كيف تخطط لحياتك على المدى البعيد؟

الرسالة والرؤية الشخصية

مقدمة :

 هل فكرت يوما في التخطيط لحياتك؟ هل فكرت في رسالتك في الحياة ؟ وهل تملك رؤية لما سيكون عليه حالك في المستقبل ؟ وهل هناك فرق أو شبه بين التخطيط والرسالة والرؤية ؟ ولكن قد يخطر ببالك سؤال آخر بعد أن تقرأ هذه الأسئلة وهو : وما أهمية كل هذه الأمور في حياتي ؟ ؟ ؟  هنالك الكثير من الناس يعيشون دون تخطيط ودون رسالة، فلماذا علي أنا أن اخطط وأن أجعل لي رسالة؟

 

 

 لعلنا نستطيع أن نوجز الفرق بين من يخطط لحياته وبين من لا يخطط بالفرق بين من لديه طموحات وأحلام كبيرة ويعمل لتحقيقها وفق أولويات محددة وبين من يعيش على هامش الحياة همه الوحيد كيف سيوفر لقمة يومه.

  

أهم عمل ينبغي أن تعطيه جزءاً من وقتك الثمين :

  

لعلي لا أبالغ إذا قلت أن أهم عمل ينبغي على الإنسان أن يبدأ به هو وضع رسالته في الحياة. إذا كنت لم تقم بذلك حتى الآن فالفرصة بين يديك الآن. وإذا كنت قد قررت أن تتابع هذه الدورة فأنت تسير على الطريق التي ستجعل لحياتك معنى آخر. فمن يعمل على أساس رسالة في حياته يمكن تمثيله بقبطان السفينة التي تحمل على ظهرها آلاف البشر وربما آلاف الأطنان من الأشياء الأخرى والقبطان في هذه الحالة هو المسئول الأول عن حياة الركاب وسلامة حمولة السفينة، وهو لم يصل إلى هذه المرتبة إلا لتوفر مجموعة من المزايا لديه لعل من بينها :

  

·       أنه يحمل إيمانا عميق بأهمية المهمة التي يسعى إليها.

 

·       وأنه يعرف ويثق بإمكاناته وإمكانات سفينته بشكل دقيق ومفصل.

 

·       وأنه يعرف قدرات البحارة وطاقم السفينة معرفة جيدة ويثق بهم.

 

·       وأنه يعرف الطريق البحرية التي يسلكها ويتابع تغيرات الجو على مدار الساعة.

 

·       وأنه يعرف البحار والمحيطات التي يخوض فيها وقد درس ممراتها بكل دقة.

 

·       وأنه يؤمن بأنه قادر على الوصول إلى الميناء الذي يقصده ، بإذن الله.

 

·       ويمكن تلخيص كل ذلك في أنه يعرف ماذا يريد ؟ وكيف يصل إليه ؟ يعرف أهدافه ويعرف كيف يعلم لتحقيقها.

  

هذا القبطان هو مثال على إنسان لديه رسالة ورؤية في مجال عمله كقبطان. ولكن هل الرسالة والرؤية تقتصر على مجال العمل ؟ بالطبع لا . فلكل ميدان من ميادين الحياة التي تمارسها ينبغي أن تكون هناك رسالة ورؤية توجه سيرك فيه وإلا أصبحت كالأعمى الذي يسير دون مرشد أو دليل يتجه مرة يمينا ثم يعود ليتجه يسارا لا يدري أين يذهب.

  

هل مر بك يوم خرجت فيه من بيتك أو مكان عملك تهيم في الشوارع والأزقة وتنتقل من مكان إلى آخر لا تدري أين تذهب ! تدور في رأسك أسئلة لا تجد لها جوابا مقنعاً. هل أعود إلى البيت أم أذهب إلى صديقي فلان ؟ لماذا اخترت هذا العمل ؟ ولماذا أصبر عليه؟ لماذا أنا موجود  هنا وما الغاية من وجودي ؟ أسئلة قد يجد الإنسان صعوبة في الإجابة عنها في بعض الأوقات. هذه الأسئلة وأمثالها هو ما ستقودك هذه الدورة في طريق الإجابة عنه، بإذن الله.

  

فما هي الرسالة ؟

 

وما هي الرؤية ؟

 

وكيف أصوغ رسالتي في الحياة ؟

 

وكيف أرسم وأصور رؤيتي لمستقبلي ؟

   

مفهوم التخطيط الاستراتيجي:

 يعيش كثير من الناس دون أهداف محددة. فتراه يوماً في عمل أو وظيفة ما ثم لا يلبث بعد وقت قصير أن ينتقل إلى عمل آخر لا علاقة بينه وبين العمل السابق. وقد تراه يوما يقرأ كتاباً ثم لا يلبث أن يغيره دون أن يتم قراءة الكتاب السابق. وربما تجده الآن يدرس تخصصاً معيناً ثم لا يلبث بعد فصل أو سنة أن يتحول إلى تخصص آخر، وقد يتخرج من الجامعة ثم يعمل في مجال لا علاقة له بتخصصه.

 

ولكن هل مجرد وجود أهداف في حياتي يجعلني صاحب رسالة ورؤية. والجواب المختصر لا. وإن أردت التفصيل فعلينا أن نتعرف على مراحل تطور الفكر الإداري في هذا المجال والذي يهتم بإدارة الذات وإدارة الوقت والحياة.

  

من التخطيط اليومي إلى الرسالة والرؤية مرورا بالتخطيط الإستراتيجي :

 

كانت البداية بالتخطيط اليومي. فكان الإنسان يحدد لنفسه ماذا سأفعل غداً ؟ فمن خلال القيام بجولة بسيطة يتعرف من خلالها على ما تم انجازه سابقاً، وما ينتظره ويجب عليه القيام به، يقوم بإعداد قائمة بما عليه القيام به غداً ومواعيد هذه الأعمال.

  

واجهت المخططون بالطريقة السابقة مشكلات من قبيل أن بعض الأعمال التي يخططون لها غدا تحتاج إلى إعداد وتحضير مسبق. وهذا ناتج عن النظرة القصيرة المدى لعملية التخطيط. وهنا ظهرت فكرة التخطيط الأسبوعي ثم الشهري. فبوضع خطة لشهر كامل يمكن انجاز المهمات المسبقة التي يتطلب انجازها تحضيراً لمهمة ستأتي آخر الشهر. بهذه الطريقة تم التغلب على بعض التحديات. ولكن هل كانت الأمور تسير على ما يرام؟

  

تطورت الأمور أكثر وأكثر بالانتقال  للتخطيط لسنة ثم لعدة سنوات. وكان هذا هو بداية التخطيط الاستراتيجي. بدأ الأفراد والشركات يتنافسون في وضع خطط لسنوات أكثر مفترضين أنه كلما ازداد عدد السنوات كانت الخطط أبعد نظراً. فأصبحنا نسمع عن خطط لـ 10 سنوات، ثم لـ 50 ... وآخر ما تم الإعلان عنه خطه لـ 500 سنة. ولكن ظهرت تحديات جديدة.

 بعد ساعات وربما أيام أو شهور من التخطيط الاستراتيجي، وبعد وضع الخطط موضع التنفيذ، تظهر في الأفق بوادر تحديات من نوع جديد وعميق في نفس الوقت. وجد أن هذه الخطط الطويلة يتم تجاوزها والاتجاه في مناحي أخرى لا تخدم أهداف الخطة. أمر آخر لعله يفسر المشكلة السابقة أن الحماس والحيوية التي كانت متوقعة لتنفيذ  الخطة كانت تتلاشى بسرعة ودون تفسير واضح.

 

القيم والمعتقدات تفسر أسباب إخفاق التخطيط الاستراتيجي:

 

بالتأمل في وسائل وأدوات التخطيط الاستراتيجي والمقارنة بين الخطط التي نجحت والخطط التي فشلت وجد أن الخطط الفاشلة لم تبن على أساس قيم ومعتقدات صاحبها وبالتالي لم يكتب لها الحياة، بينما نجحت الخطط التي بنيت على أساس قيم ومعتقدات أصحابها.

  

ولكن ماذا نعني بالقيم والمعتقدات ؟

 

وما دورها في الرسالة والرؤية ؟

  

قصة ذات مغزى

 

بدأت أحداث هذه القصة، والتي يرويها الدكتور محمد الشريف في كتابه ( الهمة طريق إلى القمة) ، في اليابان بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وكانت اليابان قد خرجت منها منهزمة، حيث يقول : "أرسلت الدولة اليابانية في بدء حضارتها بعوثاً دراسية إلى ألمانيا كما بعثت الدول العربية بعوثاً،  ورجعت بعوث اليابان لتحضر أمتها، ورجعت بعوثنا خالية الوفاض!! فما هو السر؟ لنقرأ القصة حتى نتعرف على الإجابة.

  

يقول الطالب الياباني أوساهير: الذي بعثته حكومته للدراسة في ألمانيا: لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني الذي ذهبت لأدرس عليه في جامعة هامبورج لما وصلت إلى شيء، كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم، كيف أصنع محركاً صغير. كنت أعرف بأن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى "موديل Model" هو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفت كيف تصنعه وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها، وبدلا من أن يأخذني الأساتذة إلى معمل، أو مركز تدريب عملي، أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها، وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك، أيا كانت قوته وكأنني أمام لغز لا يحل، وفي ذات يوم، قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، كان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي، وجدت في المعرض محركاً قوة حصانين ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك وكان ثقيلاً جداً وذهبت به إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة وجعلت أنظر إليه، انني أنظر إلى تاج من الجوهر، وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوربا، لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا لغيرت تاريخ اليابان، وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى، مغناطيس كحدوة الحصان، وأسلاك، وأذرع رافعة، وعجلات ، وتروس وما  إلى ذلك، لو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها، ثم شغلته فاشتغل، أكون قد خطوت خطوة نحو سر "موديل Model" الصناعة الأوربية، وبحثت في رفوف الكتب التي عندي ، حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات وأخذت ورقاً كثيراً، وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل، رسمت المحرك، بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمل أجزاءه، ثم جعلت أفككه، قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورقة بغاية الدقة، وأعطيتها رقما، وشيئا فشيئا فككته كله، ثم أعدت تركيبه، وشغلته فاشتغل، كاد قلبي أن يقف من الفرح، استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل.

  

وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسنا ما فعلت، الآن لا بد أن أختبرك، سآتيك بمحرك متعطل، وعليك أن تفككه، وتكشف موضع الخطأ وتصححه، وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل وكلفتني هذه العملية عشرة أيام عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاثاً من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدي، صنعتها بالمطرقة والمبرد.

 

بعد ذلك قال رئيس البعثه وكان يتولى قيادتي روحيا: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك ثم تركبها حتى تصبح محركاً، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس، والألمنيوم، بدلاً من أن أعد رسالة الدكتوراة كما أراد مني أساتذتي الألمان، تحولت إلى عامل ألبس بذلة زرقاء وأقف صاغراً إلى جانب عامل صهر المعادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة ساموراي، ولكنني كنت أخدم اليابان وفي سبيل اليابان يهون كل شيء. قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، وبعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة.

 

وعَلِمَ الميكادو "الحاكم الياباني" بأمري فأرسل لي من ماله الخاص، خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة، وأدوات وآلات، وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت، فوضعت راتبي وكل ما ادخرته، وعندما وصلت إلى ناجازاكي قيل لي: إن الميكادو يريد أن يراني، قلت : لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشء مصنع محركات كاملاً، استغرق ذلك 9 سنوات، وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات ( صنعت في اليابان )، قطعة قطعة، حملناها إلى القصر، ودخل الميكادو وابتسم وقال: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة، هكذا ملكنا "الموديل Model" وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوربا إلى اليابان ونقلنا اليابان إلى الغرب."

  

أعتقد أن هذه القصة تشرح نفسها بنفسها، ولكن دعونا نتوقف عندها ونفتح باب النقاش من خلال الأسئلة التالية :

  

ما هي القيم والمعتقدات التي كان يحملها أوساهير؟

 

أين تقع القيم والمعتقدات الدينية في هذا الإطار؟

  

نظرية ماسلو والدوافع الإنسانية

 

دعونا نتوقف عند بعض العبارات المختارة من قصة أوساهير الياباني لنتعرف على بعض دلالاتها وعلاقتها بالقيم والمعتقدات.

  

قال أوساهير : لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني الذي ذهبت لأدرس عليه في جامعة هامبورج لما وصلت إلى شيء.

  

قال أوساهير : فإذا عرفت كيف تصنعه وضعت يدك على سر الصناعة كلها ( الموديل Model ).

  

قال أوساهير : قال رئيس البعثة ... وكان قيادتي روحيا : ...

  

قال أوساهير : تحولت إلى عامل ألبس بذلة زرقاء وأقف صاغراً إلى جانب عامل صهر المعادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل ، مع أنني من أسرة ساموراي.

  

إذن فقد ضحى أوساهير بماله ووقته ونفسه ومكانته من أجل اليابان. فما الذي دفعه لكل ذلك. لقد وضعت نظريات كثيرة لتفسير الدوافع الإنسانية التي تثير الإنسان نحو عمل ما أو تدفعه لترك عمل آخر. من هذه النظريات على سبيل المثال نظرية ماسلو.

  

يرى ماسلو أن الدوافع الإنسانية يمكن النظر إليها من خلال نموذج في خمسة مستويات:

  

المستوى الأدنى الحاجات المادية :

 

( الطعام والشراب والمسكن والملبس). عند هذا المستوى تمثل هذه الحاجات المادية الفطرية الدوافع التي تدفع الإنسان وتحركه ليحافظ على حياته، ولا يفكر فيما هو أعلى منها من حاجات حتى يحققها.

 

المستوى الثاني حاجات للأمان:

 

بعد أن يحقق الإنسان حاجاته المادية يسعى لتحقيق الأمان وذلك بتأمين استمرار توفر الحاجات المادية.

 

المستوى الثالث القبول الاجتماعي :

 

بعد تحقيق الأمان يسعى الإنسان لتحقيق القبول الاجتماعي ممن حوله. فهو في المستوى الثاني يمكن أن يضحي بالقبول الاجتماعي في سبيل الحصول على الأمان.

 

المستوى الرابع الاحترام :

 

ترتقي حاجات الإنسان بعد تحقيق القبول الاجتماعي إلى تحقيق التقدير والاحترام. في المستوى الثالث قد يحقق القبول بدون احترام، وفي المستوى الرابع يسعى للحصول على التقدير والاحترام من خلال أعماله وآرائه.

 

المستوى الخامس والأخير تحقيق الذات:

 

يسعى الإنسان في هذا المستوى إلى تحقيق ذاته وإثبات وجوده فلربما استخدم كل ما كسبه في الماضي من أجل تحقيق رؤيته عن نفسه بغض النظر عما يريد الآخرون.

      

لعل نظرية ماسلو تعتبر من أشهر النظريات التي تسعى لتفسير الدوافع الإنسانية، ولها قدرة عالية على تفسير الكثير من الحالات الإنسانية، وعلى الرغم من ذلك فقد تعرضت للكثير من النقد وفشلت في تفسير كثير من النماذج الإنسانية. ومثال أوساهيرو أحد هذه النماذج التي لا يمكن أن تفسر وفق هذه النظرية. فما هو المكون الغائب في نظرية ماسلو ؟؟؟

  

سؤال كبير ينبغي التوقف عنده كثيراً وذلك لأن هذا السؤال يخص شخصيات من أكثر الشخصيات تأثيراً في العالم. نظرية ماسلو  تفسر الحالات التي تتمحور على ذاتها وتسعى لتحقيق مكاسب شخصية بينما تفشل في تفسير الحالات التي تسعى نحو الطموحات الكبيرة.  راجع كلمات أوساهيرو إنه يضحي بحاجاته المادية ويضحي بأمانه الشخصي وأمان حاجاته ويضحي بالعرض الذي عرض عليه أن يقابل الميكادو ، كل هذا من أجل ماذا ؟

 

إذن فنظرية ماسلو  لا تصلح لتفسير الشخصيات التي تعيش من أجل رسالة.

   

نموذج هرم المستويات المنطقة العصبية ( الحلقة 1 )

 

كثيرة هي النظريات التي حاولت ولا تزال تحاول أن تفسر الدوافع الإنسانية. وتهدف هذه النظريات إلى الوصول إلى نموذج لديه القدرة على تفسير أكبر قدر من الناس بالإضافة إلى قدرته على إعطاء إرشادات عملية لمستخدمه إلى الجوانب التي يحتاج إلى العناية بها ليزيد الدوافع الإيجابية ويقلل الدوافع السلبية.

 

لا نريد أن نخوض في دورتنا هذه ، التي نفضل أن نركز فيها على الجانب العملي أكثر من الجانب النظري ، في تفاصيل كل نظرية ونموذج والمقارنة بينها وذكر محاسنها وعيوبها. وسنكتفي بما تقدم من الحديث حول نظرية ماسلو، لننتقل إلى الحديث عن النموذج الذي يمثل من وجهة نظرنا أفضل ما توصل إليه العلم في هذا المجال ألا وهو نموذج هرم المستويات المنطقة العصبية .

  

مزايا هرم المستويات المنطقية العصبية :

 

1.   تتمثل فيه جميع جوانب الشخصية المتكاملة التي تمثل مداخل إلى الدوافع

 

2.   يجمع بين الجانب الفكري والسلوكي والشعوري الروحاني للشخصية.

 

3.   نموذج عملي وسهل التطبيق.

 

4.   لدية القدرة على تشخيص وتحليل الجوانب المتشابكة في نفس وعقل الإنسان وجعلها أقرب للفهم.

 

5.   يبين بشكل مبسط العناصر الأكثر تأثيراً في الشخصية مما يساعدنا على التوجه مباشرة نحو حلول فعالة وتجنب الانتكاسات.

  

ما هو نموذج هرم المستويات المنطقية؟

 نموذج هرم المستويات المنطقية العصبية عبارة عن نموذج مستعار من علم النفس يعمل هذا النموذج على فهم ستة جوانب في الشخصية الإنسانية وعلى أساس هذا الفهم يمكن تفسير سلوكيات الإنسان وما ينتج عنها من إنجازات وبناء على هذا الفهم يتم التعرف على الجوانب التي ستساعدنا على التطوير والتحسين.

 

تتمثل شخصية الإنسان وفقا لهذا النموذج في ستة مستويات هي :

 

المستوى الأول ( قاعدة الهرم ) : البيئة

 

تمثل البيئة المحيط الذي يعيش  فيه الإنسان من بشر وأشياء. ففي المنزل هنالك الوالدين والإخوة والأخوات وأثاث المنزل وتجهيزاته وكذلك حالة الطقس تعتبر من مكونات البيئة. وفي العمل هنالك عناصر أخرى مثل زملاء العمل والمدير وأثاث المكتب، وهكذا تختلف البيئة من مكان لآخر، وعناصر البيئة هذه لها دور في توليد الدوافع لدى الإنسان أو كبحها، وتوفير العناصر البيئية المناسبة يساعد على توفير جو مناسب للعمل وبناء المستقبل.

  

يدخل ضمن عناصر البيئة العناصر التي مر بها الإنسان خلال حياته مثل المدرسة التي تعلم فيها، والمعلمون الذين تعلم على أيديهم ومناهج التعليم التي صقلت معارفه وخبراته ... وكذلك عناصر تاريخ الأمة التي ينتمي إليها بما فيه من عناصر قوة وضعف.

 

 كل هذه العناصر البيئية تشكل قاعدة يستند إليها الإنسان في بناء مستقبله ورسالته في الحياة، وبقدر ما يراه في بيئته من عناصر إيجابية تكون حافزاً له على العمل والانجاز وإذا كان لا يرى في بيئته إلا السلبيات كان ذلك دافعاً لك على اليأس والخمول وعدم العمل.

 

هنالك تأثير متبادل بين المستويات الستة تمثله الأسهم الصاعدة والهابطة. فالبيئة تؤثر على السلوك والسلوك يؤثر على البيئة. وضخامة السهم الهابط تشير إلى أن تأثير المستوى الأعلى أكبر من تأثير المستوى الأدنى. وسنبين ذلك بالتفصيل لاحقا.

   

المستوى الثاني : السلوك

 

السلوك يشير إلى كل ما يقوله الإنسان ويفعله. فالكلام والحركة والعمل والنشاط والكسل والغضب  كلها سلوكيات مختلفة الأشكال ( نريد التفريق هنا بين الشعور بالغضب والذي يمثل حالة نفسية شعورية والتصرفات الناتجة عن ذلك وهي المقصودة هنا ). والسلوك يمثل مكوناً هاماً من مكونات شخصية الإنسان الظاهرة للعيان.

 

فإذا كانت البيئة في الخارج حارة ( الجو حار )، سينشأ عن ذلك سلوك تذمر وكسل وخمول ... وهنا التأثير من أسفل لأعلى. وهذا في حالة الإنسان صاحب المرجعية الخارجية القوية، بمعنى الإنسان الذي يتأثر بالعوامل الخارجية. أما الإنسان صاحب المرجعة الداخلية ( الذاتية ) القوية فإنه سيعمل على مقاومة العوامل الخارجية ( البيئة ) ويعمل على تحقيق أهدافه مهما كانت الظروف الجوية. وهذا يتمثل في قول الشاعر لطالب العلم :

  

إذا أنت يؤذيك حر المصيف ** ويبس الخريف وبرد الشتا

 

ويلهيك حسن زمان الربيع **   فأخذك للعلم قل لي متى

  

وبنفس هذه الطريقة ينطبق هذا الأمر على البيئة الاجتماعية والاقتصادية والمادية ... إلخ.

  

المستوى الثالث : القدرات

 

ونقصد بالقدرات هنا كل قدرة يمكن أن يوظفها الإنسان في حياته، سواءً امتلك هذه أم لم يمتلكها. فامتلاكه لها يعتبر دافعاً بينما فقدها سيشكل كابحاً. والقدرات المقصودة هنا تشمل القدرات العلمية المعرفية والقدرات العقلية التفكيرية والمهارات والخبرات والتجارب الحياتية وحتى القدرات الجسدية المادية، فكلما ازداد رصيد الإنسان من هذه القدرات كلما قويت الدوافع المساعدة على النجاح، والعكس بالعكس.

  

والتأثير والتأثر بين القدرات وما دونها وما فوقها وارد. فالإنسان الذي لدية قدرة على الخطابة مثلا ( حسن اختيار الكلمات المناسبة ودرجة الصوت الملائم ... ) ، سينتج عنه في أرض الواقع سلوك الخطابة ( الفعل )، وهنا التأثير من أعلى لأسفل. أما إذا لم يكن الإنسان لديه قدرة الخطابة فإنه يستطيع أن ينميها بممارسة الخطابة كسلوك، وهنا التأثير من أسفل لأعلى. الاتجاه من أعلى لأسفل مضمون النتائج أما الاتجاه المعاكس فقد يفشل أحياناً.

  

وهنا يتبين لنا بشكل أوضع التأثير الأقوى للمستويات الأعلى في هرم المستويات المنطقية العصبية. فبرغم أن مساحة الهرم تضيق في الأعلى للدلالة على قلة عناصر المستويات العليا إلا أن قوتها التأثيرية تزداد.

   

المستوى الرابع : القيم والاعتقادات

 

وهنا نأتي إلى مستوى مهم جداً من المستويات المنطقية العصبية ألا وهو القيم والاعتقادات. ونقصد بها هنا القيم والاعتقادات الحياتية فقط حيث سيأتي الكلام عن القيم والاعتقادات الدينية في المستوى الأعلى ( قمة الهرم ) مستوى الاتصالات الروحية. والقيم والاعتقادات تشير إلى أمرين مختلفين في حقيقتهما ولكنهما على علاقة وثيقة فيما بينهما وعلى علاقة وثيقة بالمستويات الأخرى وبينها تأثير متبادل. ولكن دعونا نبدأ ببيان حقيقة كل منهما ثم بيان العلاقة بينهما ثم نعرج بعد ذلك على العلاقة بينهما وبين المستويات الأخرى.

  

القيم : يقصد بها كل أمر قَيِّم ( ذو قيمة عالية) مادياً أو معنوياً في نظر صاحبه، والقيمة أمر فكري مطبوع في عقل صاحبه نتيجة تجاربه وخبراته في الحياة. ويتشكل في حياة كل إنسان نظام للقيم متشابك الأجزاء بعضها أكثر قيمة من بعض. وتتغير هذه القيم صعوداً وهبوطاً متأثرة بتجارب الإنسان وخبراته. وتمثل القيم دوافع خفية تعمل من وراء ستار ولها تأثير كبير في حياة الناس.

  

أما الاعتقاد : فهو وجهة نظر الإنسان وقناعاته تجاه الآخرين والأشياء ( اعتقادات الإنسان تجاه نفسه تشكل المستوى الخامس : الهوية ) بما فيها اعتقاداته تجاه القيم. والاعتقادات تبدأ ضعيفة برأي يتطور إلى قناعة ثم يترسخ كاعتقاد.

  

بعض هذه القيم والاعتقادات تكون مغروسة بحكم الفطرة وبعضها يتم استحداثها. فمن أمثلة الأشياء التي يثمنها ويقيمها الإنسان حب المال والأبناء والنساء، قال الله تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }آل عمران14. فالإنسان يحب بفطرته هذه الأشياء ولكنه إذا وعظ وذكر وتعمق الإيمان في نفسه آثر ما أعده الله له في الآخرة على متاع الدنيا. فالمتاع هو المتاع ولكن هذا مقدم في الدنيا وهذا مؤخر في الآخرة. والتسامي على الشهوات المقدمة يأتي نتيجة نمو قيم روحية أعلى سنتحدث عنها في المستوى السادس.

  

ولنأخذ مثالا آخر يبين كيف تتكون القيم والاعتقادات الحياتية :

 

لو أن طالبا في المدرسة حضر درساً في الرياضيات، الإحصاء مثلا ( شيء من الأشياء ) مع الأستاذ س ( الآخرين ) ،  كانت البيئة الصفية ممتازة ( المستوى الأدنى للهرم )، وقد ركز أثناء الشرح وأنصت ( سلوك )، كما أن قدراته العقلية والمعرفية مناسبة للصف الذي يدرس فيه الآن، إذا واجهته صعوبة في فهم الدرس فسيتكون لديه رأي أن الأستاذ س ليس لديه قدرة على الشرح ، هذا في حالة أن تجاربه السابقة كانت تشير إلى قدرته على فهم الرياضيات وكان س لأول مرة يدرسه، فإذا كان المدرس قد درسه من قبل وفهم منه فإن الرأي سيكون تجاه الدرس الجديد ( الإحصاء ) بأنه ربما يكون صعباً، فإذ تكرر الأمر ترسخ الرأي حتى يتحول إلى قناعة ثم اعتقاد. لو افترضنا أنه اعتقد أن درس الإحصاء صعب ( مستوى الاعتقادات ) هذا سيولد عنده قدرة إحصائية ضعيفة ( مستوى القدرات )، مما سينتج عنه على مستوى السلوك فتور وخمول وعدم تركيز لاعتقاده بأنه مهما فعل  ومهما كانت البيئة مناسبة فلن يفهم الإحصاء، وهذا الأمر يحدث بشكل تلقائي إذا ترسخت القناعة، وهذا هو سر التأثير القوي للاعتقاد.

  

دعونا نسترجع المثال الذي مر سابقاً حول الخطابة لنرى أثر القيم والاعتقادات في ذلك. لو لم يكن عند الإنسان قدرات خطابية عالية ولكنه كان يمتلك قيمة عالية للخطابة لأنها أمر حيوي وهام في حياته ويمثل أداة حاسمة بالنسبة له لتحقيق أهدافه هذه القيمة العالية ستؤدي إلى توليد دافع لاكتساب هذه القدرة ينتج عنه تنمية الاعتقاد بقدرته على اكتساب هذه القدرة ، فيقوم بالتدرب والمحاولة حتى يصل إلى تحقيق هدفه. إذاً فالحل الحاسم لاكتساب القدرة على الخطابة تكون من خلال تنمية قيمة الخطابة! وهذا ما نهدف إلى بيانه في هذه المقدمة. أقوى وسيلة لتوليد دوافع إيجابية دائمة للعمل تكون من خلال توليد القيم وتنميتها.

  

هذا يذكرنا بالقيم الخمس الأساسية التي جاء الاسلام لحفظها وهي : النفس والعقل والدين والمال والعرض. فهذه القيم فطر الإنسان عليها منذ أن خلقه الله فلو تعرضت حياته للخطر فسيضحي بكل شيء في سبيل إنقاذها. فلو أن إنساناً طلب منه أن يقفز من على جدار يرتفع متراً لما وجد صعوبة في ذلك ولما تردد، فإذا رفعنا الجدار إلى مترين فربما تردد قليلا قبل أن يقفز، وكلما ازداد ارتفاع الجدار ازدادت الممانعة حفاظاً على حياته وسلامته، فلو أن ارتفاع الجدار10 أمتار وخشي على حياته فإنه سيرفض القفز ولكن لو علم أن أسداً على هذا الارتفاع سيهاجمه ليأكله ويقضي على حياته فإنه سيخاطر بالقفز أملاً في النجاة بحياته التي يعطيها قيمة عالية رغم أن سلامته ستتعرض للخطر فلربما يصاب بكسور نتيجة للقفز ولكنه على الأقل سيحافظ على حياته.

  

المستوى الخامس : الهوية

 

 الهوية تمثل نظرة الإنسان لنفسه وآرائه واعتقاداته فيها. أُفرِدت في مستوى مستقل لما لها من أهمية كبيرة في حياة الإنسان ، وجعلت فوق مستوى القيم والاعتقادات لأنها هي التي تشكل وتولد وتنمي القيم والاعتقادات حول الآخرين والأشياء { لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } الرعد 11. فالتغيير من الداخل هو التغيير الأكثر رسوخاً وتأثيراً على الإطلاق.

  

فإذا امتلك الإنسان قيماً سامية وكان لديه اعتقادات راسخة إيجابية حول ذاته وهويته فإنه قادر بإذن الله على تغيير ما حوله. ولعله من المناسب الآن التذكير بأوساهيرو الرجل الياباني الذي كان له الدور العظيم في إدخال اليابان إلى قائمة الدول الصناعية الكبرى. عد الآن إلى قصته في الفصول السابقة لتتأمل في أثر قيمه وهويته في صناعة النجاح الذي وصل إليه.

  

لقد ضحى بالمال ( قيمه ) والوقت ( قيمة ) في سبيل رفعة اليابان ( قيمة أعلى بالنسبة له ). لاحظ معي عبارات أوساهير التالية :

  

قال أوساهير : لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني الذي ذهبت لأدرس عليه في جامعة هامبورج لما وصلت إلى شيء.

 

إنه يعرف ما يريد ولن يثنيه عن الوصول إليه كلمات أستاذه التي كانت مقنعة للكثيرين من قبل أوساهير.

  

قال أوساهير : تحولت إلى عامل ألبس بذلة زرقاء وأقف صاغرا إلى جانب عامل صهر المعادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل ، مع أنني من أسرة ساموراي.

 

إنه يضحي بتكبره من أجل قيمة أعلى . . .

 

 قال أوساهير : قال رئيس البعثة ... وكان يتولى قيادتي روحيا : ...

  

إن أوساهير يقيم الجانب الروحي كثيراً وهو يتطلع إلى قيمه الروحية التي تمثل المرشد والموجه بالنسبة له.

  

margin: 0cm 0cm 0pt

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 145/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
49 تصويتات / 2008 مشاهدة
نشرت فى 2 يونيو 2010 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,765,116

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters