جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
فى البدء كان السحر يفسر ظواهر الطبيعة ويعالج مشكلات الحياة ويصون صحة الإنسان، ثم ارتقى الفهم الإنسانى إلى ضرورة وجود الدين، لأنه لا بد أن يكون هناك إله يدبر وينظم حركة هذا الكون، وقبلهما كانت الكلمة هى الأصل والفصل والعقل، ومن الكلمة خرج الفن والشعر والأدب وخرجت السياسة.. ، ولهذا فإن إشكالية الدين والسياسة قديمة ومعقدة قدم الكون، لأن الكاهن منذ بداية التاريخ كان جزءا من قصر الملك الإله، إلى أن بزغ التوحيد على أرض مصر وظهرت الأديان السماوية الثلاثة.
وفى المسيحية سيطرت الكنيسة على الممالك الأوروبية فى العصور الوسطى، فأفسدت الدين وأفسدت السياسة، وكانت الحرب الصليبية ومحاكم التفتيش وصكوك الغفران، إلى أن ظهرت صيحة التجديد داخلها تقول إن ما لقيصر لقيصر وما لله ينبغى أن يكون لله، وترسم الحدود الفاصلة بين الدين والسياسة، تضع الدين فى دائرة المطلق التى يحكمها الكفر أو الإيمان لثبات شرائعه وأحكامه، وتضع السياسة فى دائرة النسبى التى يجوز فيها الصواب والخطأ، لأن السياسة إنجاز إنسانى تحكمه متغيرات عديدة يمكن أن تقبل الحلول الوسط، وما هو صحيح اليوم يمكن أن يثبت خطؤه غدا.
وفى ألمانيا حدث نوع من التعايش بين الدين والسياسة من خلال أحزاب سياسية توافقت على الفصل بينهما، على أن تكون القيم الدينية عناصر أساسية لتحسين سلوك الإنسان واجبة الاحترام، تقوم عليها برامج تعليم دينية تشرف عليها الكنيسة البروتستانتية، مع التزام الدولة بتحقيق شراكة متساوية مع كل المجتمعات الدينية داخلها، تؤكد على حرية الاعتقاد الدينى واحترام دور العبادة، وتمكين الجميع من أداء شعائرهم، والقبول بالقوانين الوضعية ناموسا يحكم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تعبيرا عن إرادة الشعوب، المصدر الوحيد لشرعية الحكم بعد أن تم الفصل بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، لأن اجتماع الاثنتين فى سلطة واحدة أدى إلى فساد الدين وفساد السياسة!
وفى الفكر الإسلامى لم يحدث الشىء نفسه، وتأخر تنظيم العلاقة بين الدين والسياسة، بعد أن اقتصرت حركات التجديد على المظهر دون الجوهر وعلى الفروع وليس الأصول، تحت ضغوط الأصوليين الذين يرون أن الإسلام دين ودولة وسيف ومصحف، رغم أن الإسلام لم يحبذ الدولة الدينية ولا يدعو إليها، لذلك ظل الخلط والاستخدام المتبادل بين الدين والسياسة قائما حتى عصرنا الراهن يفسدهما معا، وعندما نجحت تركيا تحت حكم رجب الطيب أردوغان فى تحقيق معدلات تنمية عالية غيرت وجه الحياة هناك، مع الحفاظ على علاقات تركيا الأطلنطية والإسرائيلية والتزامها بحلف الناتو، سارع الغرب إلى ترويج النموذج التركى باعتباره المثال الذى يمكن أن يصنع مستقبل العالم الإسلامى، ويحل إشكالية الدين والسياسة، خاصة فى دول الشرق الأوسط، لكن طغيان أردوغان واستبداده بالرأى ونزوعه الدائم إلى حكم الفرد، أثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن التجربة التركية ليس لديها الكثير الذى يمكن أن تقدمه لمصر كدروس مستفادة فى قضية الديمقراطية!
