سياسات التنمية الإدارية : نظرة عامة
أولاً- مفهوم سياسات التنمية الإدارية :
لقد سادت خلال الفترة الماضية ، وخاصة فترة ما بعد الحربين العالميتين الأولــى و الثانية ، الاهتمامات المتنامية بقضايا التنمية الاقتصادية ؛ حيث أنها كانت المفهوم الأكثر وضوحاً خلا ل تلك الفترة ، ولم يكن للتنمية الإدارية وقضاياها أي نصيب في كتابا ت رواد تلك الحقبة من أمثال جون ماينارد كينز 1946-1883)) وج. شومبيتر (1950-1883) وغيرهم ، الذين كان اهتمامهم منصباً بشكل أساسي على قضايا التنمية من منظور اقتصادي بحت .
وحتى عندما تحدث شومبيتر عما يعتبر الآن ركنا أساسياً من أركان التنمية الإدارية وهو ما يعرف الآن بال (Entrepreneur) ، فقد تحدث عنه على أنه يمثل أحد عناصر العملية الاقتصاديـــة ؛ حيث أطلق عليه اسم ( المنظم ( Organizer الذي يجمع مدخلات العملية الإنتاجية مع بعضها البعض ، من مواد خام ورأسمال وآلات وقوى عاملة .
إلا أن الفترة الأخيرة قد حملت تزايداً في الاهتمام بمحورين أساسيين في قضية تحقيق التنمية الاقتصادية والنهوض بمستوى معيشة الناس ، ألا وهما محـــورا الإدارة ومحور السياسات العامة التي تنشد تحقيق التنمية عن طريق ماعرف بالإدارة الرشيدة ، وهو ما عزز يقين الكثير من الباحثين بأن هناك حلقة مفقودة في قضايا ا لتنمية تؤدي إلى عرقلة جهود التقدم دون أن يتم التطرق إليها بشكلٍ مباشر .
فقد لوحظ بشكل واضح بأن هناك الكثير من المجتمعات التي تمتلك الكثير من الموارد الطبيعية ، ولكنها تعاني من تأخر اقتصادي وتخلف واضح في جهود التنمية ؛ في حين أن هناك مجتمعات أخرى تمتلك موارد طبيعية أ قل ، ولكنها تتمتع بمستويات معيشةٍ أعلى بسبب حسن إدارتها لتلك الموارد .
وفي هذا الصدد فقد مهدت كتابات بعض رواد الفكر الإداري من أمثال الأمريكي فريدريك تيلور، والفرنسي هنري فايول إلى بروز الحديث عن الإدارة كموضوعٍ مستقل يمكن أ ن يتم تطوير نظرية خاصة بــه .
وبدأت الأصوات المنادية بضرورة دراسة الدور الأساسي الذي تلعبه الإدارة في تحقيق أهداف السياسات العامة وصولاً إلى التنمية الشاملة في داخل المجتمع .
ومن هنا ظهر البعد الجد يد للنظر إلى عملية التنمية الشاملة من منطلق إداري ، وبرز كتّاب معاصرون اهتموا بهذا البعد الإداري ، وخاصة الجانب المقارن منه ؛ من أمثال هارولد كونتز ، وتشستر بارنارد ، وهربرت سايمون ، وباري ريتشمان ، وكريس آرجيريس ، ورنسس ليكرت وغيرهم من كتّاب الثورة الإدارية المعاصرة وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ؛ حيث يصعب على المرء تتبّع ما ينشر حول الإدارة من كتب ومقالاتٍ وبحوثٍ وندوات وغيرها ، وذلك لكثرة عددها .
وقد شملت هذه النظرة الجديدة التطرق إلى دور التنمية الإدارية من خلال تعريف عملية الإدارة نفسها ، لتعكس هذا الفهم الجديد الكلي ، فلم يعد ينظر إلى الإدارة فقط على أنها ” … عملية إنجاز الأعمال عن طريق الآخرين ” ، وإنما أعيدت صياغة تعريفها ليشير إلى أن الإدارة في المستوى الكلي ” … هي عبارة عن عملية التحكم في الموارد المتاحة في مجتمع ما ، وذلك قصد تقديم مستوي معيشي معين ”
وتأسيساً على الدور المحوري الذي تلعبه الإدارة في علمية تنفيذ أهداف السياسات العامة؛ فقد انضم الباحثون المتخصصون في مجال السياسات العامة إلى باحثي علم الإدارة في تركيزهم على الأهمية المحورية للإدارة في تحقيق الأهداف من خلال مؤشراتها الأساسية المتصلة بمجموعة الجوانب والمبادئ التنظيمية والإدارية المتعلقة بنظام السياسة العامة والبرامج الحكومية ، كالاستقرار الإداري والكفاءة الإدارية والشفافية والجودة …الخ .
