شرح الدعاء
( اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ))([1]).)
المفردات:
الفلق: بسكون اللام, وهو الشق .
الشرح:
هذا دعاء عظيم، ذو شأن كبير؛ لما فيه من التوسلات العظيمة إلى اللَّه تبارك وتعالى بربوبيته لكل شيء, والتي منها الأجرام العظيمة من السموات السبع, والأرضين السبع, وأعظم المخلوقات العرش العظيم, وبإنزاله لكلامه العظيم، ووحيه المبين، بأن يحفظه من جميع الشرور, كما اشتمل على التوسل إلى اللَّه جل وعلا ببعض أسمائه الحسنى الجليلة، الدالة على كمال صفاته العظيمة، بأن يقضي عن الإنسان دينه، ويغنيه من الفقر.
قوله: ((اللَّهم رب السموات السبع, ورب الأرض، ورب العرش العظيم)): أي يا خالق هذه الكائنات العظيمة ومبدعها، وموجدها من العدم, وخُص بربوبيته لهذه المخلوقات بالذكر؛ لعظمها وكبرها, ولكثرة ما فيها من الآيات البينات, والدلالات الباهرات على كمال خالقها وعظمة مبدعها([2])، قال اللَّه تعالى: "لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"([3]).
وقوله: ((رب العرش العظيم)) توسل بربوبيته لأعظم المخلوقات كما روى عبد الرحمن بن زيد قال: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس))، قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ، إِلَّا كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاةٍ مِنَ الْأَرْضِ))([4])، والكرسي أكبر من السموات و الأرض "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ"([5])، فانظر رحمك اللَّه إلى عظم هذا العرش العظيم بهذه العظمة والسعة والمجد، فكيف بخالقه وموجده ومبدعه؟ تبارك ربنا وتعالى الذي"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" .
وقوله: ((فالق الحب والنوى)): منه الفلق، وهو الشق أي: شاق حبة الطعام والنوى، وهي: عجمة التمر؛ لتخرج الأشجار والزروع؛ فإنَّ النباتات إما أشجار أصلها نوى، أو زروع أصلها الحب، فاللَّه سبحانه وتعالى لكمال قدرته، وبديع خلقه هو الذي يفتح هذا الحبّ والنوى اليابس الذي كالحجر لا ينمو ولا يزيد، فينفرج وتخرج منه الزروع العظيمة، والأشجار الكبيرة، وفي هذا آية باهرةٌ على كمال المبدع، وعظمة خالقه سبحانه وتعالى كما قال اللَّه تعالى: "إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ"([6])([7])، ((والتخصيص في ذكرهما إما لفضلهما، واحتياج كل الخلائق لهما، أو لكثرة وجودهما في ديار العرب))([8]) ، ولا شك أن كلا الأمرين متعين فيهما.
قوله: ((ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان)): فيه توسُّل إلى اللَّه عز وجل بإنزاله لهذه الكتب العظيمة المشتملة على هداية الناس، وفلاحهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وخص هذه الكتب الثلاثة؛ لأنها أعظم كتب أنزلها اللَّه تعالى، وذكرها مرتبة ترتيباً زمنياً، ((والفرقان)) هو القرآن([9])، وسُمِّي فرقاناً لأنه يفرق بين الحق والباطل، وفي هذا دلالة على أن هذه الكتب من كلام اللَّه، أي صفة من صفاته، وهي صفة الكلام العظيمة، وهي صفة ذات وفعل، ولهذا فرق جل وعلا في هذا الدعاء بينهما، ففي المخلوقات قال: ((رب)) و((وفالق))، وفي كلامه ووحيه قال:((مُنزل))؛ لأن كلامه تعالى غير مخلوق.
ثم شرع بسؤال مطلوبه بعد ذكر هذه الوسائل العظيمة طمعاً في حصول الإجابة.
قوله: ((أعوذ بك من شرِّ كل شيء أنت آخذ بناصيته)): شملت هذه الاستعاذة على كل الشرور، فإن (كل) من صيغ العموم، (شيء) أعم العمومات، فما من شر إلا وقد استعيذ منه. وأعوذ: أي ألتجيء، وأعتصم بك، وأحتمي بجانبك: فمن استعاذ بك عذته.
قوله: ((ومن شر كل دابة)) الدابة: هي كل ما يدبُّ على الأرض، وهو يشمل الذي يمشي على بطنه، أو على رجلين، أو على أربع، كما قال تعالى: "وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"([10]).
قوله: ((أنت آخذٌ بناصيتها))، والناصية هي مقدم الرأس، فيه دلالة على أن كل المخلوقات داخلةٌ تحت قهره وسلطانه وتصرفه قادرٌ عليها، يتصرف فيها كيف يشاء، ويحكم فيها ما يريد عز شأنه.
ثم شرع في التوسل ببعض أسمائه الحسنى، وصفاته العظيمة العُلا فقال: ((اللَّهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)): أي يا اللَّه، أنت الأول الذي لا شيء قبلك، ولا معك، وأنت الآخر الباقي بلا انتهاء، بعد فناء كل شيء، وأنت ((الظاهر فليس فوقك شيء )): أي أنت العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منك، (( وأنت الباطن)): أي أنت المطلع على السرائر والضمائر والخبايا والخفايا، وأنت المحتجب عن الخلق، فلا يقدر أحد على إدراك ذاتك مع كمال ظهورك.
ومدار هذه الأسماء الأربعة على بيان إحاطة الرب Iسبحانه وتعالى وهي إحاطتان: زمانية ومكانية، أما الزمانية فقد دل عليها اسمه الأول والآخر، والمكانية فقد دل عليها اسمه الظاهر والباطن، وهذا مقتضى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ولا تفسير أكمل من تفسيره([11]) .
قوله: ((اقض عنَّا الدين)) فبعد تلك التوسلات الجليلة من أسمائه العليَّة شرع في السؤال والطلب: أي أدِّ عنا الحقوق التي بيننا وبينك، والحقوق التي بيننا وبين عبادك، وفي هذا تبرؤ العبد من الحول والقوة، وأنه لا حول له ولا قوة له إلا باللَّه العظيم.
قوله: ((وأغننا من الفقر)) الغنى: هو عدم الحاجة لوجود الكفاية، والفقر: خلو ذات اليد، والفقير من وجد بعض كفايته، أو لم يجد شيئاً، والديْن والفقر همّهما عظيم يصيب العبد بسببهما الهم والحزن، وقد يوقعان الضرر في الدين والدنيا من ذل السؤال، والاحتياج إلى الخلق، والوقوع في المحذورات الشرعية من الكذب والإخلاف في الوعد، والتثاقل عن الطاعات، وغير ذلك الكثير من المذمومات([12]) .
([1]) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم 2713، عن أبي هريرة t.
([2]) فقه الأدعية : 4 / 75 .
([3]) سورة غافر، الآية: 57.
([4]) الطبري في التفسير، 5/ 399، برقم 5794، العظمة لأبي الشيخ، 2/ 587، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، 1/ 108، برقم 109،
([5]) سورة البقرة , الآية : 255 .
([6]) سورة الأنعام، الآية: 95.
([7]) فقه الأدعية، 4/75، وانظر: تفسير الرازي، 13/93، فله كلام نفيس جداً .
([8]) الفتوحات الربانية، 1/728 .
([9]) كما في رواية ابن ماجه: (والقرآن العظيم) 3831 .
([10]) سورة النور، الآية: 45.
([11]) انظر: مدارج السالكين، 1/31 ، والحق الواضح، ص 25 .
([12]) الفتوحات الربانية، 1/727 ، والعلم الهيب، ص 179 ، وفقه الأدعية، 4/74-78 .