النظام العبادي ودوره في التنمية
لو دققنا النظر في مقومات المذهبية الإسلامية وجدنا أن التوحيد الخالص فيها، هو الذي يولد العبادة الصحيحة، ذلك لأنَّ المسلم لا يؤمن بربِّ السموات والأرض إيمانًا نظريًّا مُجرَّدًا فَحَسْب، وإنَّما ينتقِلُ إلى الشِّقِّ الآخَرِ من تِلْكَ الحقيقةِ التَّوحيديَّة، وهو عبادةُ ذلك الرَّبِّ الإلهِ، وَحْدَهُ لا شريكَ له، وترْكُ عِبادة سواه بأيِّ معنًى من معاني العبادة، وبأيِّ معنًى من معانِي الشِّرْك، خفيِّها وجليها.
فلو لم يكن المسلم هكذا لما عبدَ الله حقَّ العبادة، ولوجَّه إذًا عبادته إلى غيره، أو أشرك به أحدًا من خلقه، أو شيئًا من الأشياء التي خلقها.والحقيقة الَّتِي لا ريب فيها أنَّ العبادة فطرة مركوزة في النفس البشرية، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} الآية [1].
فعلى ذلك فإن العبادة تمثل الجانب الرحماني في الإنسان، ومهمة الأنبياء والمرسلين والمصلحين والمربين الذين يهتدون بهداهم أن يثيروا فيه هذا الجانب، ويجعلوه في حالة اليقظة الدائمة، لأنه قد ينجرف وراء الجانب الحيواني لديه، الذي يثيره الشيطان عن طريق النفس الأمارة بالسوء، وهذا الصراع إن لم يتغلب فيه الجانب الرحماني، يعش الإنسان في شقاء حضاري كبير، وقد نبهنا الله جل شأنه إلى ذلك بقوله: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [2].
وانتصار الجانب الرحماني هو الذي ينتهي إلى وضع الإنسان على طريق إنسانيته، بتهذيب الغرائز وتعديل عوج الحضارة.وغاية العبادة على ذلك في توجيه هذا الصراع هو الخلاص من الاضطراب الذي ينشأ من اصطدام المادة بالروح في كيان الإنسان، بحيث يدفع إلى الترقي الدائم نحو الكمال وأداء حق الأمانة.وهذا هو الذي يوجد السعادة النفسية واطمئنان القلب وتوازن كيان الإنسان، بعكس اليهودية التي أرادت أن تجسد المادية في الإنسان، والنصرانية التي حاولت عبثًا أن تصنع من الإنسان ملكًا.
إن العبادة في الإسلام نظام متكامل لترقية الإنسان الخليفة؛ حتى يستحق هذا المقام الكريم، ويؤدي التكليف الإلهي له على الوجه الأكمل.على أن النظام العبادي في الإسلام لا يؤدي إلى الانقطاع عن الحياة، لأن الإنسان عندما يرتفع بالنظام الروحي، لا يبقى في عالم الروح المجرد، وإنما يرجع إلى هذا العالم المادي؛ لكي ينظفه ويطهره، ويطرد منه شياطين الإنس والجن.
إن النبي الكريم عندما صعد إلى السموات العلى، وكان ذلك الصعود ألذ رياضة روحية، لم يبق هناك؛ وإنما عاد إلى الأرض "ليشق طريقه في موكب الزمان؛ ابتغاء التحكم في ضبط قوى التاريخ، وتوجيهها على نحو ينشئ به عالمًا من المثل العليا جديدًا" [3].ومن هنا فإن النظريات الروحية الفلسفية التي دخلت في المجتمع الإسلامي عبر التاريخ، والتي أدت إلى الانهزامية في الحياة، والرهبانية السلبية تتعارض مع النظام الروحي الإسلامي الذي كله تربية وبناء وحركة، لأن مملكة الإنسان في هذه الحياة على الأرض وليست في عوالم روحية موهومة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة}[4].