فبرز نتيجة لذلك التوافق بين الباحثين ، مفهوم سياسات التنمية الإدارية ؛ فإذا ماكان مفهوم التنمية الإدارية يشير في معناه العام إلى قيام مجموعة الأنشطة الإدارية التي تحدث نوعاً من التطوير والتحديث للارتقاء بمستوى معيشة السكان الوطنيين ؛ فإن سياسات التنمية الإدارية وفقاً لذلك تعني مجموعة البرامج والأهداف العامة الأساسية التي تصاحبها القرارات الأفعال التنفيذية والتي تهدف إلى الارتقاء بمستوى معيشة السكان وإحداث التطوير والارتقاء في داخل المجتمع .
ثانيا ً - مراحل التنمية الإدارية والسياسات العامة :
يمكن بشكل عام التمييز بين مراحل مختلفة يمكن تصنيف أي مجتمع من المجتمعات من خلالها علي أساس مدي اهتمامه بقضايا التنمية الإدارية ، ويمكن إجمالا اختصار هذه المراحل في الآتــــي : -
أ- مرحلة الوعي أو الإلمام بأهمية ودور الإدارة في تنفيذ السياسات العامة :تصبح الدولة في هذه المرحلة مدركة لأهمية التنمية الإدارية وما يمكن أن تحققه للمجتمـع .
ب - مرحلة الاهتمام بسياسات التنمية الإدارية :وخلال هذه المرحلة تبدأ الدولة في النظر في كيفية الاستفادة من المزايا التي تحققها برامج التنمية الإدارية باتجاه مسار تطبيقها ووضعها موضع التنفيذ .
ج- مرحلة تطبيق وتنفيذ سياسات التنمية الإداريـة :وفي هذه المرحلة تبدأ الدولة في وضع برامج التنمية الإدارية التي تقتنع به ، موضع التنفيذ من خلال ا لقرارات التنفيذية وهياكل تنفيذ سياسات التنمية الإدارية .
ثالثا ً- تقويم سياسات التنمية الإدارية :
يهدف تقويم الأداء التنفيذي لسياسات التنمية الإدارية إلى تحديد أهم مشكلاتها وتوضيح طرق مواجهتها ، وبيان فاعلية تلك السياسات في تحقيق الأهداف العامة المزمعة ،لإعادة تصميم السياسة العامة حتى تلائم المتغيرات البيئية المحيطة .
بناء عليه ؛ يعتبر تقويم سياسات التنمية الإدارية أحد المستويات التحليلية الرئيسة المستخدمة في بحوث تحليل السياسات العامة للتنمية الإدارية ، وهي عملية تتسم بكونها عملية تحليلية منسقة تهدف إلى مقارنة تطابق الواقع الفعلي لتنفيذ السياسات العامة مع الأداء المعياري المستهدف بواسطة معايير ومؤشـرات محددة تخص تطبيق وتنفيذ تلك السياسات .
وقد زاد الباحثون المتخصصون في مجال الإدارة وتحليل السياسات العامة من انشغالهم بعملية تقويم الأداء التنفيذي لسياسات التنمية الإدارية وقد كان ذلك وليداً للأسباب التالية :-
1- تنامي الإنفاق العام للجهاز الإداري في ضوء التناقص النسبي في الموارد في كثيرٍ من الدول .
2- ضعف أداء سياسات التنمية الإدارية وفشلها في أحيان ومجالاتٍ كثيرة في تحقيق الأهداف العامة .
3- ارتفاع مستوى التوقعات الاجتماعية من خدمات الإدارة ، وتوقع أن تصل إلى تلبية حاجات ومطالب الناس بشكل كامل .
4- التحولات في السياسات العامة الإدارية للدولة نحو القطاع الخاص ، والعلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص ، وعادة ما تظهر هذه التحولات في قرارات صنع السياسة العامة التشـريعيـة.
ويبرز وفقا ً للأسباب آنفة الذكر التقويم المتعلق بالإطار الهيكلي والإداري في سياسات التنمية الإدارية وفاعليتها في إنجاز الخطط والأهداف والارتقاء بالمستوى المعيشي للأفراد في داخل المجتمع ، وتناسبه مع موارد الدولة كذلك عوامل التخطيط ، واستقرار إدارة السياسات العامة ، درجة الشفافية ، والحكم الرشيد في إدارة الدولة .
رابعاً -استخدام المؤشرات الأساسية في تقويم سياسات التنمية الإداريـة :
يسعى تقويم تنفيذ السياسات العامة إلى الكشف عن الانحرافات في تنفيذ السياسات العامة ، ودراسة أسباب هذه الانحرافات ، وقد ركز الباحثون في مجال تحليل سياسات التنمية الإدارية على معايير الكفاءة والكفاية في تلك السياسات العامة ؛ حيث عرفت فاعلية السياسة العامة بأنها : ” المدى الذي تحققه السياسة من المنافع والفوائد الذي ينبغي عليها أن تحققه ، مع عدم إغفــال النتائج غير المرتقبـة “ .
