يتميز منهج الفكر الإسلامي بقدرته على صياغة العقول وملء القلوب وبلورة الشخصيات وتعديل مسار كل من التزم بنهجه الوسطي الرائع الفريد..
ومع تداخل المناهج الفكرية المختلفة وتباين المشارب المتنوعة في هذه الأيام أصبح الفكر الإسلامي الأصيل غريبا أو مستغربا لدى البعض خصوصا وقد كثر الجدل ودار حوله الخلاف..
وقد يكون من اللائق في حديثنا هذا الأسبوع أن نطرح موضوع الفكر الإسلامي وأسسه الأصيلة للتتبع والبيان كما أرشحه للنقاش الجاد والمفتوح من المهتمين ب الحركة الإسلامية عموما..
فالحركة الإسلامية في أمس الحاجة لمبادىء فكرية متفق عليها تحدد لها بوصلتها لتسير من خلال أطرها المرسومة بدقة لها، فتكون لها بمثابة الخطوط العريضة الأساسية التي لا يسع المفكر الإسلامي أن يخرج عن إطارها كما لا يمنع المجتهد والمبتكر أن يحيا بفكره عبر خطوطها الرفيعة ويجتهد في وسائلها المتاحة.
ونحاول هنا أن نعرض تصورا نرجو أن يكون مقبولا لدى المفكرين الإسلاميين حول أهم المعالم والضوابط التي يجب أن تسير خلالها الحركة الفكرية الإسلامية الراشدة
أولا: الإيمانية:
أعني به هنا أن يكون إطار الإيمان هو الإطار الأكبر الذي يحيط بأساليب التفكير الإسلامي كي يكون راشدا وحتى يؤتي ثماره المأمولة، فالمنهج الإسلامي قائم على الإيمان الراسخ الثابت والعقيدة التوحيدية الشفافة الناصعة والعبودية المخلصة، وهذه الثلاثية هي المحدد الأساسي لصحة التفكير، فكل تفكير يدعو إلى زيادة الإيمان هو في سبيله إلى الصواب وكل تفكير جلب أو سعى إلى قلة الإيمان أو ضعفه أو اثر سلبا في قيمة العبودية أو لم يحفظ جناب التوحيد فقد حاد بعيدا عن مبتغى الإسلام ومطلبه المتفق عليه.
ومن هنا كان لزاما على المفكرين الإسلاميين أن يحيو فكرة الإيمان والعبودية في كتاباتهم وأن يجعلوها قاسما مشتركا في إبداعاتهم الفكرية أيا كان مستواها أو مجالها، فهي السمة العليا التي يتميز بها الفكر الإسلامي عن غيره من الطرق والأساليب الفكرية الأخرى.
لابد إذن من تربية فكرية راسخة قائمة على الإيمان، والإيمان لا يتعارض مع العقل والفكر، بل يبني عليه ويتغذى به، والمؤمنون في نظر القرآن هم " أولوا الألباب " والقرآن آيات " لقوم يعقلون " أو " يتفكرون "
إننا بحاجة إلى تميز في فكرنا الإسلامي من هذه الجهة يتناسب مع هذا الكم الهائل من الأفكار والاجتهادات والابتكارات التي تنهال على الساحة الإسلامية كل ساعة.
والمفكر الذي يهمل الجانب الإيماني من حيز عرضه لآرائه وأفكاره لم يتشبع بعد بنورانية هذه الرسالة العظيمة التي أضاءت للدنيا كل سبيل للفكر والعمل والإنجاز.
وإذا نظرنا للجهة المقابلة وهي جهة حاملي هذه النماذج الفكرية لوجدنا أن إهمالنا لتلك الجوانب سيولد لنا مسوخا مشوهة من العقول التي تتسم بكثرة التفكير والابتكار مع قلة الإيمان والعبودية، فتنكسر مع أول صدمة وتذوب في أول اختبار.