وهذا يدل على أن العبادة في الإسلام لا تقود الإنسان قط إلى عزلة اجتماعية، لأنها نظام عقلاني يربط السبب بالمسبب، وينفي الخرافة في فهم العلاقات الوجودية.
وقد يظن البعض أن النظام العبادي في الإسلام يقتصر على الفرائض العبادية المعروفة، من صلاة وصوم وحج وغيرها من أنواع العبادات، وعلى الرغم من أن تلك الفرائض مهمة جدًّا من حيث آثارها في نواحي الحياة كلها[5]؛ لأنها تشترك في بناء الكيان المنضبط المستقيم، وتشعره بلذة العبودية لله تعالى، والتمثل بأنواع من الفضائل والعيش في الحياة بطمأنينة وصفاء، وتوجيه غرائزه الحيوانية وجهة بناءة تحافظ على جوهرها، وتحول بينها وبين الوقوع في الانحرافات السلوكية والقلق والضياع والاضطراب، إلا أن العبادة في الإسلام لا تقتصر على تلك الفرائض، بل لها مفهوم أشمل يسع الحياة الإنسانية في تفاصيلها كلها، سواء منها ما تعلق بأمور الدنيا أو بمسائل الآخرة.
وفي سبيل توضيح هذه الحقيقة، نسأل: ما معنى العبادة؟ فنقول: العبادة من عبد، ومعناه اللغوي: هو الخضوع[6].وأما في الاصطلاح: فهو يعني غاية الخضوع والانقياد لله سبحانه وتعالى، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والانشغال به بالجنان بالتفكر، أو بالجنان واللسان بالتدبر، والذكر وبسلوك المسالك المحببة إليه عن رغبة وحب، فهي لها عنصران: الامتثال والانقياد، وعنصر الشوق والمحبة والتذلل[7].فإذا كان الأمر كذلك فأي شيء أمر الله الخالق سبحانه بفعله، فالقيام به طاعة وخضوع وقربة، ولقد جعل الله الإنسان - كما ذكرنا - خليفة في الأرض، وكلفه بالأمانة الكبرى.
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [8].فأي إنسان يتحرَّكُ في أيِّ اتِّجاه لتحقيقِ أيَّةِ مصلحةٍ اجْتِماعيَّة يُعَدُّ عابدًا لِلَّه، مُطيعًا له في تَحقيق هَدَفٍ من أهْدافِ تِلْكَ الخِلافة، فعلى ذلك فالعامل الذي يَعْمَلُ بِجِدٍّ وإخْلاصٍ لِزِيادةِ الإنتاج الصناعي - وهو يَعْتَقِدُ أنَّ خالِقَهُ قد أمره بذلك - هو عابد لله تعالى، والفلاح الذي يزرع الأرض كي يكثر المحصول، ويتنعَّم به أبناءُ مُجتَمَعِه عابد، والمهندس الذي تأتمنه الدولة وتَعْهَدُ إليْهِ الإشْرافَ على بِناية تكلُّف ملايين الدنانير، فيخلص في إشرافه، ويقطع دابر خيانة العاملين فيها والبانين لها عابد، وهكذا الأستاذ والطبيب وأهل المهن والحرف إذا آمنوا بالله تعالى وعَبَدُوهُ وأَخْلَصُوا في أعمالِهم بِقَصْدِ إفادة المجتمع هم في الحقيقة مُطيعونَ لِله تعالَى بتحقيق قانونٍ من قوانينه.
إذًا كل شيء في الحياة ينقَلِبُ إلى عبادةٍ خالصة، إذا كان قصد العامل فيه إطاعة الخالق، وتحقيق أكبر قدْرٍ مُمْكِنٍ منَ المنفعة الذاتيَّة والاجتماعيَّة المشروعة، ودليلنا في تلك القاعدة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [9].وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء))[10].
