عالم السياسة الإخباري .. هشام نجار
إجازة في وطني سوريا
الحلقة الثانية بعنوان : آلو … أنا أبو محمد
أعزائي القراء
تركتكم في آخر الحلقة الأولى وقد أوصلنا سائق التاكسي حوالي منتصف الليل إلى البيت فرميت نفسي على أقرب كنبة .. ثم رحتُ في سبات عميق .. إستقيظت في اليوم الثاني عصراً وأنا أكثر تماسكاً فأخذت دوشاً بارداً منحني نشاطاً إضافياً .. وبعد يومين بدأت إتصالاتنا مع الأهل والأصدقاء لترتيب زياراتهم لنا .. شعورٌ غريب وأنت تلتقي مع الأهل والأقارب والأصدقاء بعد هذه السنين الطويله .. فالطفل صار شاباً وزوجته تضم طفلاً إلى صدرها .. والشاب شابت ذوائبه والكهل إفتقدناه أو كدنا ..
شرفة البيت متجهة إلى الغرب والهواء المسائي الجاف يداعب وجهي فأستنشقه عطراً مشبعاً برائحة صنوبر بلادي الغافي هناك على ساحل سوريا الغربي المجاور لبحر الوطن .. فنجان قهوة صنعته لي أم لؤي ثم ذهبت إلى غرفة الضيوف لترحب بصديقات جئن للسلام عليها .. الطاولة أمامي نظيفة خالية الا من مُسجّل صغير ينطلق منه صوت فيروز المشبع بالحنان والذي عشقته طفلاً وشاباً ومازلت .. وانا أرنم معها كلماتها لدى كل رشفة قهوة عربية أتذوقها "طيري ياطياره طيري ياورء وخيطان بدّي ارجع بنت زغيره على سطح الجيران" .
ليس لدي شغف في صحف سوريا .. لذلك كانت طاولتي خالية منها فالصحف المؤممة تتكلم لغة واحدة ممله تعودتُ عليها منذ نصف قرن تقريباً ولم تتغير .. كان الله في عوننا .. المقالة أو الخبر في هذه الصحف يجب ان يمر عبر سلسله من التدقيقات قبل النشر قد تصل في النهاية الى موافقة سيادة وزير الإعلام والذي هو في النهايه يخضع إلى احد رؤساء فروع المخابرات .. فهل أنا بحاجة في إجازتي إلى التمتع بقراءة تقارير مخابراتية مقتولة الإبداع كل ما فيها : أخبار السيد الرئيس .. نام الرئيس .. فاق الرئيس .. عاش الرئيس .. إستقبل الرئيس .. لا ألوم بعض كتّاب هذه الصحف فالصحافة لبعض هؤلاء لقمة عيش فقط .. كان الله في عونهم .. ولولا أن الحكومة تفرض على دوائر الدولة ومؤسسات الحكومة والقطاع الخاص الإشتراك بها لكنتَ وجدتَ الصبية يجمعون هذه الصحف ويبيعونها بالكيلو إلى أصحاب محلات الفلافل والطعمية ليلفوا بها السندويش لزبائنهم .
آه … يا … وطن .. كل شيئ في سوريا اليوم يقاس بالصمود الزائف حتى صحافة النظام صامدة كما ترون بفضل اموال المواطن التي تذهب في طريق دعم وصمود صحافتهم الصفراء .
آه … يا … وطن كل شيئ فيك يجب ان يكون صامداً بلغتهم من أجل أن يبقى كرسي النظام صامداً وملتصقاً ب( كريزي جلو من نوع خاص) في مؤخرتهم .. وزفرت زفرة طويلة مع رشفة قهوة عربية .. إنتبهتُ إلى نفسي فقلت لها: مالك ووجع الرأس .. ثم عدت إلى مسجلتي أعيد ما فاتني من اغاني صديقتي فيروز .
اعزائي القراء
في اليوم الثالث إستقبلنا الأهل والأقارب- أهلاً… أهلاً ..الله يسلمكم يا ألف مرحبا ..شرّفتوا اهلين وسهلين..أهلاً أبو أحمد والله زغران يا أبو أحمد -
يرد: الفضل لأم احمد (تخجل أم أحمد )
-على عيني إنت وأم أحمد الله يخليلك ياها وتبقوا دايمين لبعض إن شا الله.. إنت مصطفى؟
-لا انا سعيد أخو مصطفى..- ما شا الله ..مين مصطفى؟
- هادا الشب اللي على يسارك وهي مرتو اللي جنبو
- ما شا الله تركتك يا مصطفى وأنت بتلعب بالحاره ..كيفك خالتي أم محمد ..وانت أخي ابو مازن كبرنا بس الشيب ماهو مقياس المهم شعور الشباب يكون موجود….يا أسعد عمو ساعد خالتك أم لؤي جيب كم كرسي من أودة السفره..تعي حبيبتي لجنبي ..إنت شو إسمك؟
- أنا علياء
- عاشت الأسامي
-عمري خمس سنين
-ما شا الله
- خالتي : هي بنت إبني الزغير خالد
- الله يخليّون حلوين ديرو بالكون عليهم ( قلت لنفسي : من أجل هذا الجيل يطالب شعبنا بالحرية .. من أجل جيل واثق لا يرتجف يقول كلمة الحق للكبير والصغير دون خوف ولاجل .. من أجل بناء شخصيتهم القوية يطالب هذا الشعب بالحرية والكرامة) .
