عمر يوسف سليمان

نشأ علم البرمجة اللغوية العصبية في منتصف السبعينيات من القرنِ الماضي على يد العالِمين الأميركيين جون غريندر وريتشارد باندلر.
ويقومُ على ثلاثة أسس:
عصبي:
تعني ما يحصل في المخ والجهاز العصبي من فعالياتٍ مختلفةٍ كالسلوكِ والتفكيرِ والشعور.
لغوي: الطريقة التي تستخدم بها لغةُ الحواس واللغة المنطوقة والقدرة على استخدامها للكشفِ عن أساليبِ تفكيرنا واعتقادنا.
البرمجة:القدرة على تنظيمِ المعلوماتِ (الصور، الأصوات، الأحاسيس..) داخل أجسامنا وعقولنا التي تمكننا من الوصولِ إلى النتيجةِ المرغوبة.
فهو علمٌ يدرسُ تأثيرَ اللغة، سواءٌ كانت شفهيةً أو غير شفهيةٍ، على الجهازِ العصبي من أجل تحقيقِ حالاتٍ وأوضاعٍ نفسيةٍ مُثلى تولِّدُ أكبرَ عددٍ ممكنٍ من الخياراتِ السلوكية، ليستكشفَ عالمَ الإنسان الداخليَّ وطاقاتهِ الكامنة بغية التعرُّفِ على شخصيتهِ وطريقةِ تفكيرهِ وسلوكه وأدائهِ وقيمه، والعوائقِ التي تقفُ في طريقِ إبداعه وتفوقه من أجل إحداثِ التأثيرِ الإيجابي المطلوبِ لتحقيقِ أهدافهِ وفقَ قوانين يمكن أن تُختبر وتقاس.(1)
يؤمن علم البرمجة اللغوية العصبية أن الواقعَ ليسَ هو الخريطة التي في أذهاننا، بل أن هناك خرائط متعددةً لواقعٍ واحد، فخريطة العالم يمكن أن تتشكل من المعلومات التي تصل إلى الخيال عن طريق الحواس بواسطة اللغة المسموعة والمقروءة، والقيم والمعتقدات المغروسة فينا، وبناءً عليه تكونُ ردود أفعالنا تجاه المشكلات والظروف التي نتعرض لها، وبالتالي يتأقلم كل فرد بطريقة مختلفة عن الآخر مع هذه الظروف.
ما سبق سردٌ موجز لهذا العلم الذي يبدو شبه مجهول حتى في الوسط الأكاديمي من المجتمعات العربية، ولن نحيد عن موضوع المادة إذا انتقلنا إلى مهمة الفن في المجتمع، هذا الموضوع الذي شغل كبار الفلاسفة والفنانين منذ أفلاطون حتى يومنا هذا، وتبلور في القرن التاسع عشر عندما ظهرت المدارس الأدبية في أوربا حيث ربطت بين مفهوم الفن ووظيفته، فمنها ما آمن أن الفن معزول عن المجتمع (المدرسة الرمزية) ومنها ما قال أن الوظيفة الوحيدة للفن هي البحث عن الجمال (المدرسة البرناسية)، ومنها ما جعل الفن خادماً لقضايا المجتمع وملتزماً بها (المدرستان الواقعية والواقعية الاشتراكية)، وحين وصلتنا هذه المدارس بعد انفتاح الثقافة العربية على غيرها من الثقافات انتمى إليها العرب وآمنوا بها كل حسب رؤيته فتكاثرت الكتب والمقالات والآراء كما تكاثرت النصوص الأدبية التي تُجسد هذه المدارس منذ مطلع القرن العشرين، غير أننا نجد كِتَاباً نقدياً هاماً يختلف عن كلِّ ما قيل حول قضية الالتزام، هذا الكتاب هو (الفن ومسؤولية الفنان) للناقد محمد النويهي.(2)
إن الشعور باللذة أو الألم- يقول النويهي- يخبرنا عن سير نشاطنا إن كان ناجحاً أو فاشلاً، والانفعال يعرفنا بموقفنا من المؤثِّر الخارجي، مع اختلاف هذا الانفعال من شخصٍ إلى آخر، فهناك أناس بليدون وآخرون لديهم حاسة مرهفة تجاه كل شيء، مع أن الجهاز العصبي واحد للجميع، ولكن الفرق أن الأناس المرهفين استطاعوا أن يترجموا التغيرات التي تطرأ على كيانهم الجسماني العام بطريقة إيجابية، مع العلم أن التغيرات نفسها تحدث للأشخاص البليدين ولكن لا يترجمونها، والترجمة تُحدث استجابات مختلفة تجاه الموقف المؤثر، قد تكون استجابات بسيطة أو مجموعة دوافع معقدة كتلك التي تحدث حين نأخذ أهبتنا للدفاع عن رأي نقتنع بصحته، وفي العادة تحدث مجموعة شديدة التعقيد بين إدراك الموقف وبين العثور على طريقة مناسبة لمواجهته.