(الإخلاص والمراقبة والمحاسبة والتوكل.. ).. تلك الأسلحة الروحية التي تثبت الأثر الفكري الراشد في قلوب حامليه ونفوسهم، ومن هنا بقيت لنا أفكار المفكرين المسلمين المخلصين حتى الآن منارات على الطريق إذ كانت الربانية هي إطارهم الفكري الأصيل الذي منه انطلقوا لمساحات رحبة من الإبداع والعطاء.
لابد إذن من تربية فكرية راسخة قائمة على الإيمان، والإيمان لا يتعارض مع العقل والفكر، بل يبني عليه ويتغذى به، والمؤمنون في نظر القرآن هم " أولوا الألباب " والقرآن آيات " لقوم يعقلون " أو " يتفكرون "
ثانيا: العلمية:
وأعني بالعلمية كسمة من سمات التفكير الإسلامي الراشد ما يتعلق بصفات العلم الحق، الذي يقوم على الدليل الصحيح والبرهان المتيقن، وتقوم نتائجه على مقدمات صحيحة ثابتة.
فالتفكير الاستراتيجي نوع من التفكير العلمي الذي يجب أن يهتم به المشروع الفكري الإسلامي وأن يعتمده كأسلوب مهم من أساليب توصيفه لمستقبل الحركة الإسلامية في كل مكان على حده.
والتفكير التكتيكي المبني على التخطيط والترتيب والاستعداد نوع آخر من التفكير ينبغي اعتماده وقبوله في مشروعنا الفكري.
والتفكير النقدي التوجيهي نوع ثالث صالح للوقوف على الخلل وإسداء النصائح وبيان السبيل إن التفكير العلمي المأمول هو الذي لا يعتمد على العاطفة كمحرك للسلوك، ولا يقبل الارتجالية في العمل والأداء، ولا بالانفعالية كطارىء غريب يشذ به عن الحكمة والثبات كما إنه لا يعترف بمفاهيم التبرير والغفلة والأثرة والذاتية وغيرها كمفاهيم هدامة لطالما نخرت في جسد الأمة والإسلام منها براء.
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير قائد يعتمد كل أسلوب ناجح ساعد في بناء الأمة ويشجع كل تفكير إيجابي يبني وينتصر.
وقام أصحابه من بعده رضوان الله عليهم فجمعوا القرآن وحفظوا حدود الدولة الإسلامية وأمنوا ثغورها ونظموا أساليب حكمها ودونوا الدواوين وقسموا العطايا وأقاموا العدل والقسط.
وتعتمد النظرة العلمية في الفكر الإسلامي على المنهج الموضوعي في التعامل مع المواقف والتصرفات بمعنى أنها تزن الحقائق وتقيم المواقف في ظل نظرة عادلة للسلبيات والإيجابيات، كما إنها لا تكتفي بتوصيف الوقائع دون تحليلها بل تأمر بتحليل التصرفات ومعرفة دوافعها وتقييم المواقف الكبيرة والصغيرة ومعرفة دواعيها ومن ثم حسن تقييمها
والعلمية تحتم على المفكر تقدير رأي المخالف واحترام تخصص المتخصص وعدم التعجل في الأحكام والقرارات إلا بعد دراسة متأنية وبحث مستفيض.
ثالثا: الوسطية:
إنها سمة أصيلة في الفكر الإسلامي الراشد مستمدة من النصوص القرآنية ونصوص السنة النبوية المتكاثرة، فأمتنا أمة وسط وديننا دين الوسطية والاعتدال.
والواقعية تحتم على الحركة الإسلامية أن تنظر لأفرادها نظرة تقويمية كل فترة من عمرها، فالموفقون المنجزون هم أفرادها الذين يعتمد عليهم والكسالى الذين لم يبرحوا أماكنهم ولم يراوحوا مضاجعهم ينبغي أن ينتظموا في الصف
إنها سمة يجب أن تغلب على التفكير الإسلامي للحركة الإسلامية كي تنبذ كل فكر منحرف وكل تفكير مضطرب وترفض كل ذهنية شاردة أو متصلبة أو متطرفة.
