاد مكان للوقوف ـ ودعنا من الجلوس! صعبا, وفقد المحاضر ـ إن حاز أصلا شروطه ـ فقد تواصله مع المتلقين المتزاحمين في المدرج بالآلاف يلفهم الضيق والاختناق, بينما ذات خامة المتلقين ضحلة الحماس والتعليم والثقافة والمعرفة, خرجت من المراحل الابتدائية والثانوية لا تعرف أبسط المعارف حتي قواعد الإملاء, وتخلط بين ثورة9191 وثورة2591, وتجهل جهلا مطبقا بتاريخ مصر, ناهيك بمباديء العلوم والرياضيات والفيزياء والأحياء لمن اختاروا التطلع الي كليات القمة, بينما صارت جميع الكليات ـ من ناحية المستوي في أدني السفح!! وانعكس هذا بداهة علي قيمة الخامة البشرية المصرية في مجال المنافسة لدي دول كانت الي عهد قريب تجري وراء الأطباء والمهندسين والعلميين والإخصائيين المصريين في شتي المجالات, مثلما انعكس علي مستوي الأداء في كل شيء بداخل بر مصر!!
وتدهش حين ترانا وقد تراجعت لدينا قيم العمل والانضباط الواجب في أدائه والالتزام بواجباته, وتراجعت معه قيمة الوقت فصرنا نمنح الإجازات بالأيام بل وبالأسبوع بالتمام والكمال, دون أن يهتز لنا جفن أو نقارن ما نفعله بعالم من حولنا يحسب الوقت بالساعة والدقيقة.. وصار اعتياد قيم التراخي والبلادة مقننا مألوفا مسعيا إليه مطالبا به من الجميع, بينما تردي مستوي الأضلاع الثلاثة للمنظومة التعليمية, المدرس والمبني والتلميذ, واختلت ضوابط العلاقة وضاعت المهابة التي كانت للمعلم الذي كان يقال فيه: قف للمعلم وفه التبجيلا: كاد المعلم أن يكون رسولا!.. وحل التطاول علي المعلمين محل الاحترام والإجلال والتوقير, وهجرت قاعات الدرس إلي المنازل حيث الدروس الخصوصية والمزيد من الاختلال في العلاقة بين المعلم الذي يقبض وبين التلميذ الذي يدفع, وصارت الرأفة ولجان الرأفة هي الأساس, نجأر بالشكوي إن لم تبادر لجبر خيبة ورسوب أبنائنا, وتخضع الإدارة فتوافينا بجرعات التهدئة, إنها تمنطقت أو سوف تتمنطق لجبر هذا الفشل المتردي بدرجات الرأفة التي ترفع بالراسب إلي نجاح لا يستحقه, وتهبط بالمنتج التعليمي الي خيبة ذرية يستحقها.. حتي إذا أراد مصلح ـ أي مصلح ـ أن يرأب ولو شيئا من هذه الصدوع ـ جمع صدع! ـ التي ضربت العملية التعليمية في كل باب, انبرينا له بالاعتراض والشجب والنكير والتجريس.. وكأننا نأبي إلا أن نمضي في تردينا التعليمي والعلمي والثقافي والمعرفي والصناعي والزراعي والمهني والحرفي حتي الثمالة, وأن نحل الفهلوة والأونطة والكسل والبلادة, محل الجد والإخلاص والبذل والاجتهاد.
لا أتصور ــ ولا يتصور أي عاقل, أن يجري أي إصلاح يخرجنا من وهدة ما صرنا إليه, إلا بروشتة جادة ــ وأكرر جادة ــ تصف لنا الدواء الناجع مهما كان في نظرنا مرا.. فهي مرارة يعقبها حلاوة وشفاء وإبلال.. وهذا لا يتأتي إلا بسلسلة إصلاحات متوازية متعاقبة تحمل إلي الناس, وعلنا من الآن, أننا مصممون علي إصلاح التعليم وانتشال العمل من التردي الذي صار إليه.
من المحال ان يسقط هذا الدواء وجوب إعلان أن الدولة لم تعد ولن تكون ملتزمة بالإلحاق بالجامعة لكل من يحصل علي الثانوية العامة, وأن يكون هذا الإعلان جادا مقرونا بالتنفيذ.. لا كشأن قيود الارتفاعات التي شفعناها بتهديدات بالإزالة, فلما آن أوانها إزاء أبراج خرقت القوانين واللوائح, وتجاوزت طوابقها الثلاثين.. عيني عينك أمام المحليات, تراجعنا وجعلنا نبحث عن المعاذير والتعلات لتلافي الإزالة التي توعدنا المخالفين بها, ودون أن ندري أننا بذلك نشجع علي المزيد من المخالفات التي جعلت تضرب في كل باب وفي جميع الأحياء, وليس قصرا ــ فقط! ــ علي العشوائيات!
