جاء الاسلام في عصر كانت البشرية فيه تتردى في مهاوي الجهل والتأخر، وتقاسي أشد المحن، وكانت المجتمعات القبلية لا تعرف معنى للحرية بمفاهيمها الحديثة، أللهم إلا حرية الغزو والقتل والسبي، فأراد الاسلام أن ينظم حياة الفرد لأنه كان يعلم أنه متى نظم الفرد استطاعت الأمة أن تقيم دولة وأن تعطي حضارة وأن تدفع ركب الانسانية إلى الأمام.
والانسان في نظر الاسلام يعني الحر، والحر يعني الانسان. لأن المسلم يمتاز عن غيره من بني جنسه بالتفكير في هدى الاسلام، ثم الموازنة بين موضوع تفكيره، ثم الحكم تبعاً لتلك الموازنة، وأخيراً التنفيذ وفق ما قاده إليه تفكيره، وصحت موازنته، وصدر فيها حكمه.
وحرية الانسان المسلم تكاد تخلو من القيود والضوابط ما لم تتجاوز تلك الحرية الخط الأحمر الذي يقوده إلى إلحاق الضرر بنفسه أو بغيره ممن يعايشونه على أرضه، فهاهنا فقط تتوقف حريته حتى لا تصطدم بحرية الآخرين.
وكثيراً ما تعرض المجتمع البشري، نتيجة سوء استعمال الحرية، إلى آفات وكوارث لحقت بالأفراد والجماعات. الأمر الذي وجد معه الاسلام ضرورة لشد عقال الانسان المسلم والحد من استرساله في استعمال حريته فوق ما ينبغي. فاقتضت حكمة الله تعالى رحمة بالناس جميعاً أن يضع الموازين بالقسط لحرياتهم بأن شرع لهم الشرائع وأرسل إليهم الرسل كي يرشدوهم إلى طرائق السير بحرياتهم، وطالب الحكماء والمرشدين ـ عبر العصور ـ أن يسهروا على تطبيق استعمال الحريات في إطارها القوي السليم حتى تستقيم أحوال الناس جميعاً ويطمئن كل منهم إلى صون حريته من انتقاصها أو مصادرتها.
فالحرية بهذا المعنى حق فطري للناس ـ كل الناس ـ لأن الله سبحانه حين خلق للانسان العقل والإرادة وأودع فيهما القدرة على العمل فقد أكن فيه حقيقة الحرية وخوله استخدامها بالإذن التكويني المستقر في الخلقة.
ومن هذا المنطلق كانت الحرية حلية الانسان وزينة المدينة. فيها تنمو القوى وتنطلق المواهب، وبصونها تثبت فضائل الصدق والشجاعة والتضحية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتلاقح الأفكار وتورق أفنان العلوم.
ومنذ أقدم العصور والحرية عبء ثقيل على الظالمين والجبابرة والمخادعين، الذين ما فتئوا يبتكرون الحيل للضغط على حريات غيرهم من الضعفاء بغية تضييقها أو خنقها.
فلما جاء الاسلام حارب كبت الحريات وأطلق سراح الانسان وأباح له استعمال حريته على وجهها الصحيح، وتصدى ببسالة وضراوة للدفاع عن تلك الحريات كلما هددت من قبل الطغاة أو الغزاة.
وأهم الحريات التي منحها الاسلام لانسانه خمسة: الحرية الشخصية، ثم حرية التفكير، ثم حرية المعتقد، ثم حرية القول، ثم حرية العمل.
أولاً ـ الحرية الشخصية:
رأى الاسلام أن الانسان هو الثروة البشرية المتعددة الطاقات، المتنوعة النشاطات، والتي يجب أن ترتفع عن مستوى السلعة، السلعة التافهة التي تباع وتشرى فتخط ثمناً وتسمو بقدر ما تقدم للمشتري من منافع. والانسان هو المخلوق الراقي المهيأ للسيطرة على قوى الطبيعة وتسخيرها لخير الانسانية وسعادة الانسان.
ولهذا يجب أن يتحرر من قيوده ويجب أن تتحرر إرادته ويجب أن يتحرر جسده حتى يتمكن من استكشاف أسرار الطبيعة واستخراج خيراتها والانتفاع بمواردها.. فسلك لتحقيق هذه الغايات وبلوغ تلك الأهداف طريق التطور الهادئ الفاعل لا طريق الطفرة الهادمة قصداً إلى إبطال الرق وتحرير الرقيق.