ونظرة الإسلام للوسطية تشمل نظرته للحياة والكون ونظرته للمجتمع و الناس ونظرته للأفكار والمناهج.
لقد أنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أولئك النفر الذين بالغوا في العبادة واستقالوا عبادته - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: " إنني أنام وأقوم وأتزوج النساء وأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني " الصحيح.
يقول الإمام الذهبي - رحمه الله - تعليقا على بعض الذين شددوا على أنفسهم في دين الله: " ودين الإسلام يسر وحنيفية سمحة، فليأكل المسلم من الطيب إذا أمكنه، كما قال - تعالى -: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} وقد كان النساء أحب شيء إلى نبينا والطيب، وكـذلك اللحم والحلواء والعسل والشراب الحلو البارد والمسك، وهو أفضل الخلق وأحبهم إلى الله - تعالى - صلى الله عليه وسلم -، ثم العابد العريُّ من العلم متى زهد وتبتل وجاع وخلا بنفسه.... ولج الشيطان في باطنه وخرج، فيعتقد أنه وصل، وخوطب وارتقى، فيتمكن منه الشيطان، ويوسوس له، فينظر إلى المؤمنين بعين الازدراء، ويتذكر ذنوبهم، وينظر إلى نفسه بعين الكمال، وربما آل به الأمر إلى أن يعتقد أنه ولي وصاحب كرامات وتمكن، وربما حصل له شكٌ وتزلزل إيمانه... وليس ذلك من شريعتنا في شيء، بلى، السلوك، وملازمة الذكر، وترك مخالطة العامة، والبكاء على الخطيئة، والتلاوة بالترتيل والتدبر، ومقت النفس وذمها في ذات الله، والإكثار من الصوم المشروع، ودوام التهجد، والتواضع للمسلمين، وصلة الرحم، والسماحة وكثرة البشر، والإنفاق مع الخصاصة، وقول الحق المر برفق وتؤدة، والأمر بالعرف، والأخذ بالعفو، والإعراض عن الجاهلين، والرباط بالثغر، وجهاد العدو وحج البيت، وتناول الطيبات في الأحايين، وكثرة الاستغفار في السحر، فهذه شمائل الأولياء وصفات المحمديين أماتنا الله على محبتهم" سير أعلام النبلاء 1289
ونحن نعلم أنه قد مرت بالحركة الإسلامية فترة سيطر فيها الفكر الإقصائي المتشدد نتيجة لما مر بالمفكرين من ظروف شديدة وما مر بالإسلاميين من ضغوط وآلام متكاثرة ولكننا اليوم ندعو المفكرين من أبناء الإسلام إلى تبني هذا النهج الوسطي في التفكير الإسلامي المعتدل، هذا التفكير المعتدل الذي ينبذ تكفير المجتمعات والمؤسسات، ويدع الحكم على الأشخاص والأفراد للعلماء الراسخين في الشريعة والقضاة الشرعيين المختصين بذلك، هذا التفكير المعتدل الذي يقبل من المجتمع أصل إيمانه بلا إله إلا الله ويحكم عليه بظاهر أعماله ولا ينقب عن بواطنه ويذر دواخله لله - سبحانه -.
هو وسط بين دعاة المذهبية الضيقة واللامذهبية المنفرطة، بين دعاة الانفتاح على العالم بلا ضوابط ودعاة الانفتاح على النفس بلا مبرر، بين المستغرقين في السياسة على حساب التربية والبلاغ، والمهملين لها بدعوى باهته، وسط بين المستعجلين لقطف الثمرة قبل أوانها، والغافلين عنها حتى تسقط في أيدي غيرهم، وسط بين المتجمدين في الأشكال التنظيمة، والمتحللين من أي تعاون مرتب، وسط بين الغلاة في طاعة المربين والمسرفين في تحررهم من كل مشورة مرب، وسط بين المسرفين في التفاؤل والمتجاهلين العوائق، والمسرفين في التشاؤم فلا يرون إلا الظلام ويجب على أصحاب الفكر الإسلامي الراشد أن يراعوا ويقدروا ظروف الناس وما يحيط بهم من مكائد وما يعتورهم من مخططات في كل اتجاه تحيد بهم عن دينهم وتضللهم السبيل وتلهيهم عن عبادة ربهم.