هذا الإعلان الجاد ــ الواجب, كفيل بأن يضع كل حاصل علي الشهادة الابتدائية أو الاعدادية, هو وذويه, أمام خيار جاد.. أن يختار الثانوي العام إذا أراد ــ وهذا حقه ــ متحملا عواقب الحصول علي الثانوية العامة دون مقعد في كلية أو معهد جامعي, وصعوبة تنافسه علي عمل مع خريجي الثانويات الفنية والصناعية والزراعية والحرفية الذين تأهلوا في تخصصات يحتاجها ويطلبها سوق العمالة واحتياجات مصر, أو أن يأخذها من قصيره من البداية ويفرز ويغربل ويزن قدراته وما تيسره له, فيختار التعليم الذي يتوافق معه, الفني والصناعي أو الزراعي أو الحرفي.. الخ, عالما مدركا أن القيمة لم تعد محصورة فقط في شهادة جامعية, ولا في الجلوس إلي مكتب, وإنما في كرامة وعطاء وشرف العمل, فهو شرف في كل مجال يسهم في البناء والعمار للشخص وللوطن الذي طال أنينه واشتدت معاناته من سوء أداء بنيه وانبهام بوصلة اختياراته!!
لا أتصور هذا الدواء خاليا من إيقاف فوري لكل ما يندرج تحت الجبر والرأفة, أو التغني بسهولة الامتحانات, أو التلاعب في النتائج, ليكون معروفا ــ ومن الآن ــ للجميع, أنه لا سبيل للاجتياز إلا لدارس جاد, ينتظم في المدرسة والمعهد, وفي التعليم والتحصيل, وفي الاجتهاد والاستذكار, وفي تنافس نظيف, يترجم عن نفسه في اجتياز ونجاح حقيقي لامتحانات جادة لا تعرف الميل ولا التسهيل ولا الغش ولا الجبر ولا الرأفة.. فهي في هذا المجال خيبة وغفلة!
ومن المحال أن تستعيد المؤسسة التعليمية دورها الجدي, مالم نضع التعليم بكل أنواعه ودرجاته, علي رأس جدول القيم, وعلي رأس الميزانية العامة, لنوفر لأضلاعه الثلاثة أفضل وأرقي الظروف والامكانات والضوابط والمعايير لانجاز عملية تعليمية جادة في المراحل الابتدائية والمتوسطة والعالية, بحيث يكون خريج المدرسة وخريج المعهد ــ أي معهد ــ عنوانا صحيحا لهذه المدرسة أو هذا المعهد, وعنوانا للخامة المصرية ــ العلمية أو الفنية أو الحرفية ــ التي تباهي من حولها وتقتحم سوق العمالة ــ في مصر والخارج ــ مطلوبة لا طالبة, ومنشودة لا متشفعة ولا متوسطة!!
هذا الدواء المر في ظاهره الطلي في واقعه ونتائجه يستلزم العودة إلي قيم العمل.. إلي شرفه وجديته وانضباطه, إلي نظامه ودقته التي تكفل الاتقان والجودة مع الكم والعدد.. أن نعرف ونعي ونطبق أن العمل هو محصلة وقت وجهد, وأننا حين نغفل قيمة الوقت, وندع العاملين ينصرفون عن العمل وينشغلون بغيره في محله, أو ينصرفون منه إلي التسوق أو التسكع في الطرقات, وحين نمنح الإجازات بالأيام وبالاسبوع, فإننا نكرس في أذهان كل عامل ــ أنه لا قيمة للعمل, وندعوه بالوعي أو باللاوعي إلي البحث عن أي سبيل يتخفف به من جهده وعنائه, وينصرف عنه إلي شواغله الشخصية أو تسكعاته أو إجازاته إن لم تكن تزويغاته!!
ما أحرانا أن نلتزم بشعارات أطلقناها وتغنينا بها ثم نسيناها.. ما أحوجنا أن نتقدم مرة أخري إلي الجد والنظام والعمل والإخلاص.. إن إمسكنا بهذه المثل, صلح تعليمنا, واستقامت خبرتنا وأعمالنا, وترقي عطاؤنا وإنتاجنا, وإرتفعت تبعا لذلك مستويات معيشتنا.. بلا جبر ولا منع ولا هبات, وإنما بعزم وبذل واجتهاد العقول والسواعد!
المزيد من مقالات رجائى عطية
ساحة النقاش