فقد أدرك أن إلغاء الرق إلغاءً تاماً مرة واحدة يعتبر من قبيل الطفرة، والطفرة ـ كما يقول بعض الفلاسفة ـ باطلة. فبدأ بمنح الرقيق الحصانة الجسدية أولاً، حيث منع ضربه وتشويهه. ومنحه الحصانة العائلية، حيث منع سيده من التفريق بينه وبين زوجه. ثم خطا خطوة ثانية على درب تحريرهم بواسطة العتق، فكان النبي (ص) يشتري العبيد ليعتقهم، وكان يساعد العبيد المملوكين لغيرهم على شراء أنفسهم، وكان يرغب المسلمين بالعتق ويذكر لهم عظيم ثوابه، حيث كان يقول: (أيما رجل أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً من النار).
وكان يقول أيضاً: (أيما رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها كان له أجران).
وبعد هذا تدرج الاسلام في تقوية الروح المعنوية عند الأرقاء، فنهى النبي عن مخاطبتهم (بعبد وأمَة)، وأوصى بمعاملتهم معاملة كريمة، وقال: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم). وعندما وصلت الأمة الاسلامية في عهد رسولهم الأعظم إلى درجة رفيعة وبلغت مرحلة واسعة من السمو النفسي، استوجب الاسلام عتق الرقيق في حالات معينة: فجعله كفارة عن القتل الخطأ وعن الظهار وعن اليمين، وفرض في موارد الزكاة سهماً مخصوصاً يرصد لتحرير العبيد. وهذه المراحل المتأنية التي اعتمدها الاسلام على سنة التطور في التشريع كان الهدف منها أن يصدع أركان الرق لكي يقضي عليه وينهار من تلقاء نفسه.
ثانياً ـ حرية الفكر:
والتفكير طبيعة من طبائع الانسان التي فطره الله عليها. وهذه الطبيعة لم يغمطها الاسلام حقها ولم يبح كبتها، بل حث عليها وطالب المسلمين بالإيمان بالله عن طريق تفكر لا عن طريق تغطية هذا التفكير وإلغائه، فقال تعالى: (الذين يذكرون الله قيامً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض).
فالاسلام يدعو إلى احتكاك الآراء وسعة الاطلاع وتنوع الثقافات، واعتبرها إرثاً إنسانياً مشتركاً بين الأمم. وهذا ما جعل العرب في العصور الاسلامية الزاهرة يقتبسون دونما تحرج من حضارات الأمم السالفة والمعاصرة وثقافاتها المتنوعة ما يجدونه نافعاً لهم وصالحاً لبناء مجتمعهم.
وأكبر شاهد على حرية الفكر في الاسلام: تعدد المذاهب السياسية والفرق الدينية ومدارس الاجتهاد ومبدأ الشورى الذي أمر به القرآن الكريم بقوله: (وأمرهم شورى بينهم).
والدليل على أن الاسلام لم يمنع أتباعه من إعمال فكرهم في الإفادة من ثقافات الأمم السابقة عليه والمجاورة له والمتعاملة معه ما دامت تجلب لهم منفعة أو تدرأ عنهم مفسدة، كونهم أخذوا عن النساطرة في طبهم، وعن اليونان في فلسفتهم، بل وعن اليهود في تاريخهم.
وعلى الجملة، فإن الاسلام منح المسلمين حرية الفكر في جميع المعقولات والتصورات والتصديقات، بل وأوجب على إنسانه المسلم أن يواظب على التفكير في كل ما ينفع نفسه وينفع غيره وفيما يقي الناس جميعاً الضرر والأذى، (فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها).
ثالثاً ـ حرية المعتقد:
أما حرية المعتقد فقد صانها الاسلام، إلا ما كان منها منافياً لكرامة الانسان وكرامة العقل.
ومن أجل ذلك حارب الوثنية حرباً لا هوادة فيها ولا لين، حتى استطاع أن يهزمها ويقلص عن الجزيرة العربية ظلها، لأنها تعبير عن جهل الانسان وإلغاء لعقله. فأية قيمة لعقل يسجد أمام صنم لا يملك نفعاً ولا ضرراً؟ وأية كرامة لانسان يعفر جبينه على أقدام وثن جامد تبول عليه الثعالب ولا تخشاه؟ ومن أجل ذلك أتاح للنصرانية واليهودية أن تعيشا في ظل دستوره الخالد: (لا إكراه في الدين)، هذا الشعار الذهبي الذي حمله الإسلام ودعا على أساسه اليهود والنصارى إلى دينه فإن قبلوه دخلوا في الاسلام، وإن رفضوه لم يكرههم على شيء، وإنما سألهم أن يعطوا الجزية وهي ثمن حماية المسلمين لهم ودفاعهم عنهم في الحروب. ولعل الرسول العربي خشي أن يشتط أتباعه فيما بعد، وأن تسول لهم أنفسهم التضييق على معتنقي الأديان الأخرى، فنهى أتباعه عن إيذاء الذميين بقوله: (من آذى ذمياً فقد آذاني).
وتتفرع عن حرية المعتقد حرية الممارسة للشعائر الدينية. فقد كفل الاسلام هذه أيضاً، إذ أباح للنصارى أن يقيموا الكنائس ويظهروا الصلبان ويسيروا بها في المواكب وليس أدل على بعد الاسلام عن روح التعصب وإعطائه الحرية الكاملة لجميع الأديان الأخرى من قول ـ المستشرق ـ آدم ميتز: (لقد قلد ديوان جيش المسلمين لرجل نصراني مرتين في أثناء القرن الثالث)، ومن المعلوم: أن القرن الثالث هو العصر الذهبي بالنسبة لانتصار الاسلام.
أفلا يعتبر تساهل المسلمين وإفساح المجال لغيرهم كي يتمرس بأعباء الحكم والإدارة، ألا يعتبر ذلك دليلاً على أن الاسلام لم ينصف الناس على أساس معتقداتهم وإنما على أساس كفاءاتهم؟.
ـ لا هوادة مع المتآمرين:
غير أن موقف المسلمين يختلف بالنسبة لليهود لا لليهودية، ذلك لأن اليهود ناوأوا الاسلام عند نشأته وتآمروا على الرسول وحاربوه في خيبر، وتكتلوا ضد دعوته، فكان من الطبيعي أن يقف المسلمون منهم موقفاً معادياً رداً على موقفهم الذي تميز بحبك الدسائس والمحاولات الكثيرة للقضاء على الدعوة الجديدة وخنقها في مهدها. بخلاف النصارى الذين امتدحهم القرآن الكريم بقوله: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون).
ولعل من أبرز الأمثلة على تسامح الاسلام الديني ذلك السلوك العملي الذي سلكه خلفاؤه الراشدون، وخاصة الخليفة الثاني الذي دخل بيت المقدس وزار كنيسة القيامة ولما حان وقت الصلاة لم يجد مكاناً يؤدي الفريضة فيه إلا الفسحة الواقعة أمام مدخل الكنيسة فصلى فيها، والله تعالى يقول: (أينما تولوا فثم وجه الله) ولما سأله البعض: لماذا لم يصل داخل الكنيسة؟ أجاب: إنه كان باستطاعته أن يصلي داخل الكنيسة، ولكنه خشي إن فعل أن يأتي يوم يطالب فيه المسلمون بالمكان الذي صلى فيه عمر ويجعلونه مسجداً.
ـ هنات عابرة:
قد يقول قائل: إن بعض العصور الاسلامية فرضت على غير المسلمين في بعض البلاد قيوداً تغل حرية المعتقد وتحد منها. وعلى هذا نجيب بأن الاسلام في صفائه بعيد كل البعد عن جميع ما يمس الحرية العقائدية. وإذا كانت بعض الظروف العابرة ومقتضيات السياسة الرعناء قد أعطت في بعض الأحيان الدليل الحسي على ذلك فإنه يجب أن لا يغرب عن البال أن الاسلام لا يعني قط المسلمين، وأن بعض التصرفات الشخصية كانت وليدة أهواء، الاسلام منها براء.
وإنا لنذكر بكثير من الأسف أن الجهل أو الغرور أو الدس الأجنبي، أو هذا كله مجتمعاً، أثار شيئاً من الحقد والريبة في فترات من الزمن مختلفة بين المسلمين والمسيحيين، فما ينبغي لنا ونحن نلمح إلى هذه الحقيقة إلى أن نلتمس فيها الموعظة والعبرة، فإن التاريخ بما يعرض علينا من ذكريات الشرور والمآسي لجدير بأن يهذبنا كما تهذبنا المفاخر.
ولن ننسى أن نذكر في هذه المناسبة بموقف ملوك فرنسا في القرن السابع عشر من خصومهم الدينيين: إن مذابح (سانت بارتيلي) بين الكاثوليك والبروتستانت لم يعرف في تاريخنا الطويل ما يشبهها هولاً.
ولقد ذكر الأستاذ (رينو) أن فرنساعام 1685م أصدرت أمراً بتحريم الديانة البروتستانتية وهدم كنائسها ونفي رؤوسائها. وفي عام 1715م اعتبرت فرنسا كل زواج لا يعقد على الطريق الكاثوليكية زواجاً غير شرعي. فهل يعني كل هذا أن تصرف الملوك والحكام يمكن أن يكون حجة على عدم تسامح المسيحية؟ وهل يمكن أن نتهم الدين المسيحي على ضوء هذه الوقائع التاريخية؟ إن المنطق السليم يجيب بملء فيه: كلا وألف مرة كلا.
من هذا يتبين أن الاسلام يشدد على احترام حرية الانسان في اعتقاده الديني ما دام يؤمن بالله ولا يشرك به شيئاً. وهذا واضح من قول القرآن الكريم: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين، فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). ولقد أقر بهذه الحقيقة كثيرون من كتاب أوروبا وباحثيها، مثل السيد (هنري دوكاستري)، أحد حكام الجزائر وقت أن كانت مستعمرة فرنسية، الذي يقول في كتابه: (الاسلام تأثرات ومباحث): ((وبعد أن دان العرب للاسلام، واستأثرت قلوبهم بهذا الدين، برزوا في حال جديدة أمام أهل الأرض كافة... هو حال المسالمة، وحرية الأفكار في المعاملات، إذعاناً منهم لما ورد في القرآن الكريم من التوصية بمحاسنها الناس كافة، تلك الآيات التي كانت تنذر القبائل المارقة، كقول الكتاب: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، وقوله: (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً)، وقوله: (وعباد الرحمن الذي يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً).
رابعاً ـ حرية القول:
والاسلام يعتبر حرية الانسان في تعبيره كحريته في تفكيره وكحريته في اعتقاده. لأن حرية التعبير مظهر من مظاهر حرية الاعتقاد والتفكير. ولذا قررها الاسلام تقديراً لأثرها. ولكنه عمل على توجيهها صوناً لإنسانه عن انحرافاتها، وتلافياً لما قد تخلفه من عواقب وخيمة.
وحرية القول هو حق فطري في الاسلام، لأن التعبير عما في الضمير غريزة من غرائز هذا الانسان يعسر، بل يتعذر إمساكه عنها فكان الأصل أن لكل إنسان أن يقول ما يشاء ويحاور ويمازح من يريد ولا يمسكه عن ذلك إلا وازع الدين بأن لا يقول لغواً أو ينطق بشيء منهي عنه، أو وازع الخلق بأن لا يكون كلامه قذعاً أو هذياناً أو فحشاً أو غيباً أو نميمة أو باطلاً، لقوله (ص): ((قل الحق ولو على نفسك))، وقوله أيضاً: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)).
والأصل في حرية القول هو الصدق في الإخبار، لأن الكذب محرم وقبيح. وقد ذمه القرآن الكريم في آيات كثيرة وأحوال مختلفة، حيث قال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين). وقال رسول الله: ((إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)).
خامساً ـ حرية العمل:
ثم إن حرية العمل في الاسلام هي شاهد من شواهد الفطرة التي تدل على أن هذه الحرية أصل أصيل في الانسان. فإن الله تعالى لما خلق لهذا الانسان العقل وجعل له مشاعر تأتمر بما يأمرها العقل أن تعمله، وميز له بين النافع والضار بأنواع الأدلة كان قد أمكنه من أن يعمل ما يريد مما لا يفضيه إلى إيقاع الضرر بنفسه أو إلحاقه بغيره. وقد ألهمه الله تعالى أن يجد ويعمل ويتصرف فيما يجده مما تخرجه الأرض، حيث قال: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً). فكانت حرية العمل والفعل أصلاً فطرياً أباحه الاسلام لجميع الناس لأن لفظ (لكم) في قوله: (خلق لكم) يفيد حق الجميع في جميع ما في الأرض وعلى الأرض.
وما عدا ما حدد منعه في الشريعة من العمل، فالأصل في سعي الانسان فيه وتناوله وتعاطيه الإباحة المطلقة. وقد ردّ الله على المشركين إذ حرموا على أنفسهم أشياء، بقوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)؟ وقال أيضاً: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير حق).
وهكذا حرم الاسلام على إنسانه الحصول على المال بطريقة المقامرة، لما فيها من عدوان على مال الآخرين بدون مقابل، كما حرم عليه شرب الخمر لما فيه من ضرر على نفسه وعدوان على مجتمعه: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون).
كذلك حرم الاسلام على إنسانه التعامل بالربا لما فيه من غلو في رفع قيمة رأس المال ولما يثيره من أحقاد عند من يستغلونهم بواسطة الربا من ذوي الحاجات، فقال تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس).
على أن الاسلام حين يحرم تعاطي هذه الأشياء إنما يخص بهذا التحريم أتباعه المسلمين فقط ولا يفرضه على غيرهم من رعايا الدولة الاسلامية ما دامت شرائعهم تبيحه.
فلغير المسلم أن يصنع الخمرة ويشربها ويتاجر بها، ولكن هذا لا يجوز للمسلم كنتيجة مباشرة لتحريم تعاطيها.
ولغير المسلم أن يقتني الخنزير ويربيه ويبيعه ويشتريه.
ولغير المسلم أن يتعاطى الميسر والربا.
وما دمنا بصدد الحديث عن حرية العمل، فقد كانت بعض الصناعات والحرف والأعمال مشينة في نظر العرب أيام جاهليتهم فجاء الاسلام يمجد العمل ويبارك العامل لدرجة حملت نبي الاسلام على تقبيل يد شيخ تشققت من قسوة العمل، وقال: ((هذه يد يحبها الله ورسوله)).
وهناك حريات أخرى علاوة على ما تقدم تناولها الاسلام بالإباحة، بل والاحترام.. منها حرية الإقامة والانتقال لجميع المقيمين على أرضه، مسلمين أو غير مسلمين، فلهؤلاء جميعاً أن يقيموا بصورة عفوية حيث تنتظم أحوالهم المعيشية، وأن يتنقلوا بصورة عفوية أيضاً حيثما تقتضي ظروف حياتهم.
بق أن نذكر أنه مضى على ظهور الاسلام أكثر من أربعة عشر قرناً وأتيح للإنسانية خلال هذا الزمن الطويل أن تتطور وتتدرج في معارج الرقي والحضارة حسبما بينا من قريب فكان ذلك في أواخر القرن التاسع عشر حين اجتمع في برلين عام 1885م عدد كبير من الدول وأبرموا معاهدة تعهد فيها الدول الموقعة عليها بمنع تجارة الرقيق في العالم. ولكن نظام الرق الذي ألغي اسمياً، هذا النظام الجائر ما زال مع الأسف قائماً. إنه ما برح عيش في عصرنا هذا، عصر الذرة والكمبيوتر، عصر المكوك الفضائي وغزو السماء، ما برح يعيش بوجهيه المخزيين: الرق الجسدي والرق المعنوي.
ففي أفريقيا السوداء ما زال الانسان يباع ويشترى، وفي الأمم الضعيفة والمستضعفة ما فتئ الانسان عبداً يستغل جهده وتنتزع من بين يديه ثروته ويحرم أبسط حقوق الحياة. فإذا ثار من أجل حريته أو طالب بهذه الحرية سلط عليه القوي الغادر الحديد والنار وزبانية التعذيب والدمار، قصد إذلاله وخنق إرادته واستغلال جهده وخيرات بلاده.
فهل لهؤلاء الطغاة المتسلطين والمستعمرين المستغلين أن يعوا معنى الحرية، وأنها حق طبيعي لكل إنسان فيقلعوا عما هم عليه، ويثوبوا إلى حظيرة الحق، واضعين نصب أعينهم الكلمة الخالدة للخليفة العادل عمر بن الخطاب: ((متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً))؟؟.