ما أبدعته المقاومة اللبنانية في الجنوب يشبه الرؤيا الشعرية، وان كان حقيقة واقعية ملموسة شديدة الأثر والتأثير. انها مفصل تاريخي بليغ بكل معاني العبارة ودلالاتها. وهذا المفصل البطولي المشهود، لأول مرة في تاريخ العرب الحديث، يجعلني أضع يدي علي قلبي المعطوب مخافة ان تودي بكل منجزاته الرائعة تلك الخلافات العصابية الدائرة، بدءا من الساحة اللبنانية وليس انتهاء بالعواصم العربية الخانعة... وانما تمتد ظلال الغيوم والتحركات المريبة من زوايا الذل والبغاء (المستورة) في قصور تلك العواصم حتي بيت الأفاعي في واشنطن. 

ذلك الصمود المظفر، الذي واجه به رجال المقاومة ومجاهدوها وشهداؤها قوات العدوان الصهيوني، جعل العرب جميعا يقفون وراء ضفتين متباعدتين لا جسور بينهما: جماهير الشعب المساندة للمقاومة والمتطلعة الي مواصلة النهج ذاته في معارك التحرر الوطني تقف في ضفة... وعلي امتداد الضفة الأخري تقف الطبقة المهيمنة علي مقدرات الوطن الكبير وثرواته، وهي تستمتع بامتيازات الخنوع أمام قوي الفتك والنهب والعدوان. وهؤلاء المتواطئون، بعد ان فاجأتهم الجماهير بمواقف الغضب والاستنكار، يحاولون توضيب الأقنعة لستر مخازيهم وركوب الموجة الصاعدة، 

ليصح فيهم قول المتنبي:
واذا ما خلا الجبان بأرضٍ
طلب الطعنَ وحده والنزالا

لكن الأمر المحير والمغيظ الي حد الريبة والاستغراب ان نفرا من المثقفين، وكنا نحسبهم في صفوف اليسار التحرري (العروبي الإسلامي الاشتراكي والعلماني، وربما الديمقراطي.. الي آخر السلسلة الذهبية المعروفة) هذا النفر العجيب يوشك ان يعلن موقفه صراحة بأنه مع العدو الصهيوني نكاية بحزب الله وحماس وكل تحرك عربي يتزيا بلبوس الدين، ولو كان من الضحايا والشهداء!
أهذه ظاهرة صحية تبشر بصحوة جديدة شفافة وبلا أقنعة، علي مستوي الأمة، أم هي حالة مرضية مزمنة ستودي بنا الي التردي في مهاوي التناحر والوبال؟!


لم تكن المعارك العربية- العربية يوما في صالح الأمة وبناء مستقبلها المرتجي. لكن خمسة عقود أو ستة مرت ونحن ضحايا أكذوبة فظيعة اسمها الاستقلال، في حين كان ساداتنا وأولو أمرنا أتباعا وخدما صغارا في قلاع الشرق والغرب، وان اختلفت الأدوار والمهام والنسب والدرجات. حكومات ما سمي زورا وبهتانا استقلال ، علي تعددها، لم تستطع انجاز حلم التحرر الوطني البعيد المنال، بل بقينا ندور كبغال المعصرة وأعيننا معصوبة وأيدينا مشلولة وارادتنا مستلبة ومرهونة وراء البحار.


ما أنجزته المقاومة الاسلامية في جنوب لبنان، ومن ورائها الحاضنة الشعبية الكبري، كان بشارة الاستقلال الحقيقي، ولقد طرحت سؤالا جارحا علي جميع الأنظمة العربية، في مشرق الوطن ومغربه: هل أوطاننا مستقلة فعلا؟ أم كان الاستقلال أكذوبة مزمنة؟! وأن بلادنا ما زالت طوال هذه السنين مرهونة للقوي الاستعمارية، من الابرة وحبة الدواء حتي القلم والدفتر والهاتف ومحطات البث، ومن خلجة الوجدان الشعرية حتي ارادة الأمة العليا؟! وهل كان رحيل الجيوش الأجنبية عن أرضنا أكثر من مناسبة احتفالية لتغيير أشكال الأقنعة وجنسيات الأحصنة؟! .


وقبل شهور صفعني أحد المناضلين بقوله: التعامل مع اسرائيل أرقي وأفضل من التعاون مع جماعة حماس وأمثالها ! وكانت حكمته الرشيدة تقول: عدونا حضاري وأغلبية سكانه ينتمون الي المستقبل، في حين ان الحركات الدينية، سواء كانت اسلامية أو غير اسلامية، هي ظواهر مرضية بلا أفق ولا مستقبل لها !
ومع أني لست من المتحمسين ولا المعجبين بأولئك السادة الذين افتتحوا دكاكين سياسية في أسواق الدين الحنيف واتخذوا منه بضاعة للتجارة وسلَّما للوصول الي كراسي الحكم، لكني أشعر وأري ان 
الديمقراطية الأمريكية، سواء جاءتنا علي الطريقة العراقية أو علي الطريقة الليبية، تجعل زؤان البلد ـ كما يقول المثل الشعبي ـ أطيب وأفضل وأسلم من الحنطة المجلوبة من مزرعة مستر بوش والمنقوعة بألوان من السموم المعسولة... 


تري، بأي حق وبأي منطق وبأي ميزان للعدالة.. بل بأي هوان وطني وانحطاط أخلاقي، ينبغي علينا ان نستسلم بمذلة وخنوع لسعار أقطاب الرأسمالية المتوحشة حتي نحارب أبناء شعبنا في توجهاتهم وحركاتهم الاسلامية المتنامية التي ألصقت بها أمريكا والغرب وعصابتهم في الكيان الصهيوني صفة الارهاب و الفاشية ؟! 


لبنان البلد المحدود بمساحته، الكبير العظيم بشعبه الحر ومؤسساته الديمقراطية وانجازات مقاومته الاستثنائية، ليس موضوعا للفرجة ولا هو بحاجة الي التمجيد بقصائد المديح. انما علينا ان نتخذ من تجربة المقاومة المظفرة فيه دروسا لا تنسي للمستقبل وبناء مناعة الأمة والالتزام بنهج الكفاح الاستشهادي في كل بلد عربي آخر. 

ولكن السؤال الطافح بالمرارة: أين المشروع الفكري المستنير، علي مستوي الأمة، الذي يستأنس بدروس المقاومة ويقتدي بها؟ ومتي ندرك قيمة الحرية وأهمية سيادة القانون؟ وكيف نتخلص من حمي النزعة الاستهلاكية الخانقة؟ ومن يقوي علي تعليق الأجراس في أعناق القطط السمان المتورمة بعد ان تحولت الي ذئاب ضارية؟!


أسئلة كثيرة وهواجس شتي لا تخلو من مخاوف أشبه ما تكون بالكوابيس... انما أقساها وأشدها مرارة يدور حول ما أنجزته المقاومة اللبنانية. هل نسعي جاهدين، ومن ورائنا قوي شيطانية غاشمة، الي احباط الأمل المشرق وتخريب ذلك الانجاز التاريخي العظيم وتبديده بكل نذالة واستهتار؟! أين تربية المقاومة.. واعلام المقاومة.. واقتصاد المقاومة.. وثقافة المقاومة.. وفكر المقاومة؟


اذا كانت لا تعنينا دروس المقاومة الاستشهادية المذهلة في فلسطين ولبنان وبعض مدن العراق، بعيدا عن أسلوب الموساد في تقطيع الرؤوس وتفجير المساجد والأسواق... واذا كانت السنون الخمسون الماضية غير كافية لتحقيق الاستقلال الجدي وانجاز مهام التحرر الوطني كاملة، فمتي نصحو ونستكمل وعينا ونسترد ارادتنا المستلبة وحريتنا المغدورة وكرامتنا الجريحة؟






  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 232 مشاهدة
نشرت فى 25 أغسطس 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

357,259