جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
إذا كنا نريد للثقافة المصرية أن تستعيد عافيتها، وأن تعود سيرتها الأولى وتنهض من جديد فعلينا قبل كل شيء أن نسأل أنفسنا عما تعنيه لنا الثقافة، ولماذا نحتاج اليها؟
الكثيرون منا يختزلون الثقافة فى وجه واحد من وجوهها هو الإنتاج الأدبى والفني، ويختزلون بالتالى وظيفتها فيحصرونها فى الإمتاع والتسلية. والثقافة إذن فى نظر هؤلاء الكثيرين هى ما تقدمه دور النشر ودور العرض من كتب ومسرحيات وأفلام وصور، فإذا تحقق هذا فكل شيء على ما يرام.
غير أن الثقافة أوسع مجالا وأشد خطرا وأعظم تأثيرا من أن تحصر فى مجال واحد من مجالات الحياة الإنسانية. لأن الحياة لا تكون إنسانية إلا بالثقافة. الإنسان بغير الثقافة حيوان. وبها يصبح حيوانا عاقلا أى إنسانا. ولأن الإنسان يفكر ويعبر ويتذكر ويتصور ويتخيل ويحلم فهو بهذا النشاط يمارس حياته ويعقلها فى آن معا. ولأن الإنسان لا يعيش بنفسه فقط بل يعيش بنفسه وبغيره، فالحياة انفراد واجتماع. إبداعات فردية من ناحية، وحرف وصنائع وأفكار وعقائد ونظم وأخلاق وعادات وتقاليد من ناحية أخري. الثقافة هى هذا كله. ما يسهم به كل فرد وما نشارك فى انجازه مجتمعين. ما نغير به حياتنا من الأفكار الجديدة والمغامرات الجريئة والأعمال المبتكرة، وما نتأثر به نحن ونتشكل بفضل التراث الذى ننبع منه وننتمى إليه.
باختصار. الثقافة هى الحياة الإنسانية حين تتحول الحياة الى صور ورموز وأفكار وخبرات يجب أن نعرفها ونضع أيدينا عليها ونتمثلها لنعرف أنفسنا ونشارك فى صنعها، ولنعرف العالم ونشارك فى صنعه. فهل نحن نعرف أنفسنا؟ وهل نتحكم فى مصيرنا؟
أظن أن النفى هو الجواب الصحيح. وما علينا إلا أن نسأل أنفسنا من نحن لنرى أن الإجابات متعددة مختلفة وربما كانت متناقضة متضاربة أيضا.
نحن مصريون. لكن الكثيرين منا يعتبرون هذا التعريف مجرد اسم، جنسية، كلمة تكتب فى بعض الأوراق الرسمية. فإذا سألتهم عما يعنيه لهم هذا الاسم او عن شخصية مصر احتاروا وتفرقت بهم السبل.
سيقول معظمنا أننا مسلمون. ولاشك أن معظمنا مسلمون . لكن المغاربة أيضا مسلمون، والباكستانيون، والإيرانيون، والسنغاليون. ثم إننا لسنا جميعا مسلمين. المسيحيون المصريون يعدون بالملايين.
وبعض المصريين يهود. وبعضهم بهائيون. وبعضهم لا علم لى بعقيدته الدينية لأن العقيدة الدينية شأن خاص. ومصر لم تبدأ حياتها بالمسيحية او بالإسلام. مصر بدأت حياتها قبل أن تظهر الديانات السماوية الثلاث، فى الألف الخامس قبل الميلاد، أى قبل أن يظهر اليهود على مسرح التاريخ بأكثر من ثلاثة آلاف عام. وهم لم يكن لهم تاريخ قبل أن يأتوا الى مصر.
وبعضنا او كثيرون منا يقيسون تاريخ مصر على تاريخ العرب فيعتبرون ما سبق الفتح العربى جاهلية، وهو اعتبار لا يستند إلا للجهل بما كانت عليه مصر من تقدم روحى ومادى لا تزال صوره وآثاره وأسراره تبهر العالم حتى اليوم. ويكفى هنا أن نقول إن أهم ما جاءت به الديانات كان عقائد مصرية سابقة على ظهور هذه الديانات. التوحيد، والعالم الآخر، والبعث، والحساب، والضمير، وقيم الخير، والعدل، والحق والجمال.
فإن خرجنا من العصور الفرعونية ودخلنا ما بعدها فسوف نجد أن مصر المقدونية والرومانية والبيزنطية ظلت مرتبطة بأوروبا سياسيا واقتصاديا وثقافيا من القرن الرابع قبل الميلاد الى القرن السابع بعده، أى نحو ألف عام.
وقد يظن البعض أن الفتح العربى أنهى علاقة مصر بأوروبا وبعالم البحر الأبيض المتوسط، وهذا وهم، لأن الفتح العربى تجاوز مصر الى المغرب والى اسبانيا والى جزر ايطاليا وشواطئها الجنوبية. ويكفى أن نتذكر هنا أن القائد الفاطمى الذى أسس القاهرة وهو جوهر الصقلى كان ايطاليا. وأن الإسكندرية التى أسسها لاسكندر المقدونى أصبحت فى العصور الإسلامية مهجرا مفضلا لفقهاء الأندلس وشعرائها ومتصوفيها.
المرسى أبوالعباس من مرسية، والشاطبى من شاطبة. وكما انتزع الإسكندر مصر من الفرس ومكنها من استعادة استقلالها تحت حكم البطالمة انتزعها مقدونى آخر هو محمد على من الأتراك العثمانيين ومكنها فى هذا العصر من أن تستعيد استقلالها الضائع وتبنى لنفسها دولة وطنية حديثة.
هكذا يجب أن نفهم تاريخنا الحديث. وفى هذا السياق يجب أن نراه، لنعرف أنه لم يكن إضافة مفروضة علينا من الخارج كما يظن الجهلاء والمتعصبون، بل كان عناصر إلتأمت واتحدت وكان خلايا نائمة عادت للحياة ووصلت الماضى بالحاضر.
لكننا لا نعرف تاريخنا لا الحديث ولا القديم. ولأننا نجهل تاريخنا فنحن نجهل أنفسنا. ولأننا نجهل أنفسنا او نسيء معرفتها فنحن نتخبط ونتعثر ونقع فى الخطأ ونكرره لأننا حين نجهل الماضى نجهل الحاضر ونجهل المستقبل. وحين نجهل أنفسنا نجهل غيرنا.
وحين نخاصم المعرفة نخاصم الحياة ونصبح مهددين بالانقراض، إن لم ننقرض بأجسادنا انقرضنا بعقولنا وأفئدتنا، أى فقدنا إنسانيتنا وعدنا كما كنا فى العصور السحيقة كائنات تأكل وتتناسل، لكنها وقد جهلت نفسها فقدت نفسها.
نعم. حين نجهل أنفسنا نفقد أنفسنا ونضيع ما اكتسبناه فى تاريخنا العريق الحافل. الروابط التى تجمع بيننا، والدولة التى تمثلنا، والقوانين التى تنظم حياتنا، والثقافة التى تكسبنا شخصيتنا التى بها ننتمى لمصر، وينتمى كل مصرى لغيره من المصريين.
وهذا ليس محض أفكار او نظريات، وإنما أصف الواقع الذى نعيشه فى هذه الأيام وتعيشه معنا الشعوب الشقيقة.
الثقافة المصرية التى ازدهرت خلال القرنين الماضيين، وازدهرت معها الحياة المصرية والحياة العربية كلها فى السياسة والاجتماع والاقتصاد تراجعت فى العقود الأخيرة وفسدت وتراجعت معها حياتنا كلها وفسدت.
نحن فى العقود الأخيرة فقدنا ما كنا نملكه من الحرية ، ولهذا فقدنا ما كنا نملكه من القدرة على الإبداع والتجديد، وما كنا نملكه من القدرة على الحوار والتفاهم، وما كنا نملكه من القدرة على التآخى والتضامن، وما كنا نملكه من القدرة على التقدم. فإذا أردنا أن نستعيد ما فقدناه فلنعلم أنه لا ثقافة بلا حرية، ولا حرية بلا قانون، ولا قانون بلا دولة ، ولا دولة بدون ديمقراطية .
الثقافة إذن ليست سلعا ننتجها ونستهلكها. الثقافة هى حياتنا التى نعيشها كما نكون تكون ثقافتنا. وكما تكون نكون.
أخبارك بالمصري "موقع اخبارى متخصص فى نقل الأخبار بكل حياديه"