وفي هذا الصدد توجد جملة من المؤشرات الأساسية التي تعارف عليها الباحثون في تحليل سياسات التنمية الإدارية والتي منها :
- مؤشر متوسط الدخل الفردي في الدولة .
- مؤشر الدخل الفردي والموارد الطبيعية .
- مؤشر مستوى جودة الحياة في داخل المجتمع .
- مؤشرات الحكم الرشيد Good Governance والمؤشرات المرتبطة به والتي تخص الأداء المؤسسي للدولة مثل:مؤشر فاعلية الإدارة الحكومية ، ومؤشر التنظيم والضبط الدوليين .
- مؤشر مدركات الفساد الدولي Corruption Preception Index
- المؤشرات المتصلة بالاستقرار الإداري في داخل الدولة .
حيث أن هذه المؤشـــرات هي متصلة ببعضها البعض في الواقع العملي لسياسات التنمية الإدارية ، وهذا ما يتضح من خلال اعتماد مؤشر مستوى جودة الحياة في داخل المجتمع على كلٍ من مؤشري متوسط الدخل الفردي ومؤشر الدخل الفردي والموارد الطبيعية فــي الدولة ، في حين تترابط مؤشــرات الحكم الرشيد والشفافية الدولية بالجانب المتعلق بتطوير القدرات المؤسسية للدولـة .
وقد تطورت مؤشرات قياس التنمية الإدارية لدرجة أنه لم يعد يكتفى حتى بمؤشر متوسط الدخل الفردي للدلالة على المستوي المعيشي لمجتمع ما ، وإنما تم تطوير معايير إدارية أخري لعل من أهمها مؤشر مستوى جودة الحياة (Quality of Life Indexالذي يأخذ بعين الاعتبار درجة الرقي في مناحي الحياة المختلفة من تعليم وصحة وسكن وأمن ورفاهية في الحياة ، كما أصبحت هناك مفاهيم أساسية في هذا الصدد تأتي على رأس أولويات المجتمعات بمختلف مكوناتها ( من حكومات ، ومنظمات مدنية ، وأفراد ، وغير ذ لك ) . ومن أبرز هذه المفاهيم التي يجري تداولها حالياً بشكل واسع ، والتي هي على علاقة وطيدة بعملية التنمية الشاملة ، ما أصبح يعرف باسم ” الحكم الرشيد Good Governance” ، الذي يعني الحكم هنا ليس بمعناه السياسي البحت ، وإنما تدخل الإدارة السياسية في هذا المفهوم بالقد ر الذي تؤثر فيه نشاطاتها على عملية التنمية الشاملـــة ؛ فقد عرف البنك الدولي الحكم الرشيد بأنه : ” تلك الحالة التي يتم من خلالها إدارة الموارد الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع بأسلوب رشيد بهدف تحقيق التنمية“، أما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP فقد عرف الحكم الرشيد بأنه : ” ممارسة السلطات الاقتصادية والسياسية والإدارية لإدارة وتنظيـم شؤون المجتمع على كافة مستوياته بطريقة رشيدة .
حيث تبرز في هذا الصدد مؤشرات الأداء المؤسسي المنبثقة من مؤشر الحكم الرشيد الدولي ومنها مؤشرات فاعلية إدارة الحكومة الذي طوره البنك الدولي و برنامج الأمم المتحدة الإنمائـي UNDPضمن برنامج تطوير إدارة الحكم للدول العربيـة POGAR ، والذي يعرف علمياً بأنه ” ذلك المؤشر الذاتي الدال على أسلوب إدارة الحكم في الدولة والذي تم تجميع عناصره من مصادر مختلفة ؛ حيث يقيس الإدراكات الحسية لنوعية الجهاز الإداري البيروقراطي ، تكاليف المعاملات الإدارية ، نوعية الرعاية الصحية والخدمات العامة ، ودرجة استقرار الحكومة ، وتتراوح تقديرات المؤشر ما بيـن -2.5 و +2.5 والقيـم العليا تعتبر الأفضل حسب التصنيف الدولي .
ويبرز في مجال تقويم سياسات التنمية الإدارية كذلك المؤشر الدولي الآخر المتصل بنوعية التنظيم الإداري والضبط للسياسات العامة داخل الدولة ، والذي عرفه البنك الدولي بأنـــه يعني : ” ذلك المؤشر الذاتي الذي يوفر قياساً لإدارة الحكم والتنمية الإدارية في الدولة من خلال تجميع عناصر من مصادر مختلفة تقيس الإدراكات الحسية لمدى حدوث سياساتٍ عامة غير ودية حيال السوق والتجارة (كتدابير التحكم بالأسعار والرقابة غير الوافية على البنوك) ، والإدراكات الحسية السائدة للأعباء الناجمة عن الضبط المفرط في مجالاتٍ مثل التجارة الخارجية وتأسيس المشاريع التجارية ؛ حيث تتراوح تقديرات المؤشر مــا بين -2.5 و + 2.5 والقيم العليا هي الأفضل حسب هذا المؤشر الدولي .