إطلاق عبارة الإسلام السياسى على الجماعات والأحزاب التى تنطلق من المرجعية الإسلامية ينبغى أن يتغير لكى نتحدث عن الإسلام الليبرالى. هذا المنطوق ليس لى، لكنه صادر عن أحد المثقفين البارزين فى مصر، الأستاذ السيد يسين، الذى كان دائم النقد للحركات الإسلامية طوال السنوات الماضية، لكنه أدلى بشهادته تلك فى مقالة نشرتها له صحيفة «الشرق الأوسط» (فى 11/12) تحت عنوان «صعود الإسلام الليبرالى». وقد خصصها للتعليق على التطورات التى حدثت فى تونس والمغرب ومصر، والتى حقق فيها الإسلاميون فوزا مشهودا فى الانتخابات.
فى عرضه للفكرة استشهد الأستاذ يسين بكتابين لانثنين من الباحثين الأمريكيين، أحدهما عالم السياسة ليونارد بايندر، الذى أصدر فى عام 1988 كتابه «الليبرالية الإسلامية. نقد لايديولوجيا التنمية». وذهب فيه إلى أن هناك نوعين من الليبرالية الإسلامية. الأول يرى ان إقامة هذه الدولة ممكنة، إذ باستثناء النص على قيمة «الشورى»، فلا توجد نصوص أخرى فى المرجيعة الإسلامية تتناول الأمور السياسية. وإزاء صمت الفقه الإسلامى التقليدى عن معالجة نظم الدولة، فإن الباب ظل مفتوحا لإقامة دولة إسلامية ليبرالية يختار فيها المواطنون مؤسساتهم السياسية كما يريدون، دونما حاجة للجوء إلى فصل الدين عن الدولة.
النوع الثانى فى رأى الباحث الأمريكى هو ذلك الذى يلجأ إلى إقامة مؤسسات سياسية ليبرالية (كالبرلمان والانتخابات والحقوق المدنية) باعتبار أنها لا تتناقض مع أية نصوص دينية، بل يمكن أن تعد تطبيقا لبعض المبادئ التى استقرت فى عهد الخلفاء الراشدين. وقد علق الأستاذ يسين على ذلك بقوله أن هذه الاتجاهات المتنوعة فى مجال الليبرالية الإسلامية جعلت بعض الباحثين المتخصصين أكثر تفاؤلا بنمو تيار الإسلام الليبرالى وصعوده. ومنهم من قال بأن الإسلاميين الحداثيين أصبحوا أكثر إسلاما، فى حين أن الإسلاميين الأصوليين أصبحوا آكثر ليبرالية. وقد اعتبر الكاتب أن هذه الإشارة التى سجلها بايندر فى عام 1988 ربما كانت نبوءة مبكرة تحققت فى عام 2011 الذى شهد صعودا مؤكدا للإسلام الليبرالى.
الكتاب الثانى الذى جرى الاستشهاد به لباحث آخر من علماء السياسة الأمريكيين هو راموند وليام بيكر، الذى كان أستاذا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، الأمر الذى أتاح له أن يكون على مقربة من تيارات الفكر الإسلامى المعاصر. وقد أصدر فى عام 2003 كتابا تحت عنوان دال هو: إسلام بلا خوف ــ مصر والإسلاميون الجدد ــ المعاصر. وكانت فكرته الأساسية هى أن التيار الإسلامى فى تحولاته المعاصرة لا ينبغى أن يثير الخوف سواء فى داخل المجتمعات الإسلامية أو فى البلاد الغربية، بعدما اتجه أنصار الإسلام السياسى إلى الليبرالية وفق اجتهادات متنوعة.
كانت مجلة «جين افريك» الصادرة باللغة الفرنسية قد امتدحت فى عددها الأخير حزب النهضة التونسى. واعتبرت أن توجهاته الليبرالية تمثل تطورا مهما فى مشروعه الفكرى. وحين أثرت الموضوع مع الشيخ راشد الغنوشى رئيس الحزب أثناء زيارتى الأخيرة للعاصمة التونسية كان رده أن ما نحاول تطبيقه الآن على أرض الواقع هو ذاته الذى كنا نتحدث عنه فى الثمانينيات. وكل الذى حدث أنهم ظلوا طوال السنوات التى خلت ينظرون إلينا بنظارة سوداء، فرأونا إرهابيين ومتطرفين وظلاميين. لكنهم حين خلعوا النظارة بعد إعلان نتائج الانتخابات رأوا فينا ما لم يروه من قبل، فى حين أننا لم نتغير.
ما أريد أن أقوله أن الاتجاهات اليبرالية موجودة فى الساحة الإسلامية التى شهدت تطورات إيجابية بالغة الأهمية خلال الثلاثين سنة الأخيرة. وهذه التطورات لم تكن فقط استجابة للواقع، لكنها كانت أيضا رد فعل على موجات التشدد والعنف التى انتسبت إلى الإسلام واساءت إليه فى تلك الفترة. ولا أريد أن أعدد الإسهامات الايجابية التى أقصدها، لأنها أكثر من أن تحصى، لكنى فقط انبه إلى أن الأستاط سيد يسين استشهد باثنين من الباحثين الغربيين أحدهما تحدث عن الليبرالية الإسلامية منذ 23 عاما والثانى درس الموضوع منذ 18 عاما، وهناك آخرون غيرهما بطبيعة الحال فى الولايات المتحدة وأوروبا، ممن هم أكثر انصافا وحيادا من شرائح واسعة من الباحثين العرب الذين لايزالون يقرأون الظاهرة الإسلامية بنظاراتهم السوداء، ويصرون على ألا يروا فى الكوب سوى نصفه الفارغ، ويحصرون خياراتنا بين طالبان وإيران والسودان ــ هل يسوغ لنا ذلك أن نقول أن الظلاميين الحقيقيين هم اولئك الذين لا يريدون أن يخلعوا النظارات السوداء التى يرون بها الآخرين
ساحة النقاش