وقوله: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك فأخره، فشكر الله له فغفر له))[11].وقد وردت أحاديث كثيرة تجعل تبسم المرء في وجه أخيه صدقه، وإسماع الأصم وهداية الأعمى وإرشاد الحيران ودلالة المستدل على حاجته، وما يدور في هذه الأرض من الأعمال، عبادة وصدقة طيبة.
وبِهذا يعيش المسلم في مجتمعه ينبوعًا للخير مصدرًا للبركة مقدامًا عند الملمات، معاونًا لكل المحتاجين، مخلصًا في أعماله جميعًا؛ لأنه يطيع الله بذلك ويعبده، وينتظر عليه الجزاء في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون؛ إلا من أتى الله بقلب سليم.
وإذا راجعنا تاريخ القرون الإسلامية الأولى وفترات أخرى غيرها، رأينا أن المسلمين في ظل مثل الإسلام هذه تحرَّكوا لمواجهة الحياة وبنائها، وتغلغلوا في كل اتجاه، وبنوا الحضارة الإسلامية في فترة زمنية قياسية مستغلين قوانين المادة وتسخيرها بما يرجع عليهم وعلى البشرية جميعًا بالخير العميم.لقد كان المسلمون الصادقون الواعون يفهمون جيدًا قوله تعالى في انطلاقهم العظيم ذلك: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [12].
إن الإسلام ينفر عن طريق نظام العبادة للجهاد العام في المجتمع، ويبني قاعدة متينة للضمير الإنساني، بحيث ينطلق بإخلاص لاتخاذ مواقف صحيحة في الحياة، ومن المؤكد أن حساسية الضمير لها دخل كبير في تحريك المجتمع حركة مستمرة منتجة، طالما أن طاعة الله والرجاء في ثوابه والخوف من عقابه في الحياة الآخرة، هي البانية والموجهة الأساس لتلك الحساسية الضرورية لكل عملية تغيير اجتماعي؛ لأنه يتولد منها الضمير الاجتماعي الذي يؤدي إلى التعاون الاجتماعي أو المسؤولية الاجتماعية التي وطد أساسها القرآن الكريم بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [13].
والحديث الشريف بقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير على الناس راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته ومسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)) [14].ومن هنا نعلم علم اليقين أن تربية الأمة برمتها على النظام العبادي في الإسلام من خلال المؤسسات الدينية والاجتماعية والتعليمية والإعلامية، سيضع الأمة على طريق الوحدة العقيدية والمسؤولية الاجتماعية والتكافل الاجتماعي، والتضامن والتعاون على أعمال الخير وبناء النظام الأخلاقي الذي يحدد سلوك الأفراد والجماعة، بما يعود على الحضارة بخير عظيم يقود إلى تنمية سريعة وهادفة وشاملة؛ تخرج الأمة من أزمتها التي نشأت عندما نشأت هي في الزمن الأخير بمعزل عن مبادئ الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكًا.
[1] الأعراف: 172. [2] طه: 124.[3] "تجديد التفكير الديني في الإسلام" محمد إقبال: 142.[4] البقرة: 27. [5] راجع في تفاصيل ذلك الكتاب "العبادة وآثارها النفسية والاجتماعية" للأستاذ نظام الدين عبدالحميد. [6] انظر مادة (عبد) في "لسان العرب" لابن منظور، أو في أي قاموس لغوي آخر كـ"تاج العروس"، أو "القاموس المحيط". [7] "العبادة" ص 27.[8] الأحزاب: 73. [9] الكهف: 107. [10] "مختصر صحيح مسلم" للمنذري: 144، الأولى 1388 هـ، "ورياض الصالحين" للنووي: 119، الأولى. [11] رواه الشيخان: نقلاً عن كتاب "العبادة في الإسلام" ليوسف القرضاوي ص 58.[12] الأنبياء: 105.[13] المائدة:2.[14] مختصر صحيح مسلم 2/88.