علاقة معقدة هي علاقة المسلمين بالحضارة الغربية, بدأت بالتحدي ثم اهتزاز الثقة بالنفس ومحاولة تقليدها وانتهت بمحاولة الثورة عليها والبحث عن طريق جديد. فهل يمكن أن يجد المسلمون صيغة صحيحة كي يأخذوا أفضل ما في الحضارة الغربية وأن يستطيعوا النجاة من أزمتها الروحية?
كانت الانتصارات الحربية والسياسية التي حققها الإسلام في حقبه التاريخية الأولى, قد غرست في نفوس الشعوب الإسلامية شعوراً من الاطمئنان والرضا عن النفس, لم تر معهما حاجة إلى تقليد ما ابتدعه الغرب منذ بداية عصر نهضته من أسلحة وأدوات ونظم وأفكار, كوسيلة للتصدّي لهذا الغرب ذاته. وقد كانت ذكرى هذه الانتصارات الإسلامية هي أيضاً مما جعل الغرب يتردد طويلاً في شأن الانتقال من طور الدفاع إلى طور الهجوم, خشية أن تتكرر هزائمه في الحروب الصليبية المتتالية,غير أنه ما إن أحرز الغرب انتصاره الحاسم عام 1683م على الأتراك العثمانيين المهاجمين عند (فيينا), حتى بدأ يدرك حقيقة ضعف خصمه, ويتطلع إلى الهجوم المضاد. غير أن هذا الهجوم المضاد تأخر قرابة قرن من الزمان لعدة أسباب منها انشغال الدول الأوربية بتأسيس مستعمرات لها في كل من آسيا والعالم الجديد. فما حلّ عام 1768م حتى اشتعلت نيران الحرب الروسية التركية التي توالت خلال سنواتها الست الهزائم الساحقة على العثمانيين, وبحلول عام 1798 م كانت الحملة الفرنسية على مصر, ثم توالت بعد ذلك هجمات الأوربيين على العالم الإسلامي التي أسفرت عن وقوع جل أقطاره في براثن الاستعمار الغربي.


وقد أزعج المسلمين ما منوا به من هزائم على يد مخالفيهم في الدين. وكان أن بدأت ثقتهم بأنفسهم تهتز. بل إن اعتزازهم نفسه سرعان ما تأثر هو أيضاً لدى الكثيرين. وكان منهم من لم يفهم الهزيمة الحربية على معناها الدنيوي, وإنما عجب لما أصابه من مذلة والقرآن يقول: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}. ولما حلّ به من هزيمة والقرآن يقول: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين}... ومع ذلك فإنه مما يسر لغالبية المسلمين بعد ذلك الإذعان لمختلف مظاهر الحضارة الغربية أمران, الأول: اتخاذ الحضارة الغربية لنفسها إطاراً دنيوياً بحتاً, وإغفال المستعمرين اعتبار الدين بحيث لم يبدُ الأمر في صورة استعباد أهل ملة معينة لأهل ملّة أخرى, والثاني: تصديق الغالبية في الأقطار المفتوحة لادّعاء الغرب أن حضارته إنما هي حضارة كاملة دائمة, وأن الصورة الدنيوية لها هي الصورة النهائية الناضجة للحضارة بوجه عام, وهي صورة لا يمكن أن يعتورها تدهور أو يصيبها فساد, بل ومن المحتم أن تقود الإنسانية إلى الطريق نحو الوحدة الاجتماعية.


وقد أحدث اتصال العرب الوثيق بالمدنية الغربية, وغزو هذه المدنية لبلادهم, أثراً عميقاً في طبقة المسلمين المستنيرين, وفي علاقة أفرادها بما توارثته من نظريات وتقاليد دينية, إذ شعروا بحاجة شديدة ملحّة إلى التقريب والملاءمة بين هذه النظريات والتقاليد وبين الأحوال الجديدة التي وجدوا أنفسهم فجأة في ظلها. وقد كان من المؤسف حقاً أن تجيء جهود هؤلاء الساعية إلى التوفيق بين الحياة والفكر الإسلاميين وبين مطالب الحضارة الغربية في الوقت الذي تزعزعت فيه ثقتهم بتراثهم, ونظروا إلى المستعمرين نظرتهم إلى أنصاف الآلهة. فلم يكن من الغريب إذن أن تغلب على محاولتهم نزعة عقلية هي نزعة أوربية محضة, وأن يتبنّوا قيما كلها أو جلها من قيم الغربيين المستعمرين. فإن كان هؤلاء المفكرون قد انبروا للدفاع عن الإسلام والإشادة به لصدّ الحملات التي شنّها المسيحيون للطعن فيه حتى لا يقف حائلاً دون غزو مدينتهم (وبضائعهم) فإنما تركز دفاعهم على إزالة وصمة مناقضة تعاليمه للحضارة, وإثبات مرونة الأحكام والأوضاع الإسلامية, وسهولة تشكّلها حتى تطابق حاجات الجنس البشري في كل زمان ومكان.. وقد اكتشف هؤلاء شبهاً قوياً بين الإسلام (الحق) وقيم السلف الصالح, وبين القيم الغربية الحديثة. وكان أذكاهم من دعا إلى التفرقة بين معالم الإسلام الأصلية وبين الزيادات التاريخية التي أضيفت إليه عن طريق الإجماع, والتي يسهل التضحية بها في سبيل حاجات المدنية, ومقتضيات العمران, وذهب إلى أنه لا يقف بين المسلمين وبين النهضة غير حوائل زائفة في إمكانهم إزالتها بإصلاح نظام التعليم, وتطهير الإسلام مما علق به من شوائب عبر القرون, وإعادة صياغة العقيدة الدينية في ضوء الفكر الحديث, والعناية بدراسة العلوم الحديثة وتاريخ أوربا للتوصل إلى معرفة سرّ تقدمها.


فإن كان الطابع الدنيوي للحضارة الغربية ردّ فعل لأهوال الخلافات الدينية في العصور الوسطى, فقد كان من المحتم أن تحدث في الغرب, إن عاجلاً أو آجلاً, حركة مضادة لهذا الطابع. وقد بدأت هذه الحركة المضادة في التبلور في الخفاء في الوقت الذي كان سائر العالم - ومنه الأقطار العربية - ينهل فيه من الحضارة الغربية نهلاً, ويتخلى عن تراثه الثقافي وعن تقاليده ودينه. وكانت المأساة المضحكة أنه في اللحظة التي تم فيها تبني الشعوب غير الغربية لحضارة الغرب الدنيوية, وجدت هذه الشعوب نفسها قد وقعت في شباك أزمة الغرب الروحية التي انتابته فجأة في القرن العشرين, والتي كان لها صداها في مختلف بقاع العالم. فمنذ نشوب الحرب العالمية الأولى, بدأ الغربيون أنفسهم يدركون أن حضارتهم الدنيوية الحديثة ليست بالكاملة على الإطلاق كما خالوها في البداية, وأنها أبعد ما تكون عن الحصانة ضد الانهيار وضد عنيف الأزمات. وقد كان الأمر في الواقع مؤسفا بالنسبة للشعوب غير الغربية أكثر منه بالنسبة لشعوب الغرب. فقد وجدت الأولى نفسها معلّقة بين تراث ودين وتقاليد قد هجرتها وفقدت ثقتها فيها, وحضارة غربية لم تملك بعد ناصيتها, ولم تكد تبلغ يدها الثمرة حتى بدت تلك الثمرة معيبة فاسدة. وكان أن نتج عن هذا شعور حاد بالمرارة تجاه الغرب, وحدوث انفصام في المجتمع وفي نفوس الأفراد لمّا يلتئم.
وقد علمنا التاريخ أنه في المجتمعات التي تمر بهزات عنيفة, أو تطورات ضخمة متلاحقة, كثيراً ما تظهر جماعات دينية انعزالية تميل إلى أن تغلق الأبواب على نفسها في عالم خاص بها, وتقلل إلى أقصى حد ممكن من صلاتها وعلاقتها ببقية العالم. وقد ظهرت مثل هذه الجماعات بين كل من اليهود والمسيحيين والمسلمين. وربما بين غيرهم من أتباع الديانات الأخرى. فمن بين أبرز الأمثلة التاريخية على رفض التكيف وفق الأحوال الجديدة, موقف الفريسيين اليهود من غير اليهود, إذ وضعوا القواعد المفصّلة الصارمة التي تكفل تجنّب كل صلة بمن هو ليس يهوديا وذلك حين كانت الهيلينية تهدد بابتلاع الديانة اليهودية واستئصالها من الوجود. كذلك ظهرت في بقاع كثيرة من العالم المسيحي, خاصة منذ منتصف القرن التاسع عشر, جماعات (أشهرها جماعة شهود يهوه), أفرادها من المسيحيين الأتقياء الذين وجدوا من الصعب أن يوفّقوا بين الاكتشافات الحديثة في علوم الفلك والطبيعة والكيمياء والنظريات المتعلقة بتاريخ الأرض وظهور الحياة فيها, وبين مفهومهم التقليدي عن الكتاب المقدس. وكان أن وجهوا همهم الأكبر إلى تجنب الاتصال بالتيارات العلمية والفكرية التي سادت مجتمعهم, ورأوا أنه لا بد من أجل حماية عقيدتهم من عزلة صارمة وسط مجتمع لا بد أن تؤدي به ثقافته وأنماط عيشه إلى الكفر. وكانت النتيجة أن قبلت هذه الجماعات وضع الأقليات في مجتمع أفراده على دينها نفسه في الظاهر على الأقل.


فالمحافظون الرافضون لكل تجديد ولكل مساس بالأفكار والمعتقدات الموروثة, قد فقدوا صلتهم بالعصر واحتياجاته, ولم تعد حججهم بالقادرة على إقناع المثقفين, وهي التي يصوغونها دوما في قوالب فكرية شكلية تستند استناداً كاملاً إلى أقوال السلف, مما لا يمكن أن يتجاوب المحدثون معه. بل إنه حتى اللغة التي يستخدمونها توحي على الفور بخلو جعبتهم من رسالة لعصرنا الذي نعيش فيه. ففكرهم تستغرقه التكاليف الشرعية. وما من أحد منهم حاول أن يوجه الإسلام في قنوات خلاقة, ولكنهم قيدوه بنظرة رومانسية درامية لتاريخه, أساسها انتقاء تحكمي للمادة واستبعاد لكل ما ينقض الصورة التي يفضّلون أن تكون الأحداث في الماضي قد تمت عليها. وهم بهذا أغلقوا الباب في وجه أهم عامل كان بوسعه أن يحفظ على الفكر الإسلامي مرونته, ويحول دون تعفّن العقائد ألا وهو المنهج التاريخي العلمي الذي ابتدعه الغرب, والنظرة التاريخية إلى الأمور.

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 313 مشاهدة
نشرت فى 25 أغسطس 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

368,700