إخوتي وأخواتي بدأ الحديث يدور بين الجميع .. السيدات لهن أحاديثهن الخاصه بهن .. والرجال لهم أحاديثهم .. تكلمنا عن البلد .. عن الذكريات .. عن الأحياء .. عن الأموات .. تكلمنا في كل شيئ وعن كل شيئ الا السياسه .. اليس هذا كان وعداً مني لأم لؤي أن لا أجيب سيرتها؟
الجو كان ممتعاً وفناجين الشاي المعطر بالقرفة من صنع أم لؤي تدور علينا .. والآيس كريم وحلاوة الجبن من محلات سلوره الأصلي تخفف عنا حرارة شهر آب / أغسطس .. وفواكة تفوح رائحتها البلدية في الغرفة فتنسيك فاكهة نيويورك الصناعية .. وفي غمرة هذا الجو الإحتفالي يقرع جرس التلفون فيرفع أخي سماعة الهاتف
-: آلو…مين؟
- مرحبا أنا أبو محمد, حضرتك الأستاذ هشام؟
- لأ..لحظه .يهمس في أذني : عبؤول ابو محمد!
قلت: مين أبو محمد! أش بدو! وكيف عرف تلفوني! كل هذه الأسئله مرت في مخيلتي قبل أن أستلم سماعة الهاتف من أخي
-: ألو مين
- مرحبا مهندس هشام أنا أبو محمد من مخابرات أمن الدولة
- أهلاً بأمن الدولة…أي مساعدة؟
- عذراً على الإزعاج
- : ياسيدي بسيطه.. اي خدمه؟
- سؤال إذا سمحت ممكن تعطيني عنوان ورقم تلفون أخوك المهندس غسان؟
هنا كان علي ان آخذ فترة تنفس وحبة متروبولول لتخفيض الضغط ثم أعيد خلال عشْر الثانيه برمجة ذاكرتي لهذا الطلب العجيب الذي ينم عن غباء او إستغباء لي وهو الأرجح
قلت له: ياسيدي الفاضل انتم مخابرات الدوله ..تعرفون عناوين السوريين فرداً فرداً ويلجأ الشعب إليكم لمساعدته بتزويده بأرقام هواتف لايشملها دليل الهاتف..تقيمون في كل بنايه..تنصبون خيامكم فوق كل منزل عربي في حاراته القديمه..تعرفون متى ينام الشعب..ومتى يصحو وماذا طبخ اليوم وماذا سيطبخ غداً ..وأين سيقضي سهرات رمضان…ثم تسأل يا أبو محمد مثل هذا السؤال لشخص وصل وطنه منذ ثلاث أيام فقط .. ترك حلب وعدد سكانها مليونان ونصف ليجدها اليوم اربع ملايين ونصف نسمه!؟
- رد أبو محمد: آسف أستاذ على الإزعاج وأغلق الخط.
الجميع فغر فاهه متعجباً الا ان بعض الزوار حاول إمتصاص الصدمه قائلاً: إن الأمر عادياً هنا فلا تقلق يا أبو لؤي…
لا أقلق!..لا أقلق!..لا أقلق! اهكذا يعاملون الشعب! أهكذا يوجهون إنذاراتهم لزوار الوطن وأهله …اهذه هي طريقتهم المقنعه ليفهموننا أن كل شيئ مراقب وتحت جزمتهم …آه يا وطن .. وما زالوا يسمونك وطناً تجاوزاً فلقد حولوك إلى سجن كبير زرعوا فيه كاميراتهم الخفيه حتى في غرف نومنا وحمامتنا…ثم قالوا لنا لاتقلقوا .. فكل ذلك من أجل إسطورة الصمود الزائف والتصدي الكاذب…..إلتفت إلى زوجتي أم لؤي قائلاً : من فضلك حبة متروبولول تانية لتخفيض الضغط …ودعنا أحباءنا…وذهبت إلى فراشي أغط في نوم عميق .
الحلقة الثالثة من : إجازة في وطني سوريا بعنوان: دمعة على الإنسحاب الكيفي من الجولان…مع تحياتي