وربما يكون تأويل النص الدينى وسوء فهمه جزءا من إشكالية الدين والسياسة، منذ عصر الخوارج إلى زمن جماعة الإخوان المسلمين، الذين اعتبروا أنفسهم جماعة دعوية، ما لبثت أن تحولت إلى جماعة سياسية بعد ثلاث سنوات فقط من نشأتها، يدخل ضمن أهدافها الوصول إلى الحكم، بدعوى أنهم وحدهم المؤهلون قبل غيرهم باعتبارهم إخوانا مسلمين، لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية التى هى دين ودولة وإعادة حكم الخلافة! غير أن جماعة الإخوان المسلمين كانت منذ البداية جماعة ميكيافيللية استخدمت العنف والاغتيال وسيلة لتحقيق أهدافها منذ الأربعينات، واصطدمت بكل نظم الحكم فى مصر، ومن تحت معطفها خرجت كل تنظيمات الإرهاب، ابتداء من صالح سرية الذى نظم مؤامرة الفنية العسكرية وشكرى مصطفى مؤسس التكفير والهجرة إلى إبراهيم فرج مؤسس جماعة الجهاد إلى الجماعة الإسلامية ثم تنظيم القاعدة، وتحت خيمتها نما الفكر القطبى التكفيرى، وتعمقت ازدواجية دورها الذى جعل لها وجها فى العلن هو وجه الدعوة، وآخر فى السر تقوم عليه تنظيمات خاصة كانت دائما الذراع الفاعلة فى حركة جماعة الإخوان، هى التى تقتل وتدمر.
إلى متى تظل مشكلة الخلط بين السياسة والدين تنتج هذا العنف المدمر الذى أساء إلى صورة الإسلام، وأحال السياسة فى مصر إلى مسرح عبثى تحكمه الفوضى والابتزاز والعنف؟ وهل يحتاج الفصل بينهما إلى ثورة فى الفكر الإسلامى كما حدث فى الغرب، تعطى للناس ما للناس باعتبارهم أدرى بدنياهم، وتعطى لله ما لله، أم أن التطور الطبيعى والانحسار المتزايد للأيديولوجية الدينية يمكن أن يخفف من وطأة هذه المشكلة، خاصة أن ثمة دستورا جديدا فى مصر يمنع قيام الأحزاب على أسس دينية، ويحظر استخدام دور العبادة فى الترويج لدعاية حزبية وسياسية؟
ولا تتوقف أخطار الخلط بين الدين والسياسة عند حدود إهدار تكافؤ الفرص بين الأحزاب والقوى السياسية فى المجتمع، وقسمتها إلى حزب لله يضم الجماعة وأنصارها فى مواجهة أحزاب الشيطان! واستخدام دور العبادة للترويج لدعاوى حزبية وسياسية أو أماكن للاعتصام وإخفاء الأسلحة، وخداع جماهير الناخبين البسطاء بشعارات فضفاضة من نوع (الإسلام هو الحل)، لكن آثار هذا الخلط السيئ تمتد إلى إفساد القيم الدينية التى خالطها الكثير من الاستخدام السياسى، عندما تمادت جماعة الإخوان وحلفاؤها فى تأويل النص الدينى وإصدار فتاوى مضللة تخدم أهدافهم، وعندما أثاروا الفتن داخل المساجد وشنوا حربهم الضروس على أئمة الأزهر، وعندما أساءوا تفسير معنى الجهاد حتى أصبح الجهاد يعنى الحرق والتدمير والعدوان على الممتلكات العامة والخاصة، وحرق الكنائس ومقار الحكومة، وتخريب المؤسسات التعليمية وتعطيل الدراسة واحتجاز رؤساء المعاهد العلمية والاعتداء عليهم، وقطع الطرق، وتعذيب وتكفير المخالفين، وتلطيخ الشوارع بأقذع السباب، ومعاداة الجيش الذى يدافع عن أمن مصر، وضرب أجهزة الأمن كى يسهل لهم السيطرة على الشارع المصرى! ومع الأسف تستغل هذه الجماعات الدين أسوأ استغلال عندما تمد نشاطها إلى أجيال مصر الجديدة، تربيهم منذ الصغر على عدم احترام علم البلاد، وإهدار معنى الوطنية، والاجتراء على الدولة والقانون، وتدربهم على استخدام العنف باسم الدين فى غيبة الأسرة والمدرسة والدولة، التى لا تراقب خطط هذه الأحزاب فى تربية شبابها، وتعطى لها الحق فى إنشاء مدارس خاصة، توجه تلاميذها الوجهة التى تريدها الجماعة، وتغرس فيهم رؤى خاطئة لمفاهيم الدين تحض على العنف.
وما من شك أن واحدا من التحديات الحقيقية التى تواجه الدستور الجديد هو إعادة تحديد العلاقة بين الدولة وقوى الإسلام السياسى، وتنظيم العلاقة بين الدين والسياسة على أسس واضحة، بحيث لا يصبح للأحزاب الدينية امتياز خاص تتفرد به، يضرب تكافؤ الفرص بين جميع الأحزاب، بدعوى أن الإسلام دين الدولة الرسمى، لأنه فى السياسة يجب أن تتساوى حقوق جميع الأحزاب وواجباتها دون تمييز، بحيث يخضع الجميع لحكم القانون ويعترف الجميع بأن الأمة وحدها هى مصدر كل السلطات، وأن الصواب والخطأ هما معيار المفاضلة بين موقف سياسى وآخر وليس الكفر أو الإيمان، وأن حقوق المواطنة دون تمييز بسبب الجنس أو اللون أو العرق أو الدين هى أساس وحدة المجتمع، وأن العلانية والشفافية ونبذ العنف هى الأصل فى العمل الحزبى، بما يمنع قيام ميليشيات سرية وتشكيلات مسلحة داخل هذه الأحزاب.
وإذا كانت إسرائيل تصر على أن تكون دولة دينية يهودية كى تتخلص من سكانها العرب بالعنف أو السياسة فى أى تسوية قادمة، فمن واجب المصريين أن يحافظوا على مدنية الحكم فى دولتهم، لأن الدولة الدينية بطبيعتها دولة عنصرية تقوم على فكرة شعب الله المختار، ولا تنهض على أساس حقوق المواطنة للجميع، لكنها تنهض على أسس عنصرية تميز بين المواطنين، والدولة الدينية لا يمكن فى النهاية إلا أن تكون دولة طائفية، ينخر وحدتها تمييز طائفة على أخرى.
ولست أعرف إن كان إقرار الدستور الجديد الذى يمنع قيام الأحزاب السياسية على أسس دينية، سوف يلزم السلفيين وبقايا جماعة الإخوان وكل الأحزاب الدينية بإعادة النظر فى برامجها وأهدافها وأدواتها وخطابها السياسى وطرق تربيتها لكوادرها من الشباب، التى ينبغى أن تتم تحت بصر الدولة ورقابتها، بحيث تتساوى كافة الأحزاب فى الخضوع لحكم القانون، يراجع موازناتها الجهاز المركزى للمحاسبات، ويلتزم جميعها الشفافية والعلانية واحترام بنود الدستور، وقبول رأى الأغلبية متى تم إقراره، وتجريم العنف وسرية التنظيم، والتزام الشرعية سبيلا للوصول إلى الحكم، والامتناع المطلق عن تشكيل ميليشيات وسرايا مسلحة، وقبل كل ذلك الإيمان بأن الأمة هى مصدر كل السلطات، والامتناع عن تكفير خصومها السياسيين، لكن الذى أعرفه على وجه اليقين أن الدولة مسئولة عن تطبيق النص الدستورى الجديد بكل دقة والتزام، بحيث ينتفى وجود أحزاب سياسية فى مصر تؤسس لدولة دينية طائفية تخلط بين الدين والسياسة، وتعطى لنفسها امتيازات لا تستحقها، وتشق البلاد وتثير الفتن، وتضرب حقوق المواطنة وتمزق وحدة الأمة، وتبيع أوطانها لأهداف جد خاطئة ورخيصة.
أخبارك بالمصري "موقع اخبارى متخصص فى نقل الأخبار بكل حياديه"