والإعلام فى أى بلد يفترض أنه كاشف للحقيقة وموقظ للوعى ومحرض على التغيير نحو الأفضل والأجمل والأصلح , ولكن سلوك الفهلوة حين غزا الإعلام شوه هذه الصورة، حين سوق لخطاب إعلامى مزدوج ومزيف يصنع نجوما وقيادات من ورق ويسوقها للجماهير المخدوعة بالبريق الإعلامى والإلحاح المتكرر , وبهذا يصبح الإعلام أداة ترويج وتدعيم لوباء الفهلوة , بل إنه يعطى لسلوك الفهلوة شرعية واحتراما على أنه سلوك مقبول وأنه ينم عن ذكاء وحسن تصرف , وتقدير للأمور , ومراعاة للظروف . والإعلام المزيف يعطى للناس دروسا عملية ومهارات فى لبس الأقنعة والتزييف , وتصبح الأصوات الصادقة والأصيلة والأمينة نشازا فى هذا الوجه أو يصبح صوتها خافتا ضعيفا وسط جوقة التهليل والتزييف،،

 

وقد رأى المفكر الاجتماعي  الفرنسى " جاك بيرك  " أن الفهلوة هى السلوك المميز للشخصية المصرية , وهو يرى " أن هذا السلوك مكن مصر من ألا تضيع أبدا لكنه جعلها تخسر كثيرا "

...

عرض الرأي والرأي الآخر أكثر فاعلية على المدى الطويل من عرض جانب واحد في الأحوال التالية: عندما يتعرض الجمهور الإعلامي بغض النظر عن الرأي الأصلي لهذا الجمهور للدعاية المضادة بعد تعرضه للمادة الإعلامية التي تضمنت الرأي والرأي الآخر؛ وعندما لا يتفق رأي الجمهور الإعلامي أصلاً مع وجهة نظر القائم بالاتصال، بغض النظر عن تعرضه للدعاية المضادة بعد ذلك.

2- تقديم الرأي والرأي الآخر أقل فاعلية من تقديم رأياً واحداً، إذا كان الجمهور الإعلامي يتفق أصلاً مع موقف القائم بالاتصال ولا يتعرض بعد ذلك للدعاية المضادة. 

وتصل الفهلوة إلى بعض الدعاة والأدعياء حيث يميلون إما إلى تملق السلطة ( بالفتاوى الميسرة والمبررة للإستبداد والفساد ) أو تملق الجماهير ( بالروشنة الدعوية والمظهر النجومى وفتاوى التيك أواى وتسطيح الدين بما يتناسب مع ذوق مشاهد الفضائيات الذى لايحتمل ذوقه إلا نوع من التدين الخفيف الممزوج بالمتبلات والمسبوق بالسلطات والمخللات).

 .

 

هكذا نماذج عديدة فى كل مستويات المجتمع من أعلاه إلى أدناه , حتى كادت تكون شخصية الفهلوى وشخصية الهبّاش هى القاعدة , وأصبحت النماذج الشريفة المخلصة ( وهى موجودة فعلا ) تشكل استثناءات تدعو للعجب , فمثلا حين يرفض أحد ضباط حرس الحدود رشوة , يكرمه الوزير لأمانته , وكأن القاعدة المتوقعة أن يقبل الرشوة , وأنه حين رفضها قام بعمل استثنائى ,

كان نجيب محفوظ شغوفا بسيرة الفتوات فى رواياته ,  وربما كان ذلك محاولة ذكية منه لإظهار علاقة المصريين بالسلطة ( دون مشكلات ) والتى تشبه تماما علاقة أهل الحاره بالفتوة , فهم يكرهونه ويرفضونه ,  ومع ذلك يداهنونه وينافقونه ويرتعدون خوفا فى وجوده , ويشكرونه على أنه سمح لهم بالعيش فى الحارة تحت حمايته , فإذا خلوا إلى أنفسهم سخروا منه وصبوا عليه الدعوات واللعنات . ولكن ربما فى مرحلة من المراحل يدخلون فى حالة التوحد مع المعتدى , فيرونه محقا فيما يفعل , وربما يضفون عليه هالات قداسة فينسبونه إلى الأشراف أو يدّعون اتصاله بنسل النبى صلى الله عليه وسلم , وهذا يريحهم ويرفع عنهم مسئولية مواجهته .

 

ولم يكن الفتوة يسقط بإرادة جماعية من أهل الحارة , وإنما يسقط بظهور فتوة آخر ينازعه السلطة ويبارزه بالنبوت فيهزمه , ويبايع أهل الحارة الفتوة الجديد ويصبون اللعنات على القديم , ويعود إليهم وعيهم بظلمه ومساوئه , ثم يبدأون رحلة استذلال وتملق جديدة مع الفتوة الجديد ويضفون عليه من صفات القوة والعظمة ما يجعل ذاته تتضخم إلى أن يقول بلسان الحال أو المقال : " أنا ربكم الأعلى " ..... " ما أريكم إلا ما أرى " .... " لا أعلم لكم من إله غيرى" . ويبدو أن هذا سلوكا نمطيا فى حياة المصريين لأنه يتكرر فى كل مراحل تاريخهم تقريبا , وهذه العلاقة المتكررة بين الفتوة ( السيد – المقدس ) وأهل الحارة ( العبيد – الرعايا) تعمل على تشويه الطرفين ,  فهى من ناحية تنفخ فى ذات الفتوة فيتضخم ويتجاوز كل الحدود فى الإستبداد والسيطرة فيصل إلى حالة التأله و ومن ناحية أخرى تؤدى هذه العلاقة إلى سحق ذات أهل الحارة وشحنهم بالمزيد من أخلاق العبيد , ويبدو أن هذا هو لب مشكلة الشخصية المصرية , فالمصرى  يدرك أنه كشخص يمتلك طاقات عقلية وابتكارية عالية , ولكنه مع هذا يفتقد الإحساس بالمواطنة والسيادة والكرامة ,  فيبدأ فى تسخير ملكاته لخدمة السيد المقدس فيتحول إلى " فهلوى "  يلبى طلبات السيد ويحاول إرضاءه وإسعاده , وفى نفس الوقت يداهنه ويجاريه وربما يخدعه لكى يتجنب غضبه وقسوته , وهذه النقطة هى بداية مولد الشخصية البهلوانية أو شخصية الفهلوى , واستمرار هذه العلاقة يغذى صفات الفهلوة لدى الشخصية المصرية , تلك الصفات التى يستفيد منها الفتوة ( السيد )  ويحتقر صاحبها فى ذات الوقت , ويمجدها أحيانا بقوله : " إن المصريين هم أفضل الشعوب , وأنهم أصحاب حضارة سبعة آلاف سنة " , وهذا يفعله المستبد لكى يخدع المصرى بالتغنى بالماضى وبالحضارة وبالريادة حتى ينشغل بما كان عما يجب أن يكون  . وهكذا يستمر الأمر ويسوء فيصدق المصرى الفهلوى هذه الدعاية فيزداد فهلوة ويتفنن أكثر فى الألعاب البهلوانية , ويهتم بالشكل دون الجوهر , المهم أن يرضى سيده ( على الأقل فى الظاهر ) , فهو يشعر أنه مجبر على إرضائه وإمتاعه ومؤانسته إن أمكن , وهو كأى مستعبد لا ينتظر سوى نظرة رضا أو كلمة استحسان من السيد . 

فتظهر اساليب الاتصال التي تجهد الجماهير و تنقل عدوى النموذج الدي يفدمه الاتصال الجماهيري ( الإعلام) إلى كل مستويات الاتصال، فنجد انعكاس ذلك على الاتصال المباشر بين الناس و الاتصال الجمعي و الاتصال الوسطى حتى نصل لتكرار عمليات الاتصال الجماهيري التي تعيد انتاج النموذج ذاته، ثم يدفع الجميع الثمن، 

فنجد الاضطراب في كل عمليات الاتصال، بين الإنسان و ذاته، و داخل الاسرة، و داخل بيئة العمل، و نجده على منصات التواصل الاجتماعي التي خلطت العام بالخاص و بدأنا نعاني من أعراض اضطراب عمليات الاتصال communication disorder, فلا نجد  علاقات سوية، و لا نصل إلى إنتاج يربط الصالح العام بالصالح الخاص 

. ينبغي أن يقدم الاعلام الجماهيري نموذجا و حلولا " ,  بالرغم من أن كثيرا من الحلول تكون قد طرحت فى ثنايا المحاضرات أو المناقشات , ولكن المتلقى السلبى لا يكلف نفسه،، و الاعلام الجماهيري لا يبنكر طرقا ليصل اليه. 

المصدر: د،نادية النشار
DrNadiaElnashar

المحتوى العربي على الانترنت مسئوليتنا جميعاً د/ نادية النشار

د.نادية النشار

DrNadiaElnashar
مذيعة و كاتبة ،دكتوراة في علوم الاتصال و الاعلام والتنمية .استاذ الاعلام و علوم الاتصال ، مستويات الاتصال و أهدافه، الوعي بالاتصال، انتاج محتوى الراديو والكتابة الاعلامية ، والكتابة، و الكتابة لوسائل الاعلام الالكترونية ، متخصصة في علوم الاتصال و الاعلام و التنمية، وتدريبات التطوير وتنمية المهارات الذاتية والاعلامية، انتاج »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

644,016