إن الأمة الإسلامية الآن في أمس حاجة إلى داعية يكون ذا قلب ينبض بالرحمة والشفقة على الناس ويريد لهم الخير والنصح، فهو لا يكف عن دعوته ولا يسأم من الرد والإعراض؛ لأنه يعلم خطورة عاقبة المعرضين العصاة وهو يعلم أن إعراضهم بسبب جهلهم، فهو لا ينفك عن إقناعهم وإرشادهم، فعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله ? يقول: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) أخرجه مسلم
رابعا: الواقعية:
من أهم سمات الفكر الإسلامي الراشد أن يكون واقعيا، وتعني الواقعية هنا بعض النقاط الهامة منها:
1- أن ينطلق من المقدور عليه ومن المتاح له ابتداء، وألا يسبح في خيالات غير مقدورة يريد أن ينطلق منها وهو لا يزال في موضعه لم يتعداه، وأذكر هنا ما يكون من بعض التجمعات التي تضع لنفسها أهدافا بعيدة المنال صعبة التحقيق شديدة الوعورة في الطريق إليها، وهؤلاء قد خالفوا الواقعية في التفكير، مما يصيبهم بعد فترة من اليأس والخذلان والانكسار، ولو أنهم وضعوا لأنفسهم أهدافا مرحلية متقاربة مقدورا عليها الواحد تلو الآخر حتى يصلوا لما يريدون لبثوا في أفرادهم الأمل ولاجتازوا داء الفتور.
2- أن تقدر الحركة الإسلامية قدراتها بأسلوب واقعي دقيق فلا تبالغ في تصور قدرتها ولا تستهين بفاعلية أفرادها، فهي تضع لهم برنامجهم بعد معرفة طاقاتهم بدقة ومن ثم فهي توظف كل الطاقات ولا تهمل أحدا وتضع الرجل المناسب في مكانه ولا تغتر باسم مشهور ولا بحديث معسول ولا بولاء ظاهر وإنما تقدر الإمكانيات بتجرد كامل وواقعية حقيقية.
3- والواقعية تحتم على الحركة الإسلامية أن تنظر لأفرادها نظرة تقويمية كل فترة من عمرها، فالموفقون المنجزون هم أفرادها الذين يعتمد عليهم والكسالى الذين لم يبرحوا أماكنهم ولم يراوحوا مضاجعهم ينبغي أن ينتظموا في الصف، وأعتب هنا على بعض التجمعات التي قد اتخذ بعض أفرادها مقام القيادة والمسئولية متكأ فهم على أنفاسها كاتمين لعقود من الزمان وهم لم تتقدم بهم دعوتهم إلى الأمام بل تراجعت إلى الخلف، فواجب هنا على هؤلاء الفاشلين أن يوسعوا الطريق لأصحاب الهمم العالية وأن يطهروا قلوبهم من الأثرة فإن الدعوة إلى الله ليست ميراثا ولا تراثا.
4- كذلك فإن من واقعية الفكر أن يدعو إلى أن يقود العمل أصحاب السلوك الرباني الإيماني القويم، فلا يتصدر قليلوا العلم ولا قليلوا الخبرة، وإنما من يجمع بين الربانية والإيمانية والعلم والخبرة والإنجاز.
5- والفكر الواقعي هو الفكر البعيد عن العواطف والذي لا يتأثر بالحماسة المؤقتة، ولا يضع أذنية مستمعا لكل صارخ، بل ينطلق في كل خطواته من خرائط مرسومة وخطط دقيقة موسومة.
وأخيرا فإن مسيرة الفكر الإسلامي الرشيدة لفي حاجة ملحة لكل جهد علمي فكري مخلص يؤكد على ثوابتها ويعين سبيل التعامل مع متغيراتها ويصوب أخطاءها ويشخص المرض ويصف الدواء.