إن كل مؤثر نتقبله وننفعل به يترك طابعاً معيناً في الذاكرة يمكن إحياؤه فيما بعد بحيث يتحكم بسلوكنا بطابعه المنظم المرتب، وحدوثه هو الذي يجعلنا قادرين على التعلم من تجاربنا، فالذاكرة تمتلك أنسجة تمكِّن الماضي من التأثير في السلوك الحاضر عبر برزخ من الزمن، وهي – الذاكرة - تنظم ردود أفعالنا بشكل كبير، فنحن حين نقوم بأي نشاط (لعبة البلياردو مثلاً) نعلم مدى احتمالات إصابة الكرة للهدف قبل رميها بسبب مهارة اكتسبناها مسبقاً، مثلما نستطيع أن نعلم مسبقاً ما ينجم عن وضع الكف على الرأس حتى لو لم نقم بهذا الفعل، ويبدو قريباً من ذلك حين يمشي رجلٌ فوق أرضٍ مستويةٍ بدون تفكير أو شعور بتعديل خطاه، في حين يمشي بحذر على أرضٍ شديدة الانحدار، لأن الذاكرة هي التي تنظم ردود أفعاله بشكل تلقائي، وهكذا كلما كان الموقف أشد تعقيداً كانت تجربتنا أشد غنىً ووعينا أكثر تيقظاً.
ولكن ما علاقة هذا كله بالفن؟.
الفنون، وخاصةً الفنون الحاكية كالشعر والرسم والنحت، تقدم مجموعة معقدة جداً من المؤثرات تتخذ موقعها في الخيال دون أن نقوم برد فعل واقعي تجاه المؤثر، فنحن حين نمارس التجربة الفنية لا نقوم بنفس النشاط العملي الذي نحتاج إليه أثناء ممارسة تجربة خارج الفن، على سبيل المثال: حين نشهد جناية قتل نجنح إلى التعبير عن رعبنا بأن نصيح ونصرخ ونقفز من كرسينا ونهرب ونطلب النجدة أو نندفع إلى القاتل لنوقفه، ولكن ليس معنى عدم قيامنا فعلاً بهذه الأعمال ونحن نقرأ عن الجريمة في رواية أو نشهدها على المسرح مقتنعين في وعينا بعدم حدوثها أن أثرها على اللاوعي يختلف عن تلك الواقعية، لأن الجريمة غير الواقعية تعيد ترتيب أفكارنا ودوافعنا بطريقة فذةٍ ليتغير سلوكنا اليومي تجاه شؤون أخرى لا تخص الجريمة فقط، بل تتعلق بمجموعة من المواقف التي يتحسن رد فعلنا تجاهها نحو الأفضل.
بهذه النظرة العميقة - يقول النويهي- تتهاوى مسألة الالتزام السطحي في الفنون، تلك المسألة التي آمن بها كثير من عظماء العالم، وبالمقابل تتحطم أمام هذا الاعتقاد آراء مدرسة الفن للفن، التي نادى بها آخرون كردة فعل تجاه الالتزام، فالأمر أشد تعقيداً من الرأيين، إذ لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون الفن مجرد إحساس من الشخص لا يؤثر في سلوكه وبالتالي في أخلاقه، ولكن ليس بالطريقة التي نادى بها القائلون بضرورة الالتزام الأخلاقي المباشر، لأن مجرد الدهشة- الإثارة - أمام الجمال الفني تؤثر في اللاوعي، وبالتالي تحرك المتلقي ليزاول ردود أفعاله بشكل أفضل، لأن العمل الفني مهما كانت فكرته يقوم بربط الأشياء غير المألوفة ويعيد تشكيلها، وهنا لا بد للفنان أن يؤمن بأن الحياة لا تنعزل عن الفن بشكل من الأشكال، فهو يستمد مواده الأولية منها ليشكل رؤيته الخاصة تجاهها، لهذا يجب أن يكون الفنان متفتح النفس لقبول التأثيرات الخارجية مع القدرة على التمييز بينها، ثم تكون له القدرة على أن يختزن هذه التأثيرات ويستبقيها في نفسه حين تتصل وتتفاعل وتكوِّن علاقات جديدة بعضها مع بعض.
ولتوضيح هذه النقطة الجديرة بالاهتمام، نقول إن الفرق بين الفنان والشخص العادي هو في مقدرة الأول على الربط بين العناصر المختلفة لتجاربه أحدها بالآخر، وهذا يتجلى في مقدرته على اختراع التشبيهات والاستعارات الجديدة التي لم تخطر على بال أحدٍ من قبل، لذلك لا ترتقي أهمية التجارب الكثيرة لدى الفنان إلى أهمية استخدام هذه التجارب بالتأليف بين عناصرها المتشعبة تأليفاً ينتج تنظيماتٍ جديدة، فهو أشد انتباهاً ووعياً للتجارب، وأكثر فهماً لحقيقتها وتشرباً لعناصرها، يقبلها قبولاً عميقاً وينظمها تنظيماً محكماً بواسطة رابط حيوي، فالفنان بكلمةٍ أخرى، يخلق تجربةً جديدةً في فنه من خلال ما مر به من تجارب.
ولأن البرمجة اللغوية العصبية تعنى بدراسة الدوافع الإنسانية تجاه اللغة المنطوقة أو لغة الحواس، كما تعنى بالقدرة على تنظيم المعلومات (الصورة - الأحاسيس..) بغية التوصل إلى أفضل سلوك تجاه الواقع، وتقوم البرمجة لإحداث ذلك بسؤال الأفراد أسئلة كثيرة وتخضعهم إلى مواقف مختلفة تستكشف من خلالها دوافعهم، فإن هناك علاقة بينها وبين الفن، فهل تفيد البرمجة اللغوية العصبية من الفن لدراسة السلوك الإنساني ومعرفة كوامن الشخص؟.
هذا الأمر ممكن إذا وضعنا البرمجة اللغوية العصبية كمراقب للتأثير، ووضعنا الفن كمؤثر، وفق المخطط التالي:

الفن المتلقي
(مؤثر)...(متأثر)
البرمجة اللغوية العصبية
(مكتشِف ردود الأفعال)
النتيجة =
(تنظيم السلوك في أفضل وضع للوصولِ إلى النتيجة المثلى في التعامل مع الواقع).      

هكذا يمكن أن يوضع الفن والبرمجة اللغوية العصبية وفق نظام تكاملي، فعندما يعرض فيلم سينمائي-على سبيل المثال- على مجموعة من المتلقين، ثم يقوم المختص بعلم البرمجة اللغوية العصبية بدراسة سلوكهم وردود أفعالهم عن طريق تعريضهم لمجموعة من المواقف والأسئلة التي سبق أن تعرضوا لها قبل مشاهدتهم للفيلم بغية تحديد مدى تأثيره على تحسين ردود أفعالهم، ستُخلص مجموعة من الحلول لمشكلات تتعلق بضعف التكيف مع الواقع، ومن ثم يُستخدم هذا الفيلم في المستقبل كعلاج لمرض يُستخلص من سلوك المتلقين بعد أن يوضعوا أمام ظرف واحد يتعلق بمادة العمل الفني الذي رأوه مُسبقاً، وهنا يستوقفنا ابن سينا، الذي كان يعالج مرضاه بالموسيقا، وهو ما يستخدمه علماء النفس اليوم أيضاً، لكن في وجود البرمجة اللغوية العصبية يغدو الأمر منظماً ومتكاملاً.
لا يعني الربط السابق بين الفن وعلم البرمجة اللغوية العصبية أن نشرِّحَ الفنون ونشوهها لتصبح ذات أغراضٍ علمية بحتة، بل هو ربط من خارج الفن، كما أنه نوع من تقدير الفنون دون المساس بقيمتها الجمالية، لاسيما إذا علمنا أن الجمال لا قياس ولا قيمة له إلا من خلال شعورنا به.

هوامش:
(1) حسن النابلسي- البرمجة اللغوية العصبية- مجلة قضايا، العدد 6 حزيران 2008.
(2) محمد النويهي- الفن ومسؤولية الفنان- جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالية 1957.


المصدر : الباحثون العدد 49 تموز 2011
  • Currently 35/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
11 تصويتات / 1293 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,718,438

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters