التقدم الحضاري ثقافياً وأخلاقياً
هدف واقعي أم خيال ؟
أ.د. محمد ماهر الصواف
تواجه مصر والكثير من الدول النامية صعوبات كبيرة في تحقيق التقدم والتنمية ويعاني المجتمع بها من اتساع دائرة الفقر والتخلف وذلك مقارنة بالدول المتقدمة التي تعيش في مستويات عالية من التقدم العلمي والتكنولوجي، ويتساءل البعض: هل نحن مُتخلفون بالفطرة ؟ وما هي أسباب ما نعانيه من مُشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية ؟ وكيف تغلبت الدول الأوروبية المتقدمة علي التخلف والفقر؟
وإذا راجعنا التاريخ سنجد أن الدول الأوربية عاشت في العصور الوسطي ظلاماً علمياً وفكرياً ، فقد كان العلم والثقافة حكراً على رجال الدين وأتباعهم ، وهم اللذين يتحكمون في حياة الناس و طريقة تفكيرهم ، وكان من يخالفهم يتهم بالكفر والهرطقة ويتعرض للتعذيب والمحاكمة وتشويه السمعة. وترتب علي هذه الأوضاع انحدار مستوى التفكير، و أخذ الإيمان بالغيبيات مكان التفكير العلمي والمنطقي السليم، وفي ظل هذه الظروف انحدرت الثقافة و انتشر التخلف و أصبح الناس لا يفكرون في تحسين معيشتهم.
وقد تمكن الأوروبيون من التغلب علي هذا التخلف والانحدار الثقافي والأخلاقي في عصر التنوير مع نهاية القرن الثامن عشر، واستطاعوا بناء نموذجاً حضارياً مدنياً فيما بعد ، وأخذ في التطور والنمو شيئاً فشيئاً حتى أصبح بعد مرور فترة طويلة من الزمان جزءاً من الثقافة المجتمعية ، وترسخ في النسيج المجتمعي وأصبح مستقراً في تفكير وسلوك الناس.
ويمكن القول أن أهم المقومات الأساسية لهذا النموذج الحضاري ما يلي:
- الانحياز إلي العقل والعلم وعدم الاعتماد علي الحقائق الغيبية في تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية المختلفة ، وتبني المنهج التجريبي في البحث العلمي لدراسة المشكلات الاجتماعية والصحية والاقتصادية وتطوير مناحي الحياة .
- الاهتمام بتنمية القيم الأخلاقية بين الناس جميعاً دون تحديد مصدرها الديني، وإعلاء قيم العدالة والمساواة بينهم دون تمييز بسبب الدين أو اللون أو الجنس أو العرق ، ووفقا للقانون.
- رفض صور العلاقات الاجتماعية التقليدية القائمة علي الولاء القبلي والعشائريوالطائفي . وإحلال الشعور بالمواطنة والقومية محلها وتنمية ثقافة الحق و الواجب.
- الاعتراف بقدرات الإنسان الذهنية المبدعة في كافة المجالات وإعلاء مبدأ الكفاءة في تقلد الوظائف، والحرص علي إتاحة المعرفة للجميع، والشفافية الكاملة للبيانات الرسمية مع مراعاة اعتبارات الأمن القومي .
- تبني النظام الديمقراطي، وفكرة العقد الاجتماعي ، و دولة القانون، والتزام السلطات بالمحافظة علي حقوق الإنسان وكرامته ، و الدفاع عن حقوقه الطبيعية الإنسانية.
- الدافع عن حرية التعبير و الفكر والبحث العلمي في حدود القانون ودون الإضرار بالغير .
لا شك أن مصر عرفت بعض هذه المقومات، وأنشأت الدساتير المصرية مؤسسات سياسية تتشابه مع المؤسسات الأوربية ، وتم ممارسة بعض التجارب الديمقراطية في الحكم ومشاركة الشعب في اختيار رئيس الدولة, كما حرص الدستور علي النص علي حقوق الإنسان واحترام حريات وكرامة الإنسان , وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو الجنس أو اللون .
إلا أن الواقع الفعلي يشير إلي أن هناك ضعف في تفعيل المبادئ الدستورية وإعلاء قيم العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان سواء من مؤسسات الدولة أو من الأفراد والجماعات ، ولم يترسخ حتى الآن في النسيج المجتمعي كيفية احترام حقوق الآخر المالية أو الأدبية ، وثقافة احترام القانون ، والتمسك بالقيم الأخلاقية التي فرضتها الشرائع السماوية من صدق وتسامح والالتزام بالوعود وغيرها من الأخلاقيات الحميدة ، واتجه الأفراد في مصر بدلا من ذلك إلي التمسك بالمظاهر الخارجية وبالشكليات الدينية والمجتمعية والتفاخر بممارستها، وانتشرت البرامج الدينية التي تستضيف رجال الدين لشرح كيفية ممارستها ، وفرض آراء فقهية معينة ، وتكفير كل من لا يلتزم بها.
وللأسف نلاحظ في نفس الوقت أن القلوب خاوية من مخافة الله ومن حضوره ، لذا انتشرت السلوكيات السلبية وتعود الناس علي النفاق، وغابت الضمائر في المعاملات، وأصبح التعدي علي حقوق الغير و الغش والفساد بكل الصور مألوف ومقبول اجتماعياً، كذلك من اللافت للنظر انه مازال ينتشر الولاء العائلي والديني، الطائفي , وتمييز أهل الثقة والأقارب في شغل المناصب والوظائف العامة مما يؤثر سلباً علي الشعور بعدم العدالة و المواطنة.
وفي تقديري أن النقص في توافر المقومات المشار إليها عاليه سيضعف حتماً من إمكانية تحقيق التنمية والتقدم المأمول ، ونعتقد انه يجب علي مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والإعلام الاهتمام بدراسة هذه المقومات وبحث إمكانية تطبيق هذا النموذج الأوربي تدريجياً ، ودون إغفال الجوانب الدينية بما تتضمنه من قيم ومبادئ سامية. ويعد من أهم أولويات هذه المرحلة ما يلى :
- الحرص علي تطبيق القانون بحزم ودون أي تمييز بين المواطنين،
- ووضع المناهج الدراسية والثقافية التي ترسخ الأخلاقيات الحميدة في نفوس المواطنين لإيقاف هذا الانحدار الأخلاقي المتواصل،
- كذلك لابد من تبني أساليب التعليم التي تشجع علي استخدام العقل وتنمية القدرات الإبداعية والفكرية.
- حسن اختيار القادة ممن يتسم بالأمانة والوطنية والكفاءة والقدرة والمهارات الفكرية .
والله الموفق.