جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
لماذا لم يتقدم التعليم رغم كل هذه الاستراتيجيات والسياسات والخطط والتقارير الكثيرة التى حفل بها تاريخ مصر الحديث؟ هل لعيوب كانت قائمة بها؟ هل لأن المسئول لم تتح له الظروف أن ينفذ ما خطط له وفكر؟ هل كان للقيادة السياسية فى عصر ما قبل 25 يناير دور فى التعطيل؟ هل كانت ظروف وأحوال عالمية أو إقليمية أو محلية داهمتنا، فقلبت الأوضاع رأسا على عقب؟.
التقويم والمتابعة، خطوتان تعدان ألف باء العمل فى كل مجتمع، فى كل زمان.
كيف نشمر عن سواعدنا ونرصد الملايين لتقويم التلاميذ، ونحن - كقيادة تربوية - لا نعرف التقويم الذاتى لما نعمل، والتقويم لما سبق جهودنا؟.
- البذور الأولي
من المفارقات العجيبة حقا، أن تكون بداية تطوير التعليم فى مصر وتحديثه بحيث يقود عملية النهوض المجتمعى فى مصر، على يد حاكم "أمي"، فترة طويلة من حياته، وهو "محمد علي"، حيث أدرك بثاقب تفكيره أنه، وإن كان لابد أن يمتلك قوة مسلحة يمكن أن يحقق بها طموحاته السياسية، فلابد من قيام تعليم متطور حديث لمساندة هذه القوة المسلحة، وبذلك تجمعت أضلاع ثلاثة مهمة للنهضة: الإرادة السياسية ، والقوة العسكرية ، و التعليم المتطور.
بيد أن قوى الاستعمار الغربى الحديث عندما رأت أن محمد على قد بدأ يتمدد بدولته خارج حدود مصر، لتدب الحياة فى بعض أوصال الدولة العثمانية ، فزعت، حيث كان الاتجاه هو الإبقاء على مزيد من التدهور والمرض فى جسد الدولة العثمانية، التى كانت مصر تتبعها وقتها، ليسهل على هذه القوى التهام ما تحكمه من دول عربية، وكان لابد من ضرب "عامود الخيمة العربي" - مصر - ليتحقق للقوى الامبريالية ما تريد.
لكن مصر بعد فترة طالت بعد ذلك بعض الشيء، بدأت تعرف الطريق إلى خطط ومشروعات لتطوير التعليم، تمثلت فى مشروعات:
- على مبارك 1867.
- "قوميسيون المعارف" سنة 1880.
- عدلى يكن عام 1917.
- عبدالعزيز جاويش عام 1925.
- أحمد نجيب الهلالى سنة 1943.
- على ماهر لتطوير التعليم الجامعى سنة 1953.
وعندما تأكدت العروة الوثقى بين الاقتصاد والتعليم، بدأ التفكير فى تطوير التعليم يتخذ مسارا آخر يقوم على منهجية تحاول أن تتأسى بمنهجية التفكير العلمي.
ومن هنا بدأت مصر تشهد، لأول مرة، خطة للتعليم تواكبت مع الخطة العامة للدولة 1960 - 1965، ودون استغراق فى التفاصيل، فقد كشفت التجربة فى خطواتها الأولى عن عوامل تعثرها، إذ كان من المفروض أن تبدأ فى العام 60 - 1961، بينما تم التعداد العام للسكان فى عام 1961!. ومن المعروف أن التعداد السكانى هو المادة الأولية الأساسية التى يقوم عليها التخطيط للتنمية على وجه العموم، والتخطيط للتعليم على وجه الخصوص، وقد قدرت أعداد السكان وكثافتهم اعتمادا على أرقام التعداد السابق سنة 1947، فى ضوء معدلات الزيادة السكانية المعروفة، لكن عندما أعلنت نتائج تعداد 1961، ظهرت فروق بين التقدير والواقع، مما غير من النسب المختلفة الواردة فى التخطيط للمشروع.
كذلك تبدت إرهاصات التحول الجديد على أرض مصر، من خلال ما عرف باللجنة الوزارية للقوى العاملة سنة 1966، برئاسة زكريا محيى الدين الذى كان رئيسا للوزراء، حيث أصدرت تقريرا مهما، كان اللاعب الرئيسى فيه اللواء الدكتور "عبدالمجيد العبد".
وكان العيب الرئيسى فى هذا التقرير، أنه تناول التعليم باعتباره جهازا لإعداد القوى العاملة فحسب، مما ضيق من آفاق التطوير، وبعدت عنه الأبعاد المجتمعية والثقافية.
وفضلا عن ذلك، فيبدو أن بعض القيم القديمة للعلاقات الشخصية كانت لا تزال حاكمة فى بعض المواقف.
أقول هذا لأنى كنت شاهدا لموقف مهم فى هذا المجال.
فقد كان من مقترحات التقرير: نص يؤكد ضرورة "تصفية كلية التربية بجامعة عين شمس"، وكانت هى المؤسسة الوحيدة فى مصر والعالم العربى التى تضم عددا رائعا من أفذاذ أساتذة التربية وعلم النفس، وتحل محلها كليات المعلمين، التى قل وقتها أن تضم "أساتذة" جامعيين يحملون درجة الدكتوراه، باعتبارها كانت من المعاهد العليا.
وحدث أن كان من بين أساتذة تربية عين شمس، أستاذ "بلديات" زكريا محيى الدين، فأخذ منه موعدا ليقابله فيه عميد تربية عين شمس للبحث فى هذه المشكلة التى اعتبرناها وقتها "مصيبة كبري".
فلما ذهب عميد الكلية - الدكتور أبوالفتوح رضوان - لمقابلة زكريا محيى الدين، فى رئاسة مجلس الوزراء، ودخل المكتب، فوجيء بزكريا يهرع من وراء مكتبه ليقابل العميد فى وسط الحجرة ويأخذه بالأحضان والقبلات، والعميد فى دهشة كبيرة، خاصة أن زكريا لم يكن أى رئيس وزراء، بل كان رجلا ذا سطوة ومهابة.
وأسرع زكريا يقول للعميد إنه كان تلميذا فى مدرسة فاروق الأول للثانوية بالعباسية - إسماعيل القبانى الآن - وأن الدكتور أبوالفتوح درس له مادة التاريخ، وكانوا معجبين به للغاية.
ولما سأله عما يطلب، وحكى له، إذا بزكريا يمسك بالقلم ويشطب كلمة "تصفية" ويكتب بدلا من ذلك "تطوير"، ويتحول مجرى تاريخ إعداد المعلم فى مصر تماما!.
- بدايات للتفكير الاستراتيجي:
وكان من الواضح نتيجة حرب أكتوبر 1973، أن النصر العسكرى لابد أن يلحقه خطوات جادة فى بناء الإنسان المصري، لا تجعل هذا الانتصار مجرد "فلتة"، قد لا تتكرر.
ومن هنا كان لابد لقيادة التعليم التى تولاها الدكتور مصطفى كمال حلمى من سرعة العمل لإعداد تصورها عن السنوات التالية، وما يجب على التعليم أن يقوم به لمواجهة المتغيرات الجديدة، فكان أن ظهر تقرير باسم (حركة التعليم فى مصر الماضى والحاضر والمستقبل وبعض مبادئ واتجاهات الإصلاح) بتاريخ يونيو 1974، حيث استفيد فى هذا التقرير من كتاب "كومبز": (أزمة التعليم فى عالمنا المعاصر)، وتقرير "إدجار فور" (تعلم لتكون).
وقد طرح المشروع دعوة مهمة نص فيها على أنه:
"آن الأوان لكى تكون لمصر سياسة قومية للتعليم، سياسة واضحة المعالم، محددة الاتجاهات تتميز بالطموح والمرونة سياسة واقعية وليست خيالية لا بعيدة عن واقعنا، ولا منعزلة عن إمكانياتنا، وعقب الاستقرار على هذه السياسة القومية، تأتى مرحلة ترجمتها الى خطة تنفيذية وبرامج عمل مدروسة، تحشد لها جميع الإمكانات المادية والبشرية (ص: 73).
كانت بالفعل دعوة مهمة وأساسية، لكننا ننبه هنا إلى أن هذا الذى حذرت منه هو نفسه الذى شاب كثيرا من خطوط التقرير، ونحن لا نخصه وحده باللوم، فهو هنا يتسق مع "الخطاب الرسمي" فى التعليم على وجه العموم الذى يحفل دائما بالأمانى والأحلام وكأنه يقوم بدور "التنفيس" أكثر منه قياما بدور "التحريك" لمعطيات الواقع، ومن هنا يجيء إخفاقه فى أن يكون بمثابة الخريطة الهادية للسائرين على أرض التعليم الفعلية.
ومضت سنوات خمس على التقرير السابق، كانت ملامح المجتمع، أو بمعنى أصح النظام السياسي، قد أصبحت واضحة كلية، بعد فترة انسداد فى أوائل السبعينات إلى نظام يوليو السابق فظهرت (ورقة عمل) بتاريخ سبتمبر عام 1979 عن نفس الوزير الدكتور مصطفى كمال حلمي.
وقد طرحت الورقة قائمة من البرامج المتكاملة التى يمكن أن تصبح بعد مناقشتها واختيار الأولويات من بينها، منهاج عمل الوزارة وغيرها من المؤسسات المعنية بالتعليم وتطويره، خلال السنوات التالية.
والشيء المؤكد أن عام 1984 لم يكن بأى حال من الأحوال يشكل "علامة" فى التاريخ المصرى المعاصر يشير الى ضرورة "إعادة النظر" فيما يكون قد تقرر من سياسات بفترة وجيزة للغاية، وبالتالى فإننا لابد أن نتساءل عن تلك الحاجات الملحة التى حتمت ظهور ورقة جديدة لتطوير مبتغى فى التعليم تتمايز عن تلك المشروعات المتعددة السابقة. طبعا هناك تفسير شائع يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، وهو أن تكون المشروعات السابقة غير مقنعة للقيادة التعليمية الجديدة، ومن الصعب على من يقود سياسة يطالب بتنفيذها إذا لم يكن مقتنعا بها، خاصة إذا كان يملك تصورا آخر يراه أفضل.
وهناك تفسير آخر لابد من البحث عنه، وهو أن المشروع الجديد لا يختلف عن سابقه فى الهيكل الأساسى العام، وإنما هو يحاول أن ينزل بصيغته المثالية "اليوتوبية" إلى مزيد من التحديد والخطوات الإجرائية خاصة أن التصور الجديد كان وراءه الدكتور عبدالسلام عبدالغفار ثالث استاذ متخصص فى العلوم التربوية والنفسية يتولى وزارة التربية والتعليم فى تاريخ مصر كله بعد إسماعيل القباني، والدكتور عبدالعزيز السيد.
وعندما تنتقل الوثيقة إلى "أهداف السياسة التعليمية" نجد بالفعل نوعا من التفكير الإجرائى الذى نفتقده فى الكثير من الوثائق والتقارير الرسمية، حيث يغلب عليها الطابع المسمى بالإنشائى أى الذى ينحو نحو التأثير الأدبى والوجدانى بالرنين العالى للألفاظ والأهداف المبهمة، والمستويات البعيدة، فهنا يتوافر جانب كبير من الواقعية بل إنه مترجم إلى أرقام واحصاءات وإن كنا نعلم علم اليقين أن المسألة فى التعليم ليست مجرد إحصاءات وأرقام وإنما هو "نوع" ومستوى.
- استراتيجية تطوير التعليم فى مصر:
أتاحت الظروف لكاتب هذه السطور أن يكون "مشاركا" فى هذا التقرير فى وزارة د. أحمد فتحى سرور الذى لم تكن قد مرت على توليه الوزارة ستة أشهر، حتى طلب منى أواخر أبريل سنة 1987 أن أضع تصورا لما ينبغى أن يكون عليه التعليم وتطويره وأن أقتصر على التعليم ما قبل الجامعى حيث سيتناوله زميل آخر لم أعرفه.
ولما أبديت تحفظى على قصر الفترة المتاحة لى حيث أخبرنى أن تقرير التطوير سيطرح على مؤتمر عام يحضره رئيس الجمهورية فى يوليو التالي، أكد أنه فور توليه الوزارة شكل لجانا عدة تبحث وتتناول جوانب شتى من التعليم ووضعت تقاريرها وأن هناك مؤتمرات فرعية فى مديريات مختلفة للتعليم جمعت أراؤها وأنه يمكن الاعتماد عليها.
كان الأمر بطبيعة الحال غريبا إلى حد كبير، ووجه الغرابة هو أن هناك سياسة للتعليم قد أرسيت أسسها منذ عام واحد حيث تولى سرور الوزارة فى نوفمبر 1986 فضلا عن هذه الجهود المتعددة التى قام بها الدكتور مصطفى كمال حلمي، ثم إنه لم تكن قد مضت فترة كافية على تولى سرور، فكيف ومتى استطاعت كل هذه اللجان أن تدرس وتجتمع وتناقش؟
وتعكس إجراءات المؤتمر صعوبة تحقيق ما زعم من "القومية" فى الحوار والنقاش، ذلك أن التقرير وزع على الناس فى المؤتمر نفسه وهو فى حجم كتاب يقع فى 320 صفحة دون أن تتاح لأحد فرصة الاطلاع عليه ودراسته بتأن، الأمر الذى كان يحتاج معه إلى التوزيع قبل انعقاد المؤتمر بعدة أيام، ومن هنا فقد كان من الملاحظ أن المتحدثين يتحدثون فى مختلف قضايا التعليم ومشكلاته فى مصر، دون أن يعرفوا ماذا جاء بشأنها فى الاستراتيجية. هذا من جانب ثم نجيء إلى أمر آخر خطير، ينسف ما بني، بكل ما كان به من عيوب، كيف؟.
فإذا كان القانون رقم 139 لسنة 1981 قد مد فترة الإلزام بحيث شملت التعليمين: الابتدائى والإعدادى فهذا يعنى ان مدة الإلزام هى تسع سنوات. ولم تأت إشارة واحدة فى الاستراتيجية التى كتبتها بنفسي، وطرحت بحضور رئيس الدولة وممثلى مختلف الهيئات والأحزاب عام 1987 إلى غير هذا، فكيف بعد عام واحد بوزير التعليم يصدر قانون عام 1988، يقضى باختصار مدة التعليم الابتدائى سنة، فتصبح مدة الإلزام ثمانى سنوات؟!.
ويحتاج الأمر الى حديث طويل عما سببه هذا من خسائر فادحة فى التعليم، أموالا وبنية بشرية لم يحاسب عليها الدكتور سرور بل كوفئ برئاسة مجلس الشعب عشرين عاما!.
- مبارك والتعليم:
ونحن هنا أمام صورة فريدة حقا، لم تحدث من قبل فى تاريخ التعليم فى مصر. فما إن مر عام أو ما يزيد قليلا على قانون 1988 حتى ظهر لنا كتاب فخم مصقول الأوراق ذو ألوان زاهية مما لم تره تقارير تطوير التعليم من قبل. فضلا عن تسمية التقرير - لأول مرة فى تاريخ التعليم أيضا - باسم رئيس الدولة.
ومن مظاهر الغرابة أن التقرير لم يكن مثل ما تعودنا يظهر مرة واحدة بل هو يعاود الظهور بين الحين والآخر، بأشكال مختلفة لكن المضمون واحد والنهج هو هو، مما حمل من صور تزويق الواقع بالوهم وزخرفته بالخيال. عن طريق نفاق واضح، وتزلف مؤسف من وزير حمل مسئولية التعليم كله، من الحضانة حتى الدراسات العليا بالجامعة وهو الدكتور حسين كامل بهاء الدين، أستاذ الطب الكبير، الذى لم يكن فى حاجة إلى كل هذا فأستاذيته مفروض أن تعفيه من مثل هذا السلوك.
ففى السطر الأول من مقدمة طبعة 1992 تجد ألفاظا "زعيمنا" قاصدا حسنى مبارك ويعمم بكل ثقة وحماس: "فإن شعب مصر كله يتطلع إلى المستقبل يحدوه الأمل فى أن يستكمل الزعيم فى ولايته الثالثة مشروعه القومى لنهضة مصر الحديثة. ولقد وضح للشعب أن الرئيس قد وضع التعليم فى مكانة متقدمة من أولويات مشروعه القومي"!.
لقد رأى القائد أن يركز جهده فى المرحلة المقبلة على إصلاح جذرى فى التعليم، إيمانا منه ان التعليم هو الأمن القومى المعاصر لمصر.
ويضع بهاء رئيس الدولة فى مصاف مفكرى التربية، حيث زعم ان ما ورد فى الكتاب يعد انعكاسا لفكر الرئيس فى التعليم، مع العلم بأن الرجل لا ناقة له فى الفكر التربوى ولاجمل ولا يعيب رئيس الدولة ألا يكون صاحب فكر تربوي، وإلا لجاز لوزير الزراعة وفقا للنهج نفسه أن يصفه بصفته عالما فى الزراعة ويراه وزير الأوقاف عالما فى الدين وهكذا!وواضح من هذه الطبعة انها لم تزعم رؤيتها الاستراتيجية بل كانت أقرب ما تكون للكتابات الموجهة نحو إظهار الإنجازت.
وإن القارئ لصفحة 21 ليشعر بقدر عال من الأسى والخجل، مما حاول التقرير تصويره بأن ما تم بناؤه من مدارس يفوق ما تم فى بناء السد العالي، وكذلك الهرم الأكبر.
- الخطة الاستراتيجية القومية لإصلاح التعليم قبل الجامعى فى مصر:
فى وثيقة الخطة 2007 - 2008 - 2011 - 2012 الباب الثانى المعنون بـ(نحو نقلة نوعية فى التعليم) على ثلاثة مجالات رئيسية للخطة هي: جودة التعليمية، الإبداع فى آليات ونظم تقديم الخدمة التعليمية والحاجة للاستمرار فى سد الفجوات التعليم للبنات، وفى المناطق الفقيرة اقتصاديا وتلك المزدحمة بالسكان فى المناطق الحضرية، كما اهتم هذا الباب بوضع إطار عمل ومبادئ ترتكز عليها عملية الإصلاح لتحقيق رؤية ورسالة للوصول إلى جودة تعليم عالية للجميع كأحد حقوق الإنسان الأساسية.
وكان من الواضح أن "مناخ" الخطة متأثر أكثر من اللازم ببعض الأعمال الأجنبية، خاصة فى الولايات المتحدة، ليعكس صورة من صور التأسى بالتفكير الأمريكى المهيمن الآن، كيف؟
نحن نعلم أن الولايات المتحدة هى صاحبة تاريخ قصير للغاية، لا يزيد على قرنين من الزمان إلا بسنوات محدودة، ومن هنا قد لا تجد لديهم احتفاء بالنظر التاريخي، حيث أنها بلا تاريخ بالفعل.
وهكذا تبدأ الخطة الاستراتيجية فى بابها الأول بـ(تحليل الوضع الراهن)، على أساس أن تاريخ الخبرات التعليمية فى مصر لم يبدأ إلا عام 2000، و"من" علينا تقرير الخطة بأن يسوق عنوانا فى الفصل الثانى (ص 33) مؤداه: "التطور التاريخي"، حتى يوهمنا بتوافر الوعى التاريخي، دون دراية بأن هذا ليس تطورا تاريخيا فى حقيقة الأمر، حيث لم يتعد المدى الزمنى 17 عاما. إنه حاضر. وليس ماضيا.
فى ضوء هذا لابد أن ننظر بعين فاحصة، ونلاحظ بدقة عالية هذا الفصل الأول الذى تصدر الخطة، الذى عنوانه (السياق الاجتماعى الاقتصادى والسكاني: مصر عام 2007)، وأول ما يلفت النظر هو هذا العنوان نفسه، فمن المعروف أن صفة "الاجتماعي" تتضمن "السكاني"، مما يعد مؤشرا لهذا المتغير الذى يتم الإلحاح عليه، معلقين عليه كل مشاكلنا وصور التقصير التى نعيشها، أى اختزال "المشكلة السكانية" فى بعد الزيادة السكانية، وهذه قولة حق يراد بها باطل.
وربما ننظر إلى الشعار المدون أسفل الغلاف من النهاية ملقيا "لقطة" سريعة، لكنه ذو دلالة على "الوضع الثقافى والفكرى الراهن"، فهذا الشعار نقرأ فيه بالعامية: (إيدك فى إيدنا. نطور تعليم أولادنا)، وذلك - فيما يبدو - اتساقا مع الشعار الذى رفعه الحزب الوطنى فى مؤتمره سنة 2007، والذى حظى بانتقادات حادة لمجافاته أصول الكتابة والحديث باللغة القومية والوطنية العربية. وإذا كان يمكن فهم بعض الأساليب التى تلجأ إليها التنظيمات السياسية جذبا للأنظار وللجمهور، فلا يصح هذا بالنسبة لوزارة مهمتها الأساسية تنشئة وتربية أولادنا، والتى يأتى فى مقدمة عناصر هذه التنشئة، المعرفة الوافية باللغة الوطنية.
وتناسى القائمون على الوثيقة ان هناك فروقا واضحة بين خطاب التقارير والمذكرات التى تصدرها المكاتب الإعلامية للقطاعات الحكومية، حيث يغلب عليها التفخيم والنفخ فى الإنجازات والتغاضى عن المشكلات والسلبيات، وبين التقارير العلمية خاصة تلك التى تتعلق برسم مستقبل، من حيث ضرورة الالتزام بالحقائق، والنظر بعين الاعتبار إلى مختلف زوايا الرؤية والرأي، أما تزيين الواقع بالوهم وزخرفته بالخيال، فهذا لا نقول إنه لا يساعدنا على التقدم فحسب، بل يدفعنا إلى التراجع، وربما يدفعنا إلى التشكيك فى مدى مصداقية مثل هذه المشروعات.
والمؤكد أن انفتاح باب "النفاق السياسي" للسلطة السياسية على مصراعيه، وتأثير نفوذ جهات التمويل الخارجي، واللعبة السياسية التى لم تكن لها قواعد وأصول تختار بها وتنهى سلطة التعليم، أطاح بكثير من المشروعات، مهما يكن بها من عيوب.
وهذا المطلوب يدعونا إلى استمرار الإلحاح بلا ملل أن يكون هناك ما يشبه مجلس الأمن القومى الخاص بالقوات المسلحة مجلس وطنى للتعليم، يختص برسم استراتيجيات التعليم، يعلو موقع الوزراء المختصين، فتكتسب سياسة التعليم قدرا من الاستقرار النسبى، يبعد عن أجواء السياسة وتقلباتها، خاصة أن البناء هنا هو بناء "بشر" يا ناس، وليس بناء حجارة والذين خططوا ورسموا الاستراتيجيات التعليمية غاب عنهم هم أنفسهم النظر إلى قضية التعليم، باعتبارها قضية "ثقافية"، مما يفسر مغزى أن يكون مشروع طه حسين لتطوير التعليم بعنوان (مستقبل الثقافة فى مصر)، ونقصد بذلك أن تشمل تلك النظرة التكوين العقلى والفكرى والوجدانى والمهارى.
أخبارك بالمصري "موقع اخبارى متخصص فى نقل الأخبار بكل حياديه"