لا شك أن القصص القرآني الذي تناثر بين دفتي المصحف الشريف، قد تضمَّن في طياته دروسًا عظيمةً في الإدارة، سواءٌ ما كان منها على لسان إنسان أو منطق حيوان، ويحتاج هذا الجانب منا إلى وقفة، بل وقفات لنستخلص منها دروسًا وعبرًا يمكن أن تكون بمثابة نظريات وقوانين مرشدة وملهمة في مجالات الإدارة المختلفة، خاصةً أن تناولها في القرآن يجعلها بمثابة العمل التطبيقي التجريبي الذي يوفر لها رصيدًا قد لا يتوفر لغيرها من التجربة والواقعية والمصداقية.
ومن بين هذه القصص التي أرجو من الله أن يمكنني من تناولها، ويفتح لي أبوابَ الفهم والرحمة والفقه فيها؛ قصة سيدنا سليمان، عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات والتسليم، والتي لها ظلال وانعكاسات متعددة الجوانب في مجالات الإدارة، والتي سوف نبدأ معًا أولى خطواتها مع الهدهد.. فهيا لالتماس الدروس والعبر الإدارية:
الدرس الأول: يقظة قائد
ويتجلى هذا الدرس الأول في أول ما يطالعنا من موقف سليمان عليه السلام حينما يروي القرآن على لسانه ﴿مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ﴾ (النمل: من الآية 20)، وذلك بعد أن تفقَّد الطير وتفحَّص عمَّن فيه، كما ذكر القرآن ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ (النمل: من الآية 20)، وهذا يدلُّ على أن القائد لا بد أن يكون يقظًا ومنتبهًا لمن معه، من التفقد والتعرف عليهم وعلى أحوالهم والإحساس بهم والشعور بمن يغيب أو يحضر منهم؛ خاصةً أولئك الذين يلونه مباشرةً.
الدرس الثاني: العقاب المتدرِّج على قدر الخطأ
لا شك أن قضية الثواب والعقاب لها في الإدارة مجال ودور كبير، ويمارسها المديرون بمذاهب شتَّى؛ فمنهم من يرفع سيف العقاب والردع والتخويف على طول الخط، ومنهم من يغمده على طول الخط، وحار الناس بين هذا وذاك، ولكننا نرى في هذه القصة كيف أن سليمان عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم قد أخذ بمبدأ العقاب ابتداءً؛ باعتباره حافزًا سلبيًّا، ولكننا نراه قد تضمَّن أعلى درجات الموضوعية والعدل والحكمة، ويبدو ذلك في الآتي:
1- أنه لم يترك الأمر فوضى، ليفعل كل فرد ما يحلو له دون حساب أو مساءلة وعقاب.
2- أنه لم يبدأ في إعلان العقاب المنتظر إلا بعد أن تأكد فعلاً من غياب الهدهد، وأنه ليس مجرد اختفاء مؤقت عن مستوى رؤيته؛ حيث سأل عن ذلك بوضوح: ﴿مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ﴾ فلما تبين له أنه فعلاً غائب أعلن عن العقاب المنتظر له في مثل هذه الأحوال.
3- تراوح العقاب المعلن والمنتظر بين درجات ثلاث: أشدُّها وأقصاها ذبحه، وأقلها تعذيبه عذابًا شديدًا، ولا ينجيه من أحدهما إلا أن يكون لديه حجة بينة واضحة ويقينية وغير ملفَّقة أو مدبَّرة.
4- ويحمل ذلك في طياته ضرورة ألا يطغى الانفعال على العقل ولا الغضب على العدل، فكثيرًا ما نجد أحدنا حينما يتعرض لمثل هذا الموقف يتوعَّد بالويل والثبور وعظائم الأمور فقط، دون مراعاة لما قد تكون عليه ظروف الطرف الآخر، وما قد يكون من أعذار.
5- كما يشير ذلك التدرج إلى ضرورة أن يكون العقاب على قدر الخطأ؛ فإن كان هناك تمرُّد مثلاً فليكن الذبح، وإن كان مجرد غياب وناتج من تكاسل غير مقصود أو سبب غير مقبول فليكن التعذيب الشديد، ولا شك أن ذلك سوف يختلف باختلاف درجة التعمُّد والقصد ومدى تكرار الفعل الموجب للعقاب.
6- أن ما سبق يحتاج ولا بد إلى نوع من التحقيق والمحاكمة، وإعلان الادعاء، وسماع الدفاع، وإعطاء الفرصة كاملة لكليهما وبشكل عادل ومحايد؛ للوصول إلى البينة التي توضح حقائق الأمور، وإلا فكيف يمكن التوصل إلى قرار باختيار العقاب المناسب أو قبول العذر؟! سواءٌ كانت هذه المحاكمة بواسطة القائد نفسه، أو قد تسند إلى فرد آخر مختص، أو لجنة مختصة (لجنة تأديب).
8- أن ذلك يؤكد نقطة أخرى مهمة، وهي ضرورة وجود ما يسمى بلائحة الجزاءات، تمامًا كما يجب أن يكون هناك نظام كامل وواضح للحوافز، وأن هذه اللائحة يجب أن تكون واضحةً ومعلنةً ومفهومةً لدى كل من يعمل في المنظمة.
9- الفصل التام بين الشخص والخطأ، والتزام الموضوعية التامة في ذلك، والتعامل معه على أنه بريء إلى أن تثبت إدانته، وإعطاؤه فرصة تامة لإبداء حججه والدفاع عن نفسه وتوضيح موقفه.. وهذا ما يظهر من موقف الهدهد حين قال لسليمان عليه السلام بعد أن اقترب منه: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ (النمل: من الآية 22)، ولا يمكن أن يجرؤ على مثل هذا القول، ولا يقف مثل هذا الموقف شديد القرب من القائد ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ (النمل: من الآية 22)، إلا إذا كان لا يزال يعامَل معاملة البريء، وينظر إليه من منطلق الفصل بين الشخص والمشكلة التي يمكن أن تنشأ عنه.
ولعل هذه النقطة من أشد نقاط الإدارة والتربية عمومًا حساسيةً وتعرضًا للانتهاك؛ حيث إننا نرى أن الغالب هو أن يخلط الناس بين الأمرين، فإذا أخطأ أحد أخذنا منه موقفًا، وأعلنا أنه كذا.. وكذا.. "إنك مقصر ومخطئ"، والمفروض أن نقول بدلاً من ذلك إن الفعل الذي أتيت به كذا... وكذا.... (هذا الفعل خطأ ولا ينبغي...)، ولعل ما يؤكد أهمية الالتزام بذلك؛ التوجيه الرباني الذي ورد في القرآن لإرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)﴾ (الشعراء).. ولم يقل إني بريء منكم، وهذا مبدأ من المبادئ العظيمة في الإدارة والتربية والتعامل مع الناس عمومًا، وهو مبدأ الفصل بين الشخص والمشكلة أو الخطأ.
الدرس الثالث: فن صياغة التقارير والإلقاء والعرض
لقد أكد الهدهد أن ما لديه من مبررات يقينية ومؤكدة ولا تحتمل التأليف أو الظن أو التخمين أو الافتراض، ولكنها تقوم على الحقائق المجردة، ولا شك أن لنا وقفة جاء أوانها الآن لنتعلم من الهدهد أحد فنون الإدارة والاتصالات، فيما أصبح يُعرف الآن بفن "صياغة التقارير"، والإلقاء والعرض؛ عسانا أن نجد فيها من الدروس ما ينفعنا.
وبداية فإن التقرير- سواء كان شفهيًّا أو مكتوبًا- ما هو إلا وعاء يحتوي معلومات يقدم إلى مستوى إداري أعلى للمساعدة على اتخاذ قراراته على بينة ورشد.
والتقرير الجيد له مواصفات عديدة؛ أهمها أجزاؤه المتماسكة والمتكاملة والموجزة والكافية، كلماته الواضحة، والمعبرة، والبعد عن الغموض، أو التخمين، أو الإيجاز المخلّ، أو التطويل المملّ... إلخ.
وأهم أجزاء التقرير: مقدمة مشوقة، وصلب الموضوع، ثم خاتمة وتوصيات في النهاية.. فماذا عن تقرير الهدهد، وأين هو من كل هذه المواصفات؟!! تعالوا ننظر ونتأمل معًا.
1- المقدمة:
لقد تضمن تقرير الهدهد كافة عناصر التقرير الجيد، وأولها وجود مقدمة مشوقة ومعبرة عن الموضوع الذي سوف يتناوله، وذلك حينما قال: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ (النمل: من الآية 22)، فالتشويق الكامل يأتي من قوله ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ فهي تثير في المستمع كل قوى الاستعداد والتحدي لسماع ما سوف يأتي بعد ذلك؛ ما هذا الشيء الذي يعرفه الهدهد وأحاط به ولا يعرفه سليمان؟!!! رغم إمكاناته والقوى المسخرة لخدمته؟؟
ليس التشويق فحسب؛ بل إن هذه المقدمة رغم إيجازها الشديد قد تضمنت أيضًا صفةً أخرى مهمةً من أهم صفات المقدمة الجيدة، وهي إعطاء المستمع أو القارئ فكرةً عن طبيعة الموضوع، وذلك حينما قال: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ فالموضوع يتعلق بسبأ، وما هي سبأ؟ وعليه أن ينتظر بلهفة وشوق للاستماع والتعرف، ثم إنه قد أبان عن منهجه في هذا التقرير وهل هو قائم على مجرد التكهن، والتخمين، والسماع أم قائم على التبيُّن واليقين والتحقق العلمي الموثق؟ وذلك حينما قال: ﴿بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾.. فما الذي يمكن أن ينقص هذه المقدمة بعد ذلك رغم هذا الإيجاز الشديد؟!
2- صلب الموضوع:
ثم أخذ الهدهد في سرد عناصر التقرير التي تمثل صلب الموضوع الأساس، وهو هنا يحاول إعطاء صورة كاملة، وشاملة، وصافية، وغير منقوصة، كما رأى فيما يتعلق بقوم سبأ هؤلاء، ويمكن لنا أن نتبين أن هذا الطلب قد تضمن عناصر عدة؛ أهمها:
أ- نظام الحكم.
ب- القدرة الاقتصادية.
ت- النظام الاجتماعي ووضع المرأة فيه.
ث- النظام الحضاري والصناعي ومدى تقدمه.
ج- العقيدة الدينية ومدى رسوخها في نفوسهم.
﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ (النمل: من الآية 23) نظام الحكم، ووضع المرأة الاجتماعي.
﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (النمل: من الآية 23) القدرة الاقتصادية.
﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ (النمل: من الآية 23) الوضع الحضاري والصناعي والمهاري.
﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (النمل: من الآية 24) الوضع الديني والعقدي.. عبادة الشمس.
﴿وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ (النمل: من الآية 24)... مدى رسوخ ذلك في نفوسهم.
﴿فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ﴾ (النمل: من الآية 24).. صعوبة تغييرهم وتحويلهم عن هذا الوضع إلا بخطة محكمة ومدروسة تستغرق وقتًا وجهدًا.
3- التوصيات:
لم يقف الهدهد عند مجرد النقل والسرد؛ بل إننا نلاحظ تدخل رؤيته وتقييمه للأمور وحكمته، والتي وصلت مداها بتوصية لسليمان يوجهه فيها لطبيعة القرار الذي يجب اتخاذه في مثل هذا الموقف وهذا يوضح أعلى الدرجات الإيجابية والمسئولية والمشاركة من مقدم التقرير إلى قائده، وذلك حينما يختم تقريره بقوله: ﴿أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)﴾ (النمل).
وهنا يتوقف سليمان ونتوقف نحن أمام هذا المستوى الراقي من جندي مبادر لا يكتفي بمجرد تأديته الأوامر، ولكن ومن منطلق فهمه وإيمانه برسالة المنظمة التي يعمل تحت لوائها، ينطلق ويؤدي ويبدع ويتفانى في إتقان دوره بما ينعكس بأعلى درجات الكفاءة والفعالية على تحقيق وإنجاز هذه الرسالة.
الدرس الرابع: لا تبنِ قراراتك إلا على حقائق
واستكمالاً للدروس.. فماذا كنت ستفعل لو كنت مكان سيدنا سليمان عليه السلام؟ ولماذا تجهد نفسك؟ فالإجابة موجودة وموثقة في القرآن العظيم ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (27)﴾ (النمل)، وهذا درس عظيم آخر في الإدارة لا يمكن للقائد أن يبني قرارًا- خاصة إذا كان من هذا النوع الإستراتيجي- إلا عن بينة وحقائق لا تحتمل أي لبس أو تخمين، فكثيرًا ما نرى الخلط بين أمور ثلاثة لدى الكثير من المديرين، بل من الناس عمومًا وهذه الثلاثة هي: الحقائق.. والافتراضات.. والأحكام أو القرارات.
فإن ما قاله الهدهد لا يزال بالنسبة إلى سليمان مجرد افتراض قد يحتمل الصواب أو الخطأ، ومن ثم لا يجب أن يبني عليه حكمًا أو قرارًا إلا بعد تحويله إلى حقيقة، وهذا يحتاج إلى تبين وتأكد ودراسة واختبار لصحة الافتراض من عدمه.
ويجب البعد في ذلك عن العواطف والانفعالات والنواحي الشخصية، وهذا بالضبط ما فعله سليمان عليه السلام مع الهدهد؛ حيث قال: ﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ﴾ أي سوف نتأكد أو نتبين مدى صحة ما تدعيه، وحينئذٍ يتم اتخاذ القرار المناسب، ليس فقط بشأن الهدهد وعقابه أو ثوابه، وإنما بشأن القرار الأهم وهو المتعلق بقوم سبأ هؤلاء وما يجب اتخاذه حيالهم، وهو قرارٌ إستراتيجيٌّ مهمٌّ يتطلب وضع خطة على أعلى مستوى لتحويلهم.
الدرس الخامس: اصطياد عصفورين بحجر واحد
لم يكد سيدنا سليمان عليه السلام يسمع من الهدهد حججه التي لم يسقها فقط كي ينقذ نفسه من عقاب سليمان عليه السلام الذي توعَّده به، وإنما ليوصل له معنى معينًا أراد توصيله له، وهذا المعنى هو أن هناك قومًا ليسوا على رسالته ولا يؤمنون بما يؤمن به، وعليه أن يأخذ بأيديهم ليصبحوا على نفس رسالته.
لم يكد سليمان عليه السلام يسمع ذلك حتى بدأ في العمل دون إضاعة للوقت؛ حيث انصبَّ تفكيره على أمرين:
الأول: التأكد مما ساقه الهدهد من معلومات، وهل هي فعلاً بمثابة حقائق غير قابلة للجدل أو النقاش أو الاختلاف!
الثاني: البدء فورًا في رسم خطة عمل على أساس علمي ومدروس؛ ليسوق لهؤلاء القوم فكرته وليبيع لهم بضاعته وليأخذ بأيديهم في نهاية المطاف إلى الدخول معه في دين الله الذي يؤمن به ويعمل له ويعيش من أجله.
والعجيب أن القائد الفذ سليمان عليه السلام اهتدى لوسيلة تخدم في الغرضين معًا، وهي أن يرسل الهدهد نفسه برسالة يحملها إلى ملكتهم ويرقب من بعيد ماذا يفعلون ويرجعون.. ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)﴾ (النمل).
فكأنه عليه السلام إنما أراد أن يتيقن من صدق الهدهد أو كذبه، من خلال هذا الكتاب "الرسالة" وفي نفس الوقت يتعرف على ردود أفعالهم تجاهها وطريقة تفكيرهم وأسلوبهم، ويمهد في نفس الوقت لعملية التغيير التي بدأ التخطيط لها، وذلك بإحداثه نوعًا من لفت الانتباه الشديد لهم إلى شيء آخر يجهلونه أقوى منهم، وأقدر عليهم، فهو يصل إلى ما لا يمكن أن يصل إليه أحد بسهولة، وهو مخدع الملكة نفسها.
ويخلق لديهم اضطرابًا وخلخلةً تعتبر بمثابة تمهيد مهمّ للغاية في إذابة الجمود الشديد الذي سيطر عليهم فيما يتعلق بأمر عقيدتهم الفاسدة المسيطرة عليهم كما سبق وأوضح الهدهد في تقريره.
الدرس السادس: رسالة نموذج
وبالفعل حمل الهدهد الرسالة، وأدى مهمته على خير وجه وبإتقان شديد، دون أن يلحظه أحد، أو يعترض طريقه، فما تلك الرسالة إذن، وما هو محتواها؟ وما هو تأثيرها؟ قال تعالى على لسان بلقيس ملكتهم: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)﴾ (النمل).
وكما توقفنا سابقًا أمام أعظم تقرير صاغه الهدهد، فإننا أحرى بنا أن نقف الآن أمام أعظم نموذج لرسالة صاغها سليمان عليه السلام كما أوردها القرآن الكريم على لسانه، فالرسائل لها أصول في كتابتها وأجزاء يجب أن تراعيها، وترتيب لهذه الأجزاء، وهدف يمثل صلب الموضوع يجب أن توصله، وكل ذلك يجب أن يتحقق مع غاية الإيجاز الذي لا يخلُّ بالمعنى المراد.. ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾.. هكذا كان افتتاح الرسالة أو أعلاها، وهو هنا يحدِّد أمرًا استقر عليه المختصون في أمر الكتابة الإدارية فيما يتعلق بالمراسلات والمكاتبات، وهو ضرورة أن يكون هناك جزءٌ أعلى يحدد فيه:
- ممن الرسالة.
- ولمن.
- والموضوع.
ثم يذكر المطلوب الأساس بعد ذلك، وهو ما تضمنته هذا الإيجاز.
- فالرسالة من سليمان، بصرف النظر عن مدى علمهم من هو سليمان هذا أو عدم علمهم، وما هي يا تُرى قوَّته؟ وماذا يكون عليه ملكه؟
- أما لمن؟ فإنه ليس بالضرورة يجب كتابته؛ حيث ثم إلقاء الكتاب في يد من يراد له قراءته مباشرةً تقريبًا، ومن ثم ليس في الأمر غموض أو لبْس لمن توجه إليه، إنما التركيز هو ممن أتت.
- طبيعة الموضوع بإيجاز: ﴿وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ هذا ما يمثِّل تقدمة عن طبيعة الموضوع الذي تحمله الرسالة، ولعل هذه الجملة- رغم إيجازها- تحقق الكثير من الأغراض، وهي:
- أولاً: توضح طبيعة الموضوع الذي تتناوله الرسالة.
- ثانيًا: تمثل خطوةً أولى في خلخلة الوضع النفسي لهم.
- ثالثًا: تمثل وضعًا مثيرًا أو يدعو إلى التفكير والبحث والدراسة عمَّن هو هذا الذي يتحدث سليمان باسمه؟ والذي قال عنه: "الله، الرحمن، الرحيم"، فمن هو؟ وما قوته؟ وأين هو مما نعبد نحن؟ وأيهما حق؟ وأيهما باطل؟ وأيهما أقوى؟.. إلخ من ذلك الأسئلة.
صلب الموضوع:
﴿أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)﴾ (النمل).. هذا هو نهاية الرسالة وكل ما يتعلق بها تم إيجازه بهذا الشكل المركز جدًّا دون إحالة أو إضاعة للوقت في القيل والقال، والمقدمات.
الأول: النهي
﴿أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ﴾ أي عليهم أن يلزموا حدودهم ولا يتعدوا قدرهم، ويعودوا إلى صوابهم ويلزموا عقلهم ورشدهم، ويُنزلوا الآخرين "سليمان عليه السلام" قدره، ويعطونه مكانته التي تعلوهم، ويعرفوا قوته التي لا طاقة لهم بها والتي يستمدها أصلاً من قوة الله الرحمن الرحيم.
الثاني: الأمر
﴿وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ فبناءً على ما سبق ليس لكم إلا أن تأتوا إليَّ مذعنين، مسلمين، دون قيد أو شرط، أو تأخير، وكما هو واضح فإن الرسالة- رغم شدة إيجازها- تضمنت من الحزم والحسم في كلماتها القليلة ما يجعلها تحقق الهدف الذي صيغت من أجله، وهو ذلك المتعلق بالتأثير في نفسية الملكة ومن معها.
وهذا ظهر بشكل واضح وجلي في الحوار الذي دار بعد ذلك بين الملكة وقومها كما أوضحه القرآن في سياق القصة كما جاء في سورة النمل، ولكننا نقف عند هذا الحد الذي عمق تلك الرسالة النموذج؛ ليس فقط في صياغتها من حيث الشكل، وإنما أيضًا في مضمونها وأهدافها ومعانيها؛ حيث حقق سليمان عليه السلام بذلك ما كان يرمي إليه كقائد فذٍّ صاحب رؤية ورسالة، وذي يقظة وعدالة، فظهر له صدق الهدهد ودقة ما ساقه من بيانات، وأنها تمثل حقائق لا أوهامًا أو تخمينات.
كما أنه وفي نفس الوقت قد تمكن من تنفيذ أول خطوة من خطوات إدارة تغيير هؤلاء القوم لتحويلهم مما هم عليه من الضلال إلى الهدى، وليضع توصية الهدهد التي ذكرها في نهاية تقريره موضع التطبيق، حينما قال له ﴿أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)﴾ (النمل).
ولن ندرك معنى هذه الخطوة ولا مدى تأثيرها في إدارة عملية التغيير عمومًا والتي قام بها سليمان عليه السلام خصوصًا؛ إلا إذا وقفنا وقفةً أو وقفاتٍ خاصةً أمام موضوع التغيير والنماذج أو السنن التي تحكمه، وهو ما سوف نحاول التعرض له بإذن الله تعالى في مقالات تالية.
لكن ما نريد أن نختم به تلك الدروس العظيمة عن الهدهد في هذه المقالة هو أن ما سبق أن قدمه الهدهد من معلومات تمثل حقائق يقينية في تقريره وما أوصى به من توصيات لقائده وما قام وساهم به من عمل وجهد في ضوء توظيف سليمان عليه السلام لطاقاته؛ قد ترتب عليه صياغة خطة دقيقة ومحكمة لإدارة عملية تغيير مخططة ومتعمَّدة؛ انتهت إلى النجاح الكامل في تحويل هؤلاء القوم بقيادة ملكتهم من عبادة الشمس إلى عبادة الله الواحد القهار، وأسلموا مع سليمان لله رب العالمين، دون استخدام أي نوع من أنواع القهر والإجبار أو القتال، فأي درجة من التناغم والتفاهم يمكن أن تحدث بين قائد وجنوده لتحقيق رسالتهم وأهدافهم بكفاءة وفعالية أعلى من ذلك؟!
المصدر: د. محمد المحمدي الماضي
نشرت فى 23 يونيو 2010
بواسطة ahmedkordy
أحمد السيد كردي